أمرتني المرأة الجالسة في المكتب أن أذهب إلى غرفة الخزائن. كان عليَّ الانتظار في تلك الغرفة، فعبرت الباحة متجهاً صوب بابٍ عليه لوحة تحمل كلمة واحدة:"الخزائن". كان المكتب رمادياً يبعث كآبة في النفس. ومثله الباحة التي لم أرَ فيها إلا كومة من النفايات. وقطع القرميد المكسّرة في الزاوية مع كثير من عربات القمامة ذات العجلتين وكثير من حاويات القمامة. ولا شيء من الخُضرة إطلاقاً. بدت لي غرفة الخزائن أكثر كآبة حتى من تلك الباحة نفسها. جلست على مقعد قرب نافذة مطلة على الباحة الكئيبة... كنت ممسكاً بحقيبة جلدية صغيرة فيها ثلاث كعكاتٍ حلوة صغيرة مع كتاب ودفتر ملاحظات اعتدت أن أسجّل فيه كل ما يخطر لي ويتصل بما أكتبه. أنا الآن على وشك إنهاء مقالة عن كافكا. كان في غرفة الخزائن رجلان جالسان. أولهما طويل الجسم في بداية الشيب، وقد ذكّرني بالطبيب الاختصاصي الذي أجرى لي عملية اللوزتين منذ سنوات كثيرة. أما الآخر فكان قصيراً متين البنية غير واضح العمر. يرتدي بنطلوناً مهلهلاً شديد القذارة لا يكاد يصل إلى منتصف ساقه وله جيبان ضخمان مخيطان من الخارج يشبه الواحد منهما قراب مسدس رديء الصنعة. على رأسه قبعة قبطان بحري مدببة عليها مرساة ذهبية لامعة. من تحت تلك القبعة أطلت عينان بلون مياه الشواطئ الضحلة ترقبانني بفضول ظاهر. بدت لي هاتان العينان مألوفتين على نحو ما... بل هي نظرتهما التي بدت مألوفة لي! من الواضح أنه أدرك أنني جديد في هذا المكان لأنه نصحني بأن أضع بطاقة الهوية على الطاولة. فعلت كما قال لي. وعندما وضع هويته بدوره لاحظت أن يده اليمنى مقطوعة... كان خطاف أسود يبرز من كمه. بدأ زملائي في عملي الجديد يصلون تباعاً... إنهم الكناسون. جلس إلى جانبي شاب متين القامة غبي الملامح يختلج وجهه اختلاجاتٍ عصبية، وأخرج من الخزانة جزمة مطاطية قديمة قلبها من فوره فسالت من إحدى فردتيها كمية من سائل لعله ماء، ولعله غير ذلك! وسرعان ما راح هذا الشاب يزعق فينا جميعاً بلغة ما كنت قادراً على فهم كلمة واحدة منها. لا أعرف على وجه التحديد ما جعلني أختار هذه المهنة التي لا جاذبية فيها. أغلب الظن أنني توقعت منها إكسابي طريقة جديدة غير متوقعة في النظر إلى العالم. كثيراً ما يظن المرء أن عقله سيغدو خاملاً إن هو لم يستطع النظر إلى العالم والناس من زاوية جديدة. بينما أنتظر ما سيحدث بعد ذلك جاءني مشهد قديم عمره 15 عاماً. كان ذلك قُبيل عودتي من إقامتي في أميركا، عندما أقام عميد الكلية وليمة عشاء على شرفي. كان الرجل أستاذاً في الرياضيات، وثرياً أيضاً. عنده إسطبل فيه خيول وبيت على هيئة كوخ من أكواخ الصيد. لم ألقه إلا مرة واحدة قبل ذلك. وما كانت عندي رغبة حقيقية في الذهاب إلى ذلك العشاء: إن وجودي ضمن حشد من الأشخاص الغرباء يخلق عندي مقداراً من الاكتئاب. لكن، كيف لي أن أعرف أياً منهم معرفة حقيقية وفترة تدريسي في تلك الجامعة لم تتجاوز ستة أشهر؟ والواقع أنهم كانوا لطيفين معي، كلهم... مبتسمين جميعاً كما هم الأميركيون دائماً. وقد سألوني كلهم، بدرجات متفاوتة من الإلحاح، عن السبب الذي يجعلني راغباً في ترك بلدهم الغني الحر والعودة إلى موطني... إلى بلد فقير لا ينعم بالحرية... حيث من المحتمل أن أُسجن أو أن يُبْعَث بي إلى سيبيريا. حاولت أن أكون منشرح النفس مثلهم. وتظاهرت أمامهم بشيء من الوطنية، أو بنوع من الإحساس بالواجب. حتى توصلت إلى تفسير مقنع. قلت لهم إن الناس في بلادي يعرفونني. فحتى لو اضطررت إلى جمع القمامة من الشوارع فسأكون في نظرهم كما أنا. كما أريد أن أكون. لا أي شيء آخر. سأكون كاتباً. أما هنا فسأظل واحداً من أولئك المهاجرين الذين أشفق عليهم هذا البلد العظيم حتى إن كنت أجوب الشوارع في سيارتي الفورد الصغيرة. هكذا كانت كلماتي المتشدقة، أما في واقع الأمر فقد كنت راغباً في العودة إلى موطني. إلى حيث أجد الناس الذين أحبهم. إلى حيث أستطيع التكلم بطلاقة والإصغاء إلى لغتي الأم. أما الآن فأعرف أنني إذا رحت أكنس الشوارع فسأكون، في أعين أكثر الناس، مجرد شخص يكنس الشوارع... شخصٌ لا يكاد يلاحظه أحد! في تلك اللحظة ظهرت امرأة في الغرفة. كانت حسنة القوام لها ردفان رشيقان محشوران في بنطلون جينز ضيق. وكان وجهها ملوَّحاً بالشمس متغضِّناً مثل وجوه الهنديات الحمر العجائز اللواتي رأيتهن في السوق في مدينة سانتافي. كانت واحدة منهن، أكبرهن سناً وأكثرهن هندية كما بدت لي، تضع لافتة صغيرة على طاولتها كتب عليها أن اسمها في العماد هو فينوس. أما فينوس التي هنا فلم تجلس مثلنا. أخرجت من حقيبة يدها علبة سجائر من نوع ستارت. وعندما أشعلت سيجارتها لاحظت يديها ترتجفان. انطفأ عود الكبريت قبل أن تفلح في إشعال السيجارة فشتمته فينوس. كان صوتها عميقاً أجش مثل أصوات من يكثرون الشراب. وكانت نبراته ملائمة تماماً لمظهرها العام. يمكن السيدات الممثّلات في أهم المسارح ممن يطلب منهن في أحيان كثيرة أن يلعبن دور امرأة من عامة الناس أن يتعلمن دروساً منها. بعد ذلك جاء عدد من الكهول الذين ليس فيهم ما يميزهم. وفي خلفية الغرفة راح رجل قصير ممتلئ ذكي الملامح يغير ملابسه ليرتدي ملابس العمل. كانت له خزانته أيضاً مثلما يملك الأحمق الجالس إلى جانبي خزانة خاصة به. وقد أخرج من تلك الخزانة"الأوفرأول"الكاكي اللون. عند السادسة تماماً دخلت الغرفة الموظفة التي في المكتب وقرأت أسماء الأشخاص المكلفين تنظيفَ ذلك القطاع من المدينة في ذلك اليوم. قرأت في البداية أسماء المكلفين وضعَ اللافتات من أجل السيارات وبعدهم قرأت أسماء ثلاثة أشخاص كان عليهم إفراغ سلال المهملات العامة في الشوارع. وفي النهاية أعطت الرجل الممتلئ صاحب الأوفرأول ورقة وقالت إن الأشخاص الذين هنا أسماؤهم هم من يكنسون الشوارع: زولوفا وبينز ورادا وشتيش، وأخيراً قرأت اسمي. وفي الوقت نفسه ناولتني سترة برتقالية مما يرتديه الكناسون. أخذت السترة وأسرعت فدرت من خلف الطاولة واخترت الخزانة القريبة من الزاوية. فتحت باب الخزانة الذي كانت عليه كلمات غير مفهومة مكتوبة بالطباشير ثم أخرجت هويتي وكعكاتي وكتابي ودفتري من الحقيبة فوضعتها كلها في جيوبي وأغلقت الخزانة من جديد. خرجنا جميعاً إلى الباحة الكئيبة فرأيت فيها عدداً من سيارات جمع القمامة الصاخبة الضجيج. كان شابان يضعان في سيارة نقل صغيرة عدداً من المكانس والمجارف والعربات ذات الدولاب الواحد واللافتات المرورية وسلال القمامة العتيقة. لم تتجاوز الساعة السادسة والربع صباحاً لكني أحسست منذ الآن بثقل ذلك اليوم الذي لا يزال طويلاً. سار صاحب الأوفرأول الذي من الواضح أنه صار رئيس مجموعتنا إلى البوابة فتقدم خلفه أربعة أشخاص من مجموعة الكناسين كانت من بينهم تلك المرأة الوحيدة. وتقدم بعدهم شاب صغير له وجه أنثوي شاحب يحمل على كتفيه حقيبة كبيرة تشبه ما يحمله سعاة البريد. وكذلك تقدم الرجل الذي ذكرني بطبيب الأذن والأنف والحنجرة. ثم جاء الرجل صاحب قبعة القبطان. بدا هؤلاء الناس لي غرباء مثلما بدا لي غريباً العمل الذي كنت ذاهباً إليه. لكني سرت معهم، مثلما ساروا. سرت بخطى متباطئة كما يسير الناس في الجنازات. سرنا بستراتنا البرتقالية في شوارع مدينة نوزل. ما كانت خطواتنا مستعجلة وسط الناس المسرعين إلى أعمالهم. لا حاجة إلى السرعة الآن. قد بدأنا عملنا بالفعل! ما كنت أجد نفسي في هذه الحالة العقلية إلا نادراً. لقد ألفت الاستعجال طيلة حياتي كلها وكان يسكنني دائماً هاجس ما ينبغي لي إنجازه إذا أردت أن أكون كاتباً جيداً. أردت منذ طفولتي أن أكون كاتباً. بدت لي تلك المهنة شيئاً استثنائياً. كنت أظن أن على الكاتب أن يكون في حكمة الأنبياء وفي نقاوة القديسين وندرتهم، وأن يكون شجاعاً لا يعرف الخوف تماماً مثل لاعب السيرك الذي يطير قافزاً بين الحبال. ومع أنني أعرف الآن أن لا وجود للمهن المختارة، وأن ما قد يبدو حكمة ونقاء وشجاعة ورباطة جأش وخصائص استثنائية في شخص من الأشخاص قد يبدو ضرباً من الغرابة أو الجنون أو البلادة عند شخص آخر. على رغم ذلك، ما زالت تلك الفكرة القديمة مطبوعة من دون إرادة مني في عقلي الواعي وفي اللاوعي. ولعل هذا ما يجعلني أخاف من استخدام كلمة"كاتب"في الإشارة إلى نفسي. إنني أحاول التملص من الإجابة عندما يسألني أحد عن عملي. ثم، من عساه يجرؤ على القول إنه كاتب؟ ليس للمرء في أحسن الأحوال إلا أن يقول: لقد كتبت بعض الكتب! يبدو لي بين حين وآخر أنني غير قادر على التحديد الواضح لموضوع عملي، ولا الشيء الذي يميز الأدب الحقيقي عن مجرد الكتابة... الكتابة التي يستطيعها أي إنسان حتى إذا لم يذهب إلى المدرسة لتعلم الأحرف. * من رواية إيفان كليما"حب وقمامة"التي ترجمها الحارث محمد النبهان وتصدر قريباً عن دار التنوير - بيروت. بدا الضوء خارجاً من جبهتها بدأنا من شارع لومنيكيهو. كانت فينوسنا، اتضح أن اسمها زولوفا، تحمل مكنسة. الرجل ذو قبعة القبطان يساعدها بمكنسة ثانية وهو يمضغ شيئاً بصمت معظم الوقت ويبصق مرة بعد مرة. يكنسان الأوساخ إلى مجرفتي فأضعها في برميل القمامة على عربتنا. وعندما يمتلئ البرميل كنا نقلبه فنفرغ كل ما فيه على الرصيف. القمامة كلها في كومة واحدة. حتى تأتي سيارة القمامة في ما بعد فتأخذها. وهكذا كانت تلك الكومات من القمامة علامات على تقدمنا البطيء صوب فيشراد. نظرت إلى أوراق الأشجار فرأيتها تلوح لي من بعيد على رغم أن أحداً لم يكن ينتظرني تحتها. على رغم أنها ما عادت تنتظرني بعد الآن. إنني لا أفكر فيها إلا باستخدام الضمير"هي". إنني لا أطلق عليها اسماً في أكثر الأحيان. إن الأسماء تبلى مثلما تبلى الكلمات الرقيقة. كنت أدعوها في ذهني أحياناً باسم العرّافة لأنها تخبر الناس بمستقبلهم ولأنها تبدو لي عارفة بما تقول. ثم إنها محاطة بالغموض، وهذا ما يجعلها أكثر جمالاً. عندما عمدوها أطلقوا عليها اسم داريا. لا أستطيع أن أتذكر إن كنا هنا معاً ذات مرة. اختلطت لقاءاتنا وذابت بعد هذه السنوات. تكوّمت السنوات، مثلما تقول تلك الأغنية عن عامل المزرعة. كان اللقاء نتيجة زيارة قمت بها لصديق يعيش في بيت متنقل. كان يدرس ليصير جيولوجياً. أثارت اهتمامي منحوتة صغيرة فيها ما يميزها تماماً عن طابع التقشف الشديد في ذلك البيت المتنقل. قال لي صديقي الذي كان يكتب متابعات فنية قبل فترة قصيرة إن صاحبتها فنانة يقوم عالمها على الأحلام والأطياف والعاطفة والرقة. أكد لي أن من شأن زيارة إلى محترفها أن تكون تجربة عميقة فسجلت عنوانها عندي. تذكرت ذلك العنوان ذات يوم عندما كنت أبحث عن هدية لزوجتي في عيد ميلادها. كان محترفها في قبو متواضع الحجم تحت الأرض في منطقة"المدينة الصغيرة"في براغ. وكانت أرفف خشبية تحمل أعمالها وتشغل ثلث الغرفة تقريباً. استقبلتني استقبالاً مهذباً، وتحدثنا بعض الوقت، بل حدثتني أيضاً عن ابنتها الصغيرة وسألتني عن عمل زوجتي. لكني أظن أن اهتمامها كان نابعاً من أنني جئت إليها بصفة زبون يمكن أن يشتري أحد أعمالها. كانت تتحرك بين الأرفف برشاقة. ومع مشيها كانت تحرك تلك الأعين والشفاه التي على تنورتها الطويلة... أعين بنية وشفاه حمراء لامعة. أما عيناها فكانتا زرقاوين، وكانت شفتاها شاحبتين قليلاً. ماذا يحدث إذا عانقتها وسط أرففها؟ كنت أعرف أنني لن أفعل هذا. اشتريت من عندها طائراً له رقبة رشيقة استقر فوقها رأس صغير حاد الحواف فيه عينان صغيرتان خبيثتان بشريتان. لقد لفّت الطائر بالورق ثم رافقتني حتى الباب. وبعد ذلك لم ير أحدنا الآخر طيلة أشهر كثيرة. لكنها دقّت بابنا على نحو غير متوقع عشية يوم ميلادي السابع والأربعين: كانت تريد استعارة منحوتتها الصغيرة من أجل معرض سيقام في بودابست. دعوتها إلى الدخول وقدَّمتها إلى زوجتي التي كانت سعيدة بمعرفتها. جلسنا نحن الثلاثة في مكتبي. كانت ليدا تحب إسعاد الناس فتحدثت عن مدى محبتها لتلك المنحوتة الصغيرة التي عندنا. ... شربنا أنا وزوجتي من باب التأدب. تحدثت داريا عن معرضها المقبل ثم تحدثت عن أسفارها. حدثتنا عن كمبوديا التي زارتها ذات مرة. تحدثت عن ذلك البلد كأنه جنة عدن ليس فيها إلا بشر بسطاء أبرياء. وهذا ما سحر زوجتي الشغوف بتحرير الناس من إحساسهم بالذنب. ثم انتقل الحديث إلى ثقافتنا القائمة على معرفة الخطيئة وبالتالي على معرفة الإحساس الميتافيزيقي بالذنب. أشارت داريا إلى أن الاعتقاد بالخطيئة هو لعنتنا لأنه يحرمنا من الحرية ويقف حاجزاً بين الشخص وغيره، وبين الناس والرب. أبدت زوجتي بعض الاعتراض. كانت ترى أن لا بد من تقييد الحرية بنوع من القانون الداخلي. لكن الحديث تحول بعد ذلك إلى الأطفال وتربيتهم. أما أنا فكان تركيزي على ما يقال من كلام يتضاءل شيئاً فشيئاً... صرت أصغي إلى شيء مختلف: صوت غير منطوق صادر عن تلك المرأة. بدا لي أنه يخاطبني متوقعاً أن أسمعه وأن أفهمه. بدأت ظلال المساء تزحف إلى الغرفة وأحسست أن ما بقي من ضوء النهار صار مركزاً كله على جبهتها المرتفعة التي، يا للغرابة، كانت شبيهة بجبهة زوجتي. لكن الأمر الغريب هو أن ذلك الضوء لم يمت مع تلاشي ضوء النهار. بدا لي منبعثاً منها... من شعلة لا شك في أنها تتقد داخلها. أحسست أن تلك الشعلة تمتد صوبي فتحيطني بأنفاسها الحارة. ظللت ضمن تلك الهالة بعد مغادرتها. قالت ليدا إن النحاتة امرأة مثيرة للاهتمام، وإن علينا أن ندعوها للمجيء إلينا مرة أخرى... ربما مع زوجها! لكني لم أرحِّب بتلك الفكرة إما بسبب الخوف أو بسبب توجّسي من مؤامرة محتملة فانعطفت بالحديث إلى موضوع آخر. ذهبت زوجتي إلى غرفتها أما أنا فحاولت إنجاز بعض العمل، لكن عبثاً! وهكذا فتحت المذياع الذي كان يبث موسيقى أرغن باروكية لكن الموسيقى لم تفلح في تهدئتي... ما كنت قادراً على الإصغاء إليها حقاً. كنت أسمع بدلاً من الموسيقى نتفاً من جمل غير مترابطة: ملأتني صلاة غريبة الصوت مثلما يملأ دفء الحمام الحار جسد الإنسان. كيف كان ذلك الصوت حقاً؟ رحت أفتش عن كلمة مناسبة لوصفه. ما كان صوتاً رناناً ولا حلواً ولا منغَّماً، وما كان ملوَّناً ولا كان من تلك الأصوات التي تقتحم سمع المرء اقتحاماً. لا أستطيع تحديد ما سحرني في ذلك الصوت! محرقة براغ أنا الآن قادر على الاستمتاع بالسير المتمهِّل. على الاستمتاع بالمعرفة المريحة بأنني أدرك تماماً ما هو متوقع مني في هذا العمل. تجاوزنا مبنى اللجنة الوطنية والمحكمة العليا ووصلنا إلى صالة سوكول الرياضية حيث كانت معداتنا في انتظارنا: مكانس ومجارف وعربة واحدة كان جسمها على هيئة نصف برميل قمامة. أمسكت بالمجرفة الأكبر حجماً حتى أظهر للآخرين حسن نيتي. عشت في طفولتي في ضواحي براغ غير بعيد عن مطار كبيلي في بيت مجاور تماماً لحانة كان أكثر روادها من أصحاب عربات النقل. وفي كل يوم، قبيل الظهيرة، كان كَنَّاس البلدية يصل إلى الحانة. كان يضع عربته في الفسحة التي وضع فيها رواد الحانة خيولهم. وكان يحمل مجرفته ويجمع روث الخيل وغيره من القمامة بطريقة شبه احتفالية فيضع ذلك كله في العربة ويدفعها حتى يسندها إلى الجدار ثم ينطلق إلى الحانة. أحببت هذا الرجل: كان يضع قلنسوة لها قمّة مدبَّبة، لكنها ليست قلنسوة بحار. وكان له شاربان معقوفان إلى الأعلى يذكران المرء بآخر أباطرتنا. كنت أحب مهنته أيضاً وكنت أظن أنها لا بد أن تكون من أهم الأعمال التي يمكن أن يقوم بها أي رجل. وهذا ما جعلني أعتقد أن كناسي الشوارع يتمتعون باحترام جميع الناس. لكن الأمر ما كان هكذا في واقع الأمر. ما كان من ينظفون العالم من القمامة أو الجرذان يلقون أي احترام من الناس. قرأت قبل أيام قليلة عن عامل بناء منذ مئتي عام هجرته حبيبته فضربها في كنيسة سانت جورج بالسوط على وجهها وفمها وكتفيها حتى ماتت فاعتقل ثم أخذ إلى ساحة الإعدام لكنه نال عفواً وحُكم عليه بأن ينظف شوارع براغ ثلاث سنوات بدلاً من إعدامه. القاعدة هي أن الاحترام لا يناله إلا من ينظفون العالم من القمامة البشرية: الشرطة والقضاة والمحققون. منذ عشرين عاماً، عندما كتبت قصة قصيرة عن ذبح الخيول اخترعت مشهداً قيامياً يصف حرق جثثها. حاولت الذهاب إلى محرقة براغ التي كنت أشاهد دخانها من بعيد عندما كنت صبياً، المحرقة التي تحيل كل شيء إلى كومة عملاقة من رماد. لكن المدير رفض السماح لي بالدخول. لعله خشي أن أكون قد جئته باحثاً عن خلل أو تقصير في عمل محرقته. بعد سنوات كثيرة، عندما كنت عامل تنظيف في مستشفى كيرك، كان عليَّ أن أنقل القمامة إلى فرن كبير كل صباح: ضمادات مشبعة بالدم، وقطع من الشاش كلها شعر وقيح، وخرق قذرة تفوح منها رائحة البراز، وكذلك كميات من الأوراق والعلب الفارغة وقطع البلاستيك والزجاج المكسور. كنت ألقي بهذا كله في الفرن ثم أراقب مرتاحاً تلك القمامة تتلوى في النار كما لو أنها تتعذب. أراقب ذوبانها وسط اللهيب المستعر وأصغي إلى فرقعة الزجاج وانفجاره وإلى زئير النار المنتصر. وذات مرة... لم أعرف سبب ذلك أبداً، لعل النار كانت أشد مما يجب، أو لعلها كانت أقل مما يجب، أو لعل الريح هي السبب... لم تحترق القمامة بل سحبها تيار الهواء إلى أعلى المدخنة قاذفاً بها إلى السماء. رحت، بمزيج من الخوف والعجب أنظر إلى تلك القمامة كلها... الخرق والأوراق والضمادات المدماة... تهبط إلى الأرض رويداً رويداً وتعلق في أغصان الأشجار أو تتهادى في الهواء فتدخل نوافذ أجنحة المستشفى المفتوحة. وفي تلك اللحظة خرج الحمقى الأغبياء العاملون في مؤسسة الخدمات الاجتماعية والمسؤولون عن نظافة أرض المستشفى... خرجوا مندفعين صائحين فرحاً يشيرون إلى شجرة البتولا الفضية التي تدلت منها تلك الخرق مثل زينة شجرة عيد الميلاد. خطر لي أن ما حدث في تلك اللحظة ما كان إلا تمثيلاً واضحاً لما يحدث كل يوم: لا تفنى المادة أبداً. يمكن أن يتغير شكلها فقط. إن القمامة خالدة، وهي تغزو الهواء وتطوف في المياه وتنحل وتتعفن وتتفكك وتتحول إلى غاز أو دخان أو هباب. إنها ترتحل في العالم كله وتبتلعه تدريجاً.