بعد سنوات على تجاهل مطالب الشارع والانتقائية في محاسبة"فاسدين"فتحت الحكومة الاردنية ملفات ساخنة تحمل شبهات فساد وأودعت رؤوساً كبيرة خلف القضبان، في مغامرة ذات عواقب غير محسوبة، من أجل استعادة هيبة الدولة وترميم علاقة النظام بالشعب. ملف الفساد الشائك أخذ بالتحول إلى أكوام من القضايا. وفي غياب محاكمات علنية، طاولت أصابع الاتهام رموزاً، من رؤساء حكومات وديوان ملكي، ووزراء، ونواب، وصحافيين وكتاب، ورجال أعمال وضباط متقاعدين خدموا في القوات المسلحة وجهاز الاستخبارات العامة. رافقت هذه الحملة غير المسبوقة هجمات إعلامية واسعة ساهمت في تأليب الرأي العام حتى لامست حدود التجريح في بلد يعامل المشتكى عليه على أنه مذنب الى حين صدور قرار المحكمة، ولا يعوض عن الضرر المادي والمعنوي الذي يلحق به وبعائلته حتى بعد تبرئته. هذه الحملة المتنامية أثارت مخاوف من إلقاء ملفات سياسية ساخنة في حضن القضاء في غمرة حرب شرسة لتصفية حسابات بين مراكز نفوذ سابقة وحالية. كما فتحت الباب أمام عشرات الأسئلة عن اسلوب إدارة الدولة، أسس اختيار مسؤولي الصف الاول ودوافع إقصائهم المباغت، وأيضاً الدور الرقابي للقضاء، والبرلمان والسلطة الرابعة خلال هذه الفترة. في خلفية المشهد السياسي الداخلي المحتقن مخاوف من أن تفضي المحاكمات الانتقائية المرتبطة بهذه الملفات إلى محاكمة مجمل فلسفة النظام. مسر ب خاطئ طاهر العدوان، وزير الإعلام الأسبق، يعتقد"أن البلاد تتخذ مسرباً خاطئاً في العملية الاصلاحية". ويشاطره في القلق مسؤولون ونشطاء حزبيون. ويخشى العدوان"من أن تقف البلاد على أبواب مرحلة يأكل فيها النظام بعضه بعضاً". ويشرح المسؤول السابق:"هذا ما ينبئ به المشهد السياسي العام المشحون بالمعارك الصغيرة وتبادل الاتهامات والأحقاد والخوف من الآخر". "وكأننا أمام بيروسترويكا تقود الى تقويض النظام وليس الى عملية"إصلاح النظام"التي ينشدها الإجماع الوطني من رأس الدولة الى الأحزاب والقوى الشعبية تحت شعارات الربيع العربي". رغم هذه المخاوف، تتواصل الحرب على الفساد وتنتشر كالنار في الهشيم. ففي هذه الأيام يعمل الادعاء العام في عمان يومياً حتى ساعة متأخرة للتحقيق في 12 ملفاً سقطت فجأة بين يديه، آخرها قضية غسيل أموال اتهم بها مدير الاستخبارات الأسبق الفريق المتقاعد محمد الذهبي. وقبلها تفجّرت قضايا في أمانة عمان تمس أمينها السابق عمر المعاني ونائبه عامر البشير، فضلاً عن قضية برنامج التحول الاقتصادي المسجلة ضد وزير التخطيط الأسبق باسم عوض الله وملف سكن كريم لعيش كريم والتي تمس وزير الاسكان الاسبق سهل المجالي. لحق بقطار التحقيقات ملف اشكالي آخر أحالته نقابة الصحافيين بعد أن نشر موقع الكتروني الاحرف الأولى لأسماء 51 إعلامياً قيل إنهم تلقوا أعطيات من الذهبي. لكن بعد ثلاثة أيام سحب الموقع تلك القنبلة واعتذر عن"الخطأ غير المقصود"، وكأن شيئاً لم يكن! الادعاء العام استمع منذ مطلع العام إلى شهادات 54 من بين 64 شخصية مهمة، أبرزها رئيسا حكومة سابقان معروف البخيت وسمير الرفاعي وأيضاً عوض الله، الذي عمل سابقاً رئيساً للديوان، وذلك في قضية رخصة الكازينو. بعد أسابيع من الرفض تقرّر ان يدفع كل من المعاني والبشير كفالة بينما يسعى محامو الذهبي الى دفع كفالة بعد أن رفض المدعي العام الطلب الاول. وبين ليلة وضحاها لمع نجم المدعي العام القاضي الشاب جمال الصوراني، الذي يحقق في غالبية الملفات، متكئاً إلى صلاحياته في"توقيف من يريد للتحقيق معه". شبهات فساد في الأثناء تنظر 22 لجنة نيابية في ملفات تحمل شبهات فساد"بما فيها أراضي دولة نقلت ملكيتها الى متنفذين بعد أن كشف الديوان الملكي قبل شهرين تفاصيل تسجيل أراض تعود الى الخزينة باسم الملك عبدالله الثاني بين عامي 2000 و2003، لتسهيل استخدامها في مشاريع تنموية وخدمية ملحة بعد تجاوز الاجراءات البيروقراطية. لكن نظرة متفحصة لتركيبة اللجان النيابية تظهر حجم التداخل في العلاقات وتضارب المصالح وسط تشكيك بشرعية المجلس. وتطالب غالبية نيابية الحكومة بسن تشريع"من أين لك هذا"بهدف محاسبة مهندسي نهج بأكمله، ما قد يضع مسؤولين سابقين خدموا في مناصب وزارية وأمنية وعسكرية تحت مطرقة المساءلة والمحاسبة القضائية وسط دعوات متنامية لتقليص موازنة القوات المسلحة ودائرة الاستخبارات العامة التي لا تخضع للمحاسبة. وتعكف هيئة مكافحة الفساد على تمحيص ملفات اخرى تدور حولها شبهات فساد في القطاعين العام والخاص، قبل أن تحيلها الى المحاكم أو تحفظها. وتصر حكومة القاضي الأممي عون الخصاونة - الذي يعمل جاهداً لاسترجاع الولاية العامة - على أن كشف حقيقة ملفات تحمل شبهات فساد بات أمراً"يتعذر تجنبه"حتى ولو مسّت شخصيات كبيرة. ويقول أحد الوزراء"إن سياسات السنوات الماضية انتهت بفشل ذريع مع تفاقم الفقر والبطالة بسبب تداخل الصلاحيات بين السلطات، وبين الملفات الأمنية والسياسية، والتجارة والامارة". يضاف إلى ذلك"التزوير الذي طاول الانتخابات البلدية والنيابية في المرتين الأخيرتين"وتغييب الإعلام العام والخاص قبل أن يكسر إعصار الربيع العربي أصنام التفرد بالسلطة ويدفع باتجاه"كشف حجم التجاوزات ويجبر المسؤولين على اتباع خيار المكاشفة". الحكومة ترفض اتهامات بالتعامل مع ملفات فساد بكيدية وانتقائية. ويؤكد الخصاونة لمحدثيه أنه لا يسعى من وراء الحملة على الفساد إلى كسب شعبية، وإنما خدمة"الملك والوطن"وفق قناعته. لكن أعضاء في الوفد الإعلامي الذي رافق الملك خلال زيارته الاخيرة الى واشنطن، توقعوا فور عودتهم بأن يحال الذهبي إلى القضاء بعد الانتهاء من جمع الأدلة. ويرى وزير آخر أن"صاحب القرار يأخذ مخاطر غير محسوبة بفتحه ملفات تحمل شبهات فساد". لكنه يستدرك بأن"النتائج غير المقصودة لهكذا عمليات هي التي تفضي إلى نتائج مهمة وغالباً ما تسير بالوطن صوب الافضل". وتحاول الحكومة، وفق وزراء عاملين، رفع كفاءة عملية إدارة الحرب على الفساد بالاعتماد على محاور ثلاثة:"عدم فتح جميع الملفات التي تحمل شبهات فساد مرة واحدة، والتعامل مع دلائل أولية واضحة لكل قضية، ومواءمة الإجراءات القانونية مع الحد الأدنى من المعايير الدولية التي تفترض البراءة لحين صدور قرار المحكمة". تشكيك لكن مراقبين يشكّكون بنزاهة الإجراءات ويتساءلون عن النهايات التي ستؤول إليها مكافحة الفساد والمفسدين. ما يزيد الطين بلّة مخاطر التشويش القادم من عدد من المواقع الكترونية 180 موقعاً إخبارياً في الأردن منها من يعمل في غياب المهنية، مع انقسام إقليمي متزايد. بعض المواقع تعمل على تأليب الرأي العام وخلط الاوراق والتشويش على سير الاجراءات القانونية من خلال نشر معلومات تفتقر الى أدنى درجة من الدقة والموضوعية، وفق مراقبين. ولتقليل الضرر، تعكف الحكومة على سن مشروع قانون لتنظيم عمل المواقع الالكترونية. وهي تدرس تجارب دول كالسويد ودول أخرى كتركيا التي تضع قيوداً على الانترنت وتطاولها سهام انتقادات منظمات دولية في مجال الحريات السياسية والاعلامية. يتساءل أحد السياسيين عما اذا كان القضاء هو المرجع الأول والأخير للبت في قضايا الفساد؟ أم أن الاعلام العام والخاص والمواقع الالكترونية باتت تحاكم الفساد من خلال شيطنة المشتكى عليهم وإصدار صكوك إدانة أو براءة من خلال تعاطيها غير المهني مع الموقوفين والتشهير بهم أو التهكم عليهم. يقول المحامي أيمن ابو شرخ إن العبء الأكبر لإنجاح عملية المحاسبة خلال المرحلة القادمة يقع على عاتق السلطة القضائية والقطاع الإعلامي. ويحض أبو شرخ القضاء على معاملة"الملفات والاشخاص دون الالتفات إلى الضجة التي تثار حولها في الشارع والتصريحات الاعلامية". ويرى أن للمدعي العام حق منع نشر أي معلومة تتعلق بالدعوى الموجوده أمامه اذا وجد أن ما ينشر يضر بمصلحة التحقيق ولا ينقل الصورة الحقيقية لموضوع الدعوى، كما حصل في العديد من القضايا السابقة". بالتوازي، يقول أبو شرخ إن المطلوب من الاعلام"تحري الدقة والموضوعية من المصادر الحقيقية المعنية بالقضية بدلاً من أن يمارس التأليب خارج السياق ويحاول فتح عشرات القضايا الفرعية لتشبيك الملفات، وتشتيت الجهود". وتجزم شخصيات سياسية تمثل المعارضة والموالاة على أنه لم يعد هناك مجال للمراوحة والدوران في حلقة مفرغة واستمرار حال الشك في كل خطوة إصلاح سياسي موعود من دون أن تنجلي ملفات الفساد ووضع حد للغط الذي بات يطاول رأس الدولة في المجالس الخاصة قبل أن يخرج للعلن عبر عشرات المسيرات كل جمعة منذ هبوب رياح التغيير قبل 14 شهراً. اما الشارع الملتهب، فينتظر الطريقة التي ستستعاد فيها أموال نهبت من الخزينة بعد أن تلاعب مسؤولون بمقدرات الدولة وساهموا في تردي أوضاع الشعب المعيشية لمصلحة فئة ضيقة تصارعت على النفوذ والمكاسب وليس على جوهر الإصلاح.