ليس جديداً القول أن الصحة الجيدة تجعل الهزيع الأخير من العمر، مفعماً بالحياة، بدل أن يكون محطة للعجز والإحباط. وقبل أسابيع، احتفلت"مُنظمة الصحة العالمية"بيومها العالمي، رافعة شعار:"الصحة الجيدة تضيف حياة إلى السنين". يأتي ذلك ضمن مقاربة علمية شاملة لدورة حياة الإنسان منذ ولادته وحتى آخر العمر، إذ لا يكفي إدراك أهمية المعايير الصحية الصحيحة من دون ممارستها فعلياً. وعند التفكير في تلبية حاجات المجتمعات المحلية، يجدر التفكير في المتغيرات الديموغرافية العميقة التي تؤثر فيها، خصوصاً في ظل عالم يتقدَم عدد كبير من سكانه في العمر، بل يمثل كبار السن عشرة في المئة من السكان. وبقول آخر، هناك قرابة ثمانمئة مليون إنسان ينطبق عليهم وصف التقدم في السن. وفي غضون عقود قليلة، سترتفع هذه النسبة إلى اثنين وعشرين في المئة بما يمثل قرابة بليوني إنسان. العرب ليسوا استثناءً في إقليم شرق المتوسط الذي يضم معظم الدول العربية، يتوقع أن تتزايد أعداد الأشخاص المسنين، فتصل نسبتهم إلى قرابة 8.7 في المئة من السكان، في عام 2025، و15 في المئة في 2050. ومع تزايد المسنين، تندفع حاجاتهم ومتطلباتهم، صحياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، إلى الواجهة. إذ تعني هذه الزيادة، دخول مزيد من الأشخاص إلى السن التي ترتفع فيها أخطار الإصابة بأمراض مزمنة وموهنة. كما تلقي شيخوخة السكان، بتحديات كبيرة على كاهل الصحة العمومية، وطنياً وإقليمياً. وبصورة عامة، ارتفع متوسط العمر المأمول على مدى العقود الخمسة الماضية عالمياً، بقرابة 20 سنة، ومن المتوقع أن يصل إلى 72,7 سنة بين عامي 2025 و2030، وإلى 76.6 سنة في عام 2050. والآنً، يبلغ متوسط العمر المأمول، قرابة ال70 سنة في كثير من بلدان الإقليم، بل يصل في بعضها كلبنان إلى 81,1 سنة، لكنه ما زال دون ال60 سنة في أفغانستان وجيبوتي والصومال والسودان. وبقدر ما يمثل ارتفاع معدل العمر المأمول ظاهرة إيجابية، فإنه يفرض تحديات جمة. إن كل مرحلة عمرية بدءاً بالولادة، هي تقدم في السن نحتفي به سنوياً، وينبغي أن يستمر الاحتفاء به صحة ونشاطاً، لا مرضاً وعجزاً. ومنذ الولادة، تبدأ دورة حياتية تتصل برصيد الصحة، فإما تنميه وتدفع به نحو حياة تتسم بالمعافاة، وإما تسير الأمور في اتجاه التدهور واستنزاف الصحة والتردي في المرض. وفي هذا السياق، تأتي المسؤولية التشاركية بين الأفراد والمجتمعات، ودورها في ترسيخ أنماط حياة صحية، عبر تأكيد الممارسة السلوكية الفردية المبكرة لأنماط الحياة الصحية، بما فيها المأكل والمشرب والابتعاد عن العادات المؤثرة سلبياً في الصحة مثل تعاطي التبغ والكحول والمواد المخدرة، إضافة إلى تجنب الخمول عبر اعتماد نشاط بدني يومياً. وبناء على المؤشرات الصحية الحيوية، يتجه نمط العمر نحو التشيخ في معظم البلدان، وضمنها كثير من دول شرق المتوسط، ما يمثل عبئاً مرضياً كبيراً. إذ يؤدي غياب تطبيق معايير السلوك الصحي السليم، دوراً في ارتفاع معدلات المرض والعجز بسبب الأمراض غير السارية، مثل أمراض القلب والسكري والسرطان والسكتة الدماغية وأمراض الرئة المزمنة. ويتوقع أن تزيد معاناة هذه الأمراض عالمياً خلال العقد المقبل. يضاف إلى هذا، حقيقة أن خمسة وستين في المئة ممن يعانون مشكلات في الإبصار هم ممن تجاوزوا الخمسين من العمر، وهي الفئة التي تمثل خُمس السكان عالمياً. وإذا أخذت في الاعتبار ظاهرة الإصابة المبكرة بأمراض غير سارية، وتزايد العجز قبل عمر الأربعين، وهو النمط الذي يتزايد حاضراً، يمكن استنتاج حجم العبء الذي ستتحمله الدول عبر من هم في عمر الشيخوخة، خصوصاً أن كثيراً من الناس باتوا يشيخون قبل الأوان بسبب عادات سلوكية ضارة وأمراض مزمنة يمكن الوقاية منها. عمر بيولوجي وآخر وظيفي تدفع المعطيات السابقة إلى ضرورة التمييز بين العمر البيولوجي Biological Age، الذي يحتسب بالسنوات الفعلية منذ الميلاد، و"العمر الوظيفي"Functional Age الذي يقاس بالقدرة الحيوية للإنسان. ويرسم هذا التمييز صورة عن جودة الحياة وكفاءة الأفراد. وفي الصورة السلبية، يعرقل تشيخ السكان جهود التنمية في مجتمعات يعاني أبناؤها من العجز المبكر والشيخوخة قبل أوانها. وبمعرفة أن ما يزيد على تسعة ملايين وفاة تحدث سنوياً ارتباطاً بأمراض غير سارية، يظهر حجم الخطر الذي يتهدد هذه المجتمعات، خصوصاً مع معرفة أن تسعين في المئة من هذه الوفيات تحدث في دول منخفضة أو متوسطة الدخل، مثل حال معظم دول إقليم شرق المتوسط. يضاف إلى هذا، أن ارتفاع معدلات أمراض الشيخوخة، وفي مقدمها ال"ألزهايمر"وباركنسون وخرف الشيخوخة، في ظل غياب وسائل الرعاية الكافية للمسنين في دول الإقليم، يفرض الإسراع في صوغ برامج لضمان الرعاية المطلوبة للمسنين. وتستلزم هذه البرامج تدريب كوادر الصحة وتأهيلها، وتوفير المرافق الصحية المجهزة بطريقة كفية، إضافة إلى تدريب فرق إسعافية تتخصص بالتعامل مع هذه الفئة العمرية ومتطلباتها. بالاستناد إلى هذه الوقائع، هناك حاجة واضحة لتضافر الجهود وتعاونها، في الاستجابة لمتطلبات شيخوخة السكان، إضافة إلى وجود حاجة لبذل جهود متنوعة من أجل تقديم رعاية متكاملة لهم تشمل المناحي الصحية والاقتصادية والاجتماعية، مع تعزيز الدعم أسرياً ومجتمعياً، للتخفيف من أعباء المرض والعجز. ولذا، تشجع"منظمة الصحة العالمية"على إتباع أنماط حياة صحية في مراحل الحياة جميعها، من أجل إنقاذ الأرواح، وحفظ الصحة، والحد من العجز، وتخفيف الألم أثناء الشيخوخة. وتلفت المنظمة الأنظار إلى أن البيئات الصديقة للمسنين تعمل على تعزيز صحتهم ومشاركتهم في الحياة العامة. وكذلك تعتبر أن الحصول على خدمات رعاية صحية أولية أساسية تستجيب لحاجات المسنين، وخدمات الرعاية الطويلة الأمد، والرعاية الملطفة، هي أمور ضرورية لهذه الفئة المهمة من السكان. كذلك تحث المنظمة على الاكتشاف المبكر للأمراض، فضلاً عن تبني تدابير الوقاية وخدمات الرعاية التي تؤدي إلى تحسين معافاة الأشخاص المسنين. وفي السياق عينه، تحذر المنظمة من أن تجاهل هذه الأمور يجعل من تشيخ السكان عنصراً في إبطاء وتيرة تحقيق أهداف التنمية اجتماعياً واقتصادياً وبشرياً. واستطراداً، يحدو المنظمة الأمل أن لا تقتصر جهود دول الإقليم على أغراض التوعية، وأن تمتد نشاطاتها لتشمل أعمالاً ملموسة، مع تحقيق تغيير إيجابي. وتدعو منظمة الصحة العالمية البلدان كافة، وأصحاب القرار في الحكومات في القطاعات المختلفة، ومنظمات المجتمع المدني، والقطاع الخاص والهيئات المانحة، إلى أخذ قضايا تشيخ السكان على محمل الجد في مخططاتها إستراتيجياً. وتحض أيضاً على بناء شراكات فعالة ومستدامة بين مختلف القطاعات، واعتماد مبادرات خلاقة كبرى مراعية للسن، مثل إنشاء مدن مراعية للسن، وتقوية قدرات رعاية المسنين، وتنسيق الخدمات الصحية الموجهة للشيوخ، وإعداد الموارد البشرية المؤهلة لتقديم الرعاية الصحية لمن يحتاجها من كبار السن. كما تلفت إلى الدور الذي تقدر الأسرة أن تؤديه. وتحض"منظمة الصحة العالمية"المعنين أيضاً على تطوير قواعد البيانات وتشجيع البحوث، وإنشاء مراكز متخصصة بقضايا التشيخ ورعاية المسنين، وتشجيع الفرق البحثية المتخصصة في قضايا المسنين والتواصل ما بين الأجيال. وفي السياق ذاته، تضع المنظمة تجربتها الثرية في وضع المعايير العلمية الصحيحة، وهي نتاج معرفة تراكمية عبر السنين، لافتة إلى أن المسنين تنضج تجاربهم أيضاً كلما تقدمت أعمارهم نضجت تجاربهم، مع يضفي بعداً آخر إلى المسؤولية في تأمين الحماية المجتمعية والرعاية الصحية لهم، لأن الصحة حق للجميع، كما أنها مسؤولية الجميع أيضاً. وتطلق"منظمة الصحة العالمية"نداء تحفيز إلى المجتمعات المختلفة في دول إقليم شرق المتوسط، للنظر إلى الشيوخ بعين التقدير والعرفان، لافتة إلى أنهم يمثلون موارد لها قيمتها وأهميتها، وداعية أيضاً إلى إيجاد طرق تكفل مشاركتهم الكاملة في الحياة العامة، في ظل مجتمعات تراعي الأعمار كلها. * المدير الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية في شرق المتوسط