كيف يبدو الموقف في الخليج العربي بين عقوبات اقتصادية أميركية وأوروبية متزامنة ضد إيران، وبين تهديد الأخيرة أولاً بإغلاق مضيق هرمز، ثم بعد ذلك تهديد مصادر برلمانية بتمرير قرار يقضي بوقف إمدادات النفط الإيراني لأوروبا قبل الموعد النهائي لبدء تطبيق الحظر الأوروبي في تموز يوليو المقبل؟ سؤال آخر: هل إن تلويح إيران بوقف إمدادات النفط بنفسها يعني أنها تراجعت عن إغلاق المضيق؟ أم أنها ترسل بذلك إشارات بأنها قد تفعل الاثنين معاً؟ وإذا كانت إيران هي التي ستوقف تصدير نفطها إلى أوروبا، فما هو مبرر إغلاق المضيق إذاً؟ الأسئلة لا تتوقف: هل يحق لإيران معاقبة دول الجوار على خلفية مقاطعة دول أوروبية وأميركية لنفطها؟ بل هل من حق إيران أن تفرض على الآخرين شراء نفطها بغض النظر عن سياساتها، وأهدافها الإقليمية؟ وفي السياق نفسه، هل يحق لدول مجلس التعاون، وتحديداً السعودية، تعويض السوق النفطية عن النقص الذي قد تعانيه بسبب مقاطعة النفط الإيراني؟ كثرة الأسئلة عن الموقف الإيراني تشير إلى أن طهران في مأزق. تستطيع إيران زرع ألغام في المضيق، أو تعطيل ناقلة نفط هناك، أو افتعال مواجهة عسكرية مع البحرية الأميركية. كل ذلك سيربك الملاحة، وقد يغلق المضيق، لكن ليس لأكثر من أيام معدودة. وعندها سيكون الثمن باهظاً عسكرياً وسياسياً واقتصادياً لإيران. من الناحية الاقتصادية، إغلاق المضيق عملية انتحارية لأن إيران بذلك تكون قد أحكمت نظام المقاطعة على نفسها بنفسها. ثم إنها بذلك تجعل من نفسها هدفاً مبرراً لحملة عسكرية يحاول الجميع تفاديها، لأنها بتهديد الملاحة في هرمز تضرب مصالح الجميع: الدول المصدرة في الخليج، وعملاء إيران في شرق آسيا، وتحديداً الصين واليابان وكوريا الجنوبية والهند، فضلاً عن الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي. بل إنها بإغلاق هرمز تضاعف أزمتها الاقتصادية، وتخلق أخرى لحليفها العراقي، وهذا يضعف قدراتهما المالية معاً لمساعدة حليفهما الأهم في دمشق. ثم إن إغلاق المضيق يفتح على إيران جبهة ثالثة هي في غنى عنها هذه الأيام. فلديها جبهة العراق الذي دخل فصلاً جديداً من أزمته السياسية بعد رحيل الأميركيين، وهي أزمة تمثل إيران سبباً رئيسياً فيها، وتهدد حليفها الكبير، نوري المالكي وحزب الدعوة. ومن المعروف أن العراق بعد سقوط النظام السابق على يد الأميركيين صار خط الدفاع الأول، أو نقطة ارتكاز الدور الإيراني في المنطقة. والجبهة الثانية هي سورية تحت حكم الأسد. وهذه الجبهة هي الأهم من ناحية، والأخطر على مستقبل الدور الإيراني، من ناحية أخرى. فالنظام هناك يواجهه خطر السقوط، إن عاجلاً أو آجلاً، على يد ثورة شعبية يستمر تصاعدها على رغم دموية الحل الأمني الذي تواجهه. هل تملك إيران أن تفتح على نفسها جبهة ثالثة في الخليج العربي، بخاصة أن ظروفها الاقتصادية تزداد صعوبة كل يوم بسبب العقوبات التي تتراكم عليها؟ وآخر مؤشرات هذه الأزمة أن الرئيس أحمدي نجاد، اضطر للموافقة على رفع نسبة الفائدة على إيداعات الريال الإيراني في البنوك المحلية لوقف بيع هذه العملة واستبدالها بعملات صعبة من الإيرانيين، وهو ما يهدد بانهيار الريال. وإقدام الإيرانيين على بيع عملتهم مؤشر على أن المواطن بدأ يخاف من تبعات ارتباك السياسة الإيرانية بين الداخل والخارج. تبدو إيران مرتبكة فعلاً. هددت بإغلاق المضيق. وأعقبته بتهديد مبطن للسعودية بعدم زيادة إنتاجها النفطي لسد أي نقص قد تعانيه الأسواق. وأضافت إلى ذلك تحذيراً للأميركيين بسحب قطعاتهم العسكرية من الخليج، وبعدم إرسال قطعات جديدة للمنطقة. من ناحيتها التزمت السعودية الصمت قدر التزامها بموقفها. وجاءت الأخبار أن الرئيس الاميركي أوباما بعث برسالة سرية إلى مرشد الثورة علي خامنئي، عبر قناة سرية، وليس عبر السفارة السويسرية التي تمثل المصالح الأميركية في طهران. ثم جاءت قطع أميركية جديدة وعبرت مضيق هرمز نحو الخليج. عندها تراجعت التهديدات والتلويحات الإيرانية، وأصبح الوجود العسكري الأميركي في نظر طهران أمراً روتينياً. وبعد تهديد بإغلاق المضيق إذا توقف الأوروبيون عن شراء النفط الإيراني، ها هي طهران تلوح بأنها هي من سيوقف النفط عن الأوروبيين. يزداد مأزق إيران في ضوء تطورين لافتين. الأول أنها بتصعيدها في الخليج كانت تهدف لإرباك الأسواق ورفع أسعار النفط للضغط على الأوروبيين والأميركيين. وهو ما لم يتحقق. ثانياً أن الصين واليابان وكوريا الجنوبية أصبحت مستعدة لتقليص وارداتها من النفط الإيراني. ووفق صحيفة"نيويورك تايمز"تستحوذ مشتريات هذه الدول مجتمعة على نصف صادرات إيران من النفط، ما يجعل من موقف هذه الدول شكلاً مغلفاً للمقاطعة. هل يحق للسعودية في هذه الحالة أن تعوض نقص الإمدادات في الأسواق نتيجة مقاطعة النفط الإيراني؟ لا يجوز لإيران أن تعتبر هذا عملاً عدائياً، كما فعلت قبل أيام، لأنه ببساطة ليس كذلك. فالتزام السعودية بالاستجابة لحاجة السوق هو سياسة تبنتها الرياض منذ ما قبل الثورة الإسلامية. ثانياً أن هذه السياسة تخدم مصالح السعودية كمصدر رئيس للنفط. وثالثاً أن إيران لم تستشر السعودية في سياساتها الإقليمية، ولم تطمئنها حول طبيعة برنامجها النووي، وبالتالي هي ليست ملزمة بتغطية هذه السياسات ضداً على مصالحها. رابعاً أن إيران بسياستها الإقليمية تستهدف السعودية قبل أي دولة أخرى. وليس من المنطق توقع أن تدعم السعودية سياسات تستهدفها هي قبل غيرها. هناك من يحاول تسويق الموقف الإيراني في منطقة الخليج العربي على أنه موقف دولة تعمل داخلياً على تطوير قدراتها التكنولوجية في المجال النووي لأغراض سلمية، وخارجياً هي معنية حصرياً بمقاومة الهيمنة الأميركية على المنطقة. تصوير الموقف في الخليج على هذا النحو يكاد أن يكون إعادة إنتاج للرؤية الرسمية الإيرانية، فضلاً عن أنه منطق مستورد من الثقافة السياسية لستينات القرن الماضي. وبمقتضى هذا المنطق يجب على الجميع أن يصطف وراء طهران، وإلا فهم جميعاً عملاء للغرب. وهذا منطق فيه من البساطة الشيء الكثير، لأنه يتجاهل طبيعة الجمهورية الإسلامية، وأنها دولة دينية، وبالتالي دولة طائفية. والهوية الطائفية للجمهورية الإسلامية ليست مجرد موروث ثقافي، وإلا فدول المنطقة بما فيها السعودية تشترك في هذا الموروث. ما تنفرد به إيران أن هويتها الطائفية مكرسة بمواد عدة في دستور الدولة. ومن حيث أن السياسة الخارجية للدولة هي تعبير عن طبيعتها، نجد أن السياسة الإيرانية في المنطقة تعتمد على الاصطفافات والتحالفات الطائفية. وما تفعله في الخليج هو امتداد لما تفعله في العراق، وفي الشام. مشكلة إيران مع العالم العربي أنها تعتبر نفسها دولة الشيعة في العالم، وتعتبر أن هذا يعطيها حق التدخل في الدول الأخرى تحت ذرائع مختلفة، مثل المقاومة، وحماية حق المستضعفين. وهي ذرائع تشبه تلك التي كانت الدول الاستعمارية تستخدمها لتبرير تدخلاتها آنذاك. كما يتجاهل المنطق السابق أن من بين أهداف التصعيد الإيراني في الخليج العربي محاولة الضغط هناك، للتخفيف عن النظام السوري في الشام وهو يواجه ثورة شعبية. وهذا يعني أن إيران بمثل هذا الموقف تصطدم مع الدول العربية التي تعتبر أن سقوط النظام السوري يمثل مصلحة عليا لها. وأخيراً، فإن تصوير الموقف على ذلك النحو يعفي إيران من أية مسؤولية لإيجاد حل لأزمة صنعتها بيديها. وهذا تصوير معاكس لمنطق الأشياء. لأن المخرج الوحيد من هذا المأزق هو في طهران قبل أي مكان آخر. * كاتب وأكاديمي سعودي