يوم ظهر الطفل المصري محمود وائل على شاشات التلفزيون قبل نحو أربعة أعوام - وكان حينئذ في الثامنة من عمره - تمنى الملايين من آباء وأمهات مصر أن يكون أبناؤهم مثله. فقد تم تصنيفه"الطفل الأذكى في العالم"بحسب موسوعة غينيس للأرقام القياسية. أثبت الصغير نبوغاً في مجال الرياضيات، إذ كان يقوم بعمليات حسابية بالغة الطول والتعقيد من دون ورقة أو قلم. وفي الوقت الذي كان متوسط ذكاء أقرانه بين 110 و120، بلغ متوسط ذكاء العبقري الصغير الملقب ب"عبقرينو"150. لكن عبقرية محمود وائل بالغة الندرة، وندرتها ليست في العبقرية نفسها، لكن في اكتشافها وتهيئة البيئة المناسبة لها، أو على الأقل تقليص البيئة الطاردة لها. علماء فيزيولوجيا الجهاز العصبي في جامعة"بيردي"الأميركية أشاروا في دراسة قبل أعوام إلى أن اثنين إلى خمسة في المئة من الأطفال فقط في العالم يتمتعون بمستوى ذكاء بالغ يضعهم في مصاف العباقرة، وأن هؤلاء الأطفال يتمتعون بقدرات مختلفة، ولكن أغلبهم ينمّون قدراتهم بأنفسهم منذ مرحلة مبكرة جداً من العمر، ويبتكرون حلولاً غير تقليدية لمشكلات ومواقف بالغة التعقيد، ويظهرون قدرة فائقة على التركيز العميق في مجال أو أكثر لدرجة تجعلهم أحياناً ينفصلون تماماً عمّا يدور من حولهم. وأكد العلماء أن المرحلة النهائية في تطور أولئك العباقرة الصغار تكون بقدرتهم الفائقة على التحرك خارج إطار العالم الملموس المادي إلى عالم مجرد غير مادي حيث يتعاملون مع أفكار مجردة من دون أدنى صعوبة. وإذا كان علماء العالم المتقدم يعانون من قلة المعلومات والأبحاث حول مفهوم العبقرية وعوامل وجودها في طفل دون آخر، فإن هذا الجزء من العالم ? على رغم الشحّ المعلوماتي- يبذل الكثير من أجل اكتشاف ما لديه من عبقريات صغيرة، من اختصاصيين يرعون هذه المواهب، إلى معلمين قادرين على اكتشافها، إلى مراكز تساعد الأهل في استشفاف عبقرية أبنائهم وطرق التعامل معها، وبالطبع في الوسيلة المثلى لاستثمار هذه المواهب من دون الجور على طفولة الصغار وبراءتهم أو سلبهم مميزات هذه المرحلة المبكرة من عمرهم. ويبدو حديث العبقرية والبيئة المناسبة لها ضرباً من الخيال في مصر، لا سيما في ظل الأجواء السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتعليمية الحالية التي يعيشها المصريون. وبعيداً من أخبار السياسة هناك أخبار أخرى لا تلتفت إليها الغالبية المنشغلة بالسياسة. فالطفل المصري الذي يحلم بالعبقرية ومؤهل لها يعاني الأمرين. فقد كشفت ندوة في معهد الدراسات العليا للطفولة في جامعة عين شمس، قبل أيام، عن"قنبلة عنيفة"لكنها مكتومة الصوت، وجاء في الندوة أن الطفل المصري يقضي متوسط 18 ساعة يومياً في الدراسة، بين حصص المدرسة، ثم الدروس الخصوصية بأشكالها، ويكون ختام اليوم بالسهر من أجل حلّ واجبات المدرسة والدرس الخصوصي. وإذا كانت الساعات ال18 تجعل البعض يعتقد أن المدارس المصرية تخرج نماذج مستنسخة من"أينشتاين"و"مدام كوري"فإن العكس هو الصحيح، إذ أن هذه الساعات الطويلة لا ينتج منها سوى إرهاق جسدي وعصبي يقلل من قدرة الطالب على التركيز والإبداع. وإذا أضفنا إلى ذلك نظام التعليم الذي يعتمد اعتماداً شبه كامل على التلقين والحفظ، ويعتبر التفكير النقدي من الموبقات، والأسئلة خارج الكتاب المدرسي من المحظورات، تكون المحصلة طلاباً بعيدين كل البعد عن العبقرية. ولدى تقصي سبل المساعدة التي قد يلجأ إليها الأهل في حال اكتشافهم أن طفلهم لديه ميول أو قدرات متميزة، يتبين أن سبل المساعدة المتاحة يطغى عليها العامل التجاري. ثمة كم مذهل من إعلانات عن"رياض أطفال"تتخذ لنفسها اسم"الطفل العبقري"، أو"مدرسة سمارت كيدز الدولية"الأطفال الأذكياء، أو برامج تروج لنفسها على اعتبار أنها الوحيدة القادرة على رفع مستويات الذكاء لدى الأطفال، وتحفيز النبوغ لدى مَن يتمتعون بقدرات أعلى من المتوسطة، وذلك في مقابل مبالغ مادية باهظة. ويشير أستاذ الطب النفسي الدكتور أحمد عكاشة إلى أن"الذكاء يولد مع الطفل، لكن البيئة المحيطة به تلعب دوراً كبيراً في تهيئة هذا الذكاء الفكري وتنميته واكتشافه". ويلفت إلى أن أستاذ علم النفس المصري الجليل الدكتور مصطفى سويف كان يضيف عشر نقاط فوق معدل الذكاء أثناء قياس المعدل لدى مواطنين مصريين، نظراً لصعوبة الأحوال التي تجعلهم يستحقون لفتة إضافية! وإذا كان المواطن العادي يحتاج مكافأة إضافية لدى قياس متوسط الذكاء لديه، فإن الطفل المصري يحتاج إلى إضافة مئة نقطة على سبيل الإثابة إذ أنه محاط بثالوث التعليم الحجري، والبيئة الطاردة للإبداع، بالإضافة إلى تدني محتوى الغذاء لدرجة جعلت معدلات الأنيميا أو معدلات فقر الدم الناجم عن نقص الحديد تبلغ نحو 51 في المئة لدى شريحة الأطفال حتى سن 18 سنة، بحسب دراسة المعهد القومي للتغذية عام 2011، وعلى رغم ذلك ما زال يثبت أنه قادر على أن يكون عبقرياً بين الحين والآخر.