بعد سنوات قليلة على إقرار الدستور العراقي، يتجدد الجدل حول علاقة هوية العراق الاقليمية وعلاقته بمحيطه العربي. والمناسبة التي حفزت الى تجديد هذا الجدل هي اقتراب موعد مؤتمر القمة العربية خلال شهر آذار مارس المقبل ومن ثم استلام العراق مهام رئاسة القمة خلال العام المقبل. ولقد عاد البعض بهذه المناسبة الى الدستور العراقي الذي تم الاستفتاء عليه عام 2005 والذي اعتمد صيغة قصد منها التوفيق بين النظرات المتضاربة حول مسألة الهوية: نظرة تقول بأن العراق عربي، واخرى تنفي هذه الصفة. وامام التضارب القوي بين الفريقين، لجأ مشرعو الدستور العراقي الجديد الى جامعة الدول العربية لكي توفر مخرجاً مناسباً للخلاف القوي حول هوية العراق العربية، فاقترح المشرعون صيغة افترضوا أنها سوف ترضي اصحاب النظرة الاولى، اذ جاء فيها ما يلي: اولاً، أن العراق هو عضو مؤسس للجامعة العربية. ثانياً، أنه عضو في الجامعة. ثالثاً، أنه ملتزم بميثاق الجامعة. وبصرف النظر عن النوايا التي شكلت حافزاً لهذه الصيغة الدستورية، فإنها كانت ملأى بالثغرات. ومن الممكن العثور بسهولة على هذه الثغرات عندما يراجع المرء مغزى الدور الذي قام به العراق في تأسيس الجامعة وشروط عضويتها والالتزام بميثاقها. لقد أطلق العراق مشروع جامعة الدول العربية في مطلع عام 1943، وتولى رئيس الحكومة العراقية آنذاك متابعة هذا المشروع والعمل على تنفيذه. هذه حقيقة تاريخية لا تقبل الجدل، وإنجاز مهم لمؤيدي الفكرة العربية. ولكن هل تعني مساهمة بلد ما في تأسيس منظمة دولية او إقليمية ضماناً لاستمرار هذا البلد في الانتساب الى هذه المنظمة؟ هل تعني هذه المساهمة ضماناً لتمسك هذا البلد بالقيم والمبادئ التي تأسست بموجبها هذه المنظمة؟ لقد كانت إيطاليا عضواً مؤسساً في عصبة الامم عام 1920. وانضمت ألمانيا الى عصبة الامم عام 1926 بعد ان رفعت عنها الحواجز والقيود والعقوبات التي فرضت عليها اثر نهاية الحرب العالمية الاولى، وأعلنت موافقتها على المبادئ التي تأسست بموجبها عصبة الامم. ولكن لا المساهمة في تأسيس العصبة كما فعلت ايطاليا، ولا الانضمام اليها كما فعلت المانيا بعد وصول الليبراليين الى السلطة في برلين، شكلتا ضمانة للاستمرار في الانتماء الى المنظمة الدولية او الالتزام بمثلها، ذلك انه عندما وصل موسوليني الى السلطة في روما، وعندما بدأ رحلة الاستعمار في حوض المتوسط وفي الحبشة، اعلن خلال عام 1937 انسحاب ايطاليا من عصبة الامم. وبعد ان وصل هتلر الى السلطة في برلين وتفرد بها، اعلن الانسحاب من العصبة. وهكذا لم يعد للمساهمة في العصبة او للانضمام اليها وبعد ان تغيرت الاوضاع رأساً على عقب في البلدين خلال الثلاثينات، من مغزى ملموس. بالعكس، لقد ادى تصرف هتلر وموسوليني الى القضاء على عصبة الامم. وكما تغيرت الظروف تغيراً كاملاً في البلدين فعمدا الى الانسحاب من المنظمة الدولية، فإن المساهمة في تأسيس جامعة الدول العربية لا تقدم ضماناً لانتماء العراق الى النظام الاقليمي العربي او الى اسرة الدول العربية. وما يعزز هذه المخاوف في المنطقة العربية هو ان الاحتلال الاميركي أنشأ وضعاً جديداً مغايراً من حيث صلة العراق بالفكرة العربية ومن حيث نظرة القوى المسيطرة على بغداد اليوم تجاه هذه الفكرة. فهل للنص الدستوري القائل بأن العراق عضو فاعل في جامعة الدول العربية ما يشير الى صلة العراق الحالي بالفكرة العربية؟ أساساً، ما هي شروط انضمام الدول الى جامعة الدول العربية؟ وفقاً لميثاق الجامعة، فإن من حق أي دولة ان تنضم الى الجامعة إذا استوفت ثلاثة شروط رئيسية: اولاً، ان تكون دولة عربية. ثانياً، ان تكون دولة. ثالثاً، ان تكون دولة مستقلة. فلنبدأ من الشرطين الاخيرين. إن العراق دولة منذ تأسس الكيان العراقي، إلا أن استقلاله جاء لاحقاً، وذهب باحتلال الولاياتالمتحدة لأراضيه. الآن، وبعد الانسحاب الاميركي من العراق، يستطيع المسؤولون العراقيون ان يقولوا إن بلادهم اصبحت مستقلة، وإن العراق ليس أقل استقلالاً من دول اخرى تتمركز فيها قوات اجنبية مثل كوريا الجنوبية او اليابان إلخ... هذا لا يلغي التساؤلات حول مدى استقلال العراق ولكن يقلل من حدتها بعد الانسحاب. بين شروط الانضمام وعضوية الجامعة، تبقى الصفة العربية للعراق. المشرعون والمسؤولون العراقيون رفضوا القول ان العراق عربي، فأرادوا من العروبة ادنى مقدار منها. وإبان الجدل حول الهوية، رفض هؤلاء اقتران العراق بالفكرة العربية، وآثروا ان يحولوا الجامعة الى اداة وصل مع الفكرة العربية. ولكن هذه الصيغة تتناقض تماماً مع ما جاء به مشرعو ميثاق الجامعة، الذي يقول إن الصفة العربية تسبق الانضمام الى الجامعة، وان الجامعة لا تعطي العروبة لأحد، وإنه ليس هناك جهة تضفي هذه الصفة على الدولة الا شعب هذا البلد نفسه. فبحسب هذا المفهوم تكون الهوية العربية هي"استفتاء يومي"كما تصور إرنست رينان الهوية الوطنية. فهل استفتى احد شعب العراق حول انتمائه العربي حتى يتهرب الذين وضعوا دستوره من الاعلان بوضوح ان العراق بلد عربي، وانه يستطيع ان ينهض بمسؤولياته العربية نهوضاً كاملاً؟ الدستور العراقي يوجب على الحكومات النهوض بهذه المسؤوليات، وفقاً لما جاء في الميثاق، فهل"توثق الحكومة العراقية الصلات مع الدول العربية الاخرى وتنسق خططها السياسية تحقيقاً للتعاون بينها وصيانة لاستقلالها وسيادتها"؟ هل تفعل ذلك في قضية فلسطين بما يعزز قدرة الفلسطينيين على انتزاع حقوقهم المشروعة من الاسرائيليين؟ هل تفعل ذلك حتى لو اثارت غضب الكونغرس الاميركي وردود فعل سلبية في واشنطن التي تمثل سنداً رئيسياً لاستمرار حكومة المالكي؟ هل تفعل ذلك في تنمية العلاقات البينية العربية والعمل على تطوير التكتل الاقليمي العربي حتى لو اثار هذا المنحى ردود فعل سلبية في طهران التي تفضل تنمية العلاقات الثنائية الإيرانية-العراقية؟ كان من الممكن عدم التوقف عند هذه القضايا والإشكاليات في الأيام العادية وعندما كان العراق الحالي مجرد عضو في النظام الاقليمي العربي، ولكننا اليوم في ظرف مختلف وصفه ممثل العراق في جامعة الدول العربية عندما قال ان رئاسة بلده للقمة سوف تقترن بمسؤوليات واسعة تشمل ترؤس العراق لعشرات اللجان الهامة المتفرعة عن القمة العربية، وكذلك ترؤسه خلال الفترة المقبلة لثلاثة مؤتمرات، هي فضلاً عن قمة بغداد، القمة العربية-اللاتينية، والقمة العربية-الافريقية، وحضوره المرتقب للعديد من المؤتمرات الدولية الهامة. ترى ماذا ينقل اليهم ممثلو العراق اليوم، وخاصة رئيس حكومته: هل ينقل اليهم رسالة الاسرة العربية التي تتطلع الى تعزيز العلاقات بين افرادها والارتقاء بها الى مستوى التكتلات الاقليمية الناجحة في العالم؟ ام ينقل اليهم رسالة تعكس ارادات دولية واقليمية تتقاطع فيها الرغبة في تهميش الفكرة العربية والعمل الحثيث على القضاء عليها؟ من الصعب التعويل على نوايا رئيس الحكومة العراقي الذي لم يكف عن إظهار مشاعره السلبية تجاه الفكرة العربية وتجاه من يحملها حتى من حلفائه المفترضين. ان انعقاد القمة العراقية في بغداد جدير بأن يزيد انتباه العراقيين الذين يحملون هذه الفكرة الى الدور السلبي الذي يمكن المالكي ان يقوم به على الصعيد العربي، كما انه جدير بتحفيز القاهرة الى التعجيل في عودتها الى الساحة العربية. هذه هي الضمانات الأفضل للحيلولة دون استغلال موقع العراق في رئاسة القمة من اجل الامعان في الاساءة الى الفكرة العربية كما يفعل بعض اصحاب القرار في بغداد اليوم. * كاتب لبناني