كان يمكن الزيارات التي يقوم بها مسؤولون في الادارة الاميركية الى آسيا الوسطى أن تكون عادية في كل المعايير، لو انها لم تأتِ في ظل ضغوط سياسية لفرض أمر واقع على ايران في ما يتعلق ببرنامجها النووي، ووسط تهديدات، متبادلة بين واشنطن وطهران. فقد أعاد التحرك الاميركي المكثف في آسيا الوسطى، الى الأذهان ما حصل عشية الحرب على أفغانستان، وإنْ كان هذه المرة يأتي وسط ظروف أكثر جاهزية، فالقواعد الأميركية العسكرية تربض في المنطقة. ففي مطار ماناس بالقرب من العاصمة القيرغيزيه بيشكيك هناك قاعدة عسكرية جويه اميركيه، إضافه الى قوة ضمن التحالف الدولي في طاجيكستان. والقاعدة العسكرية الأميركية في قيرغيزستان هي الوحيدة المتبقية في المنطقة بعد إغلاق اوزبكستان القاعدة العسكرية الاميركية في كارشي خان اباد بسبب موقف واشنطن من احداث انديجان، وانتقادها السطات الأوزبكية لانتهاكات تتعلق بحقوق الانسان، بعد تعاون مبكر اظهرته اوزبكستان في الحرب الأميركية في أفغانستان. وفي كازاخستان الدولة الأكبر في آسيا الوسطى، للولايات المتحدة الأميركية حق استخدام الأجواء ونقل المعدات والآليات العسكرية عبر أراضيها، وذلك في إطار اتفاق مع حلف الناتو وُضع منذ بدء العمليات العسكرية في أفغانستان عام 2001، تم تمديده اكثر من مرة، أما الآن فلا وجود لأي قوات عسكرية أميركية، او أي قواعد على أراضي كازاخستان، كما أكد الى"الحياة"المتحدث باسم الخارجية الكازاخستانية الياس اوماروف. وكان وزير الدفاع الكازاخستاني اديل بيك جاكسي بيكوف قال قبل اشهر خلال استقباله، بيتر ليفوي نائب وزير الدفاع الاميركي لشؤون الامن في آسيا والمحيط الهادئ:"نعتبر التعاون مع الولاياتالمتحدة الاميركيه، من اهم اتجاهات السياسة الخارجيه لدولتنا، التي تستند على المصالح المتبادله في مجالات مختلفه، بما فيها مجال الدفاع"، وأعرب الوزير الكازاخستاني عن اهتمام بلاده، في تسخير كل الامكانات في العلاقات بين الأستانة وواشنطن. وتستطيع واشنطن كذلك استخدام أجواء تركمانستان، وهي الدولة المجاورة لايران ما يجعل آسيا الوسطى إضافة الى موقعها الجيوسياسي، نقطة ارتكاز وانطلاق لشن أي عمل عسكري محتمل في المنطقة. الحرب الأميركية على العراق أعادت الاعتبار الى أهمية الوجود الأميركي في آسيا الوسطى وخصوصاً بعد تصويت البرلمان التركي ضد استخدام الأراضي التركية في تلك الحرب، فبرز دور القواعد الأميركية القريبة في دول آسيا الوسطى. إلى جانب إعلان بعض هذه الدول تأييدها الولاياتالمتحدة والاستعداد لتقديم المساعدة وبهذا اكتسبت المنطقة بعداً استراتيجياً عسكرياً، متجاوزاً الاهتمام بموارد الطاقة وخطوط الأنابيب. وفي هذا السياق، قامت هيلاري كلينتون وزيرة الخارجيه الاميركية، اواخر العام المنصرم 2011، بجولة بين دول اسيا الوسطى، زارت خلالها اوزبكستان، وطاجيكستان، وافغانستان وباكستان. البديل عن باكستان وصرح مسؤول اميركي لوسائل اعلام محليه، ان بلاده تسعى الى زيادة تدفق امداداتها للقوات الاميركيه في افغانستان عبر اوزبكستان، لتفادي طريق الامداد عبر باكستان، الذي لا يمكن التعويل عليه، وكان حديث المسؤول الاميركي على هامش زيارة كلينتون طاجيكستان وأوزبكستان، وهما البلدان الواقعان في اطار ما يعرف بشبكة التوزيع الشماليه للجيش الاميركي، والتي تمر عبر دول البلطيق وروسيا وكازاخستان، مشيراً الى ان واشنطن تسعى الى إيصال المزيد عبر وسط آسيا وتحديداً اوزبكستان. وقال المسؤول الاميركي الذي كان يرافق كلينتون بأنه"نظراً الى وضع العلاقات الاميركيه - الباكستانيه، فإن علينا دائماً ان نكون مستعدين في حال قرروا فرض قيود على امداداتنا، او اغلاق الطريق بالكامل". يذكر ان الطريق عبر اوزبكستان يشمل النقل عبر قطارات وتوزيع الوقود وغيرها من الامدادات من دون الاسلحة القتالية. وقال المسؤول ان نحو 50 في المئة من الشحنات البرية تنتقل عبر هذا الطريق. لكن السلطات الاوزبكية"تتحفظ"على الاعلان عن خط الامداد الى افغانستان خشية ان يؤدي ذلك الى هجمات انتقامية من جانب"طالبان"وغيرها من المتشددين الاسلاميين في المنطقة. وفي شباط فبراير 2009 خلال تحسن شهدته العلاقات مع واشنطن صرح الرئيس الاوزبكي اسلام كريموف بأنه سيسمح للولايات المتحدة بنقل الامدادات غير العسكرية عبر بلاده في اطار شبكة التوزيع الشمالية. وأغلقت طشقند في 2005 القاعدة الجوية الاميركية فيها التي كانت تستخدم لدعم القوات الاميركية في افغانستان بعد الانتقادات الاميركية لحملة القمع الدامية والتوترات التي شهدتها منطقة انديجان شرق البلاد. وقال مسؤولون اميركيون انه لا يجري التخطيط للتفاوض حول اعادة فتح القاعدة، وانه ليست هناك خطط ايضاً لزيادة الامدادات عبر طاجيكستان. وتعتبر كلينتون أرفع مسؤول أميركي يزور طشقند، بسبب سجلها في حقوق الانسان، ورفعت واشنطن الشهر الماضي سبع سنوات من القيود على المساعدات لهذا البلد بسبب سجله السيء في مجال حقوق الانسان. وقال مسؤولون اميركيون ان رحلة كلينتون في آسيا الوسطى، وهي الثانية لها الى المنطقة في أقل من سنة تهدف الى حد كبير الى تقديم الشكر الى طاجيكستان وأوزبكستان على المساعدة التي قدمتها الدولتان في أفغانستان. وأضافوا أنها تريد أيضاً توسيع نطاق علاقة توفر للولايات المتحدة"باباً خلفياً"مهماً الى أفغانستان وطريق امدادات بديلاً يمكن أن يكون حيوياً اذا انهارت العلاقات مع باكستان حليفتها الرئيسة في المنطقة. كما زار روبيرت بليك مساعد وزير الخارجيه الاميركية لشؤون وسط آسيا وجنوبها، قبل اسابيع قليله، تركمانستان وطاجيكستان وقيرغيزستان، والتقى هناك قادة تلك الدول، وأعاد المسؤول الاميركي وفي اكثر من مرة خلال حديثه مع الصحافيين ان واشنطن لا تنوي اقامة قواعد عسكرية جديدة في دول آسيا الوسطى، مؤكداً انه لن يكون هناك تواجد عسكري طويل الامد لبلاده في تلك المنطقة. وقام الجنرال فنسنت بروكس قائد القوات المركزية الاميركية قبل ايام، بزيارة اولى له الى اوزبكستان بعد زيارته طاجيكستان المجاورة، وكان الموضوع الرئيس لمحادثاته مع وزير الدفاع الاوزبكي كابول بيردييف، حول فائض المعدات العسكرية للقوات الاميركية في افغانستان، التي سيتم تخصيصها لبلدان اخرى، كما بحث الجانبان قضايا مكافحة الارهاب وانتشار المخدرات، والتعاون العسكري بين بلديهما. ونفت السفارة الاميركية في طاجيكستان ما نشرته بعض وسائل الاعلام الروسيه حول محادثات سرية، لاقامة قاعدة عسكرية اميركية في هذه الدولة الواقعه في آسيا الوسطى، وذكرت سفارة واشنطن في العاصمة دوشانبيه، ان الجنرال بروكس قام بزيارة تعارف الى طاجيكستان، وكانت الزيارة الأولى له لهذا البلد، ولم يجرِ اي محادثات حول اقامة قاعدة عسكرية في طاجيكستان، ولم يلتقِ مع الرئيس الطاجيكي امام علي رحمانوف. وفي هذا السياق، يعتبر تحسين البنية التحتية العسكرية في طاجيكستان وقيرغيزستان، المجاورتين لأفغانستان، نوعاً من الحاجز، أو الجدار لمنع تمدد تهديدات"طالبان"وصدّها. وأكدت السفارة الأميركية في العاصمة الطاجيكية دوشانبه، ان واشنطن ستبني مركزاً حديثاً لتدريب القوات المسلحة في غرب طاجيكستان، ومن المقرر أن يبدأ تشييده في قرية جبل كاراتاج على بعد 45 كيلومتراً من دوشانبه، وبعد التوقيع على الاتفاق لبناء المركز بين حكومتي البلدين، قدرت الكلفة الأولية له ب 10 ملايين دولار. وسيُبنى مركز تدريب مماثل أيضاً، وبتمويل أميركي في قيرغيزستان، قرب مدينة اوش جنوب البلاد. وتشير التقديرات الى ان الأميركيين مستعدون لانفاق 5 الى 10 ملايين دولار لإنشاء هذا المركز، كي يكون مؤهلاً لتدريب القوات القيرغيزية على مكافحة الارهاب. وينفي الأميركيون تقارير لبعض وسائل الإعلام العالمية عن إنشاء وزارة الدفاع الأميركية البنتاغون قواعد عسكرية جديدة في آسيا الوسطى. وفي طاجيكستان، ووفقاً لما أعلنته البعثة الديبلوماسية الأميركية، سيعطى مركز التدريب للحرس الوطني في هذا البلد، لكن يمكن أن تتدرب فيه قوات أخرى وأفراد من الجيش. وكما يوضح إعلان السفارة الأميركية، فإن إنشاء هذا المركز هو جزء من التعاون العسكري التقني بين دوشانبيه وواشنطن. ووفقاً للمعلومات ذاتها، وبفضل مساعدات واشنطن في طاجيكستان، تم بناء جسر بطول 1200 متر عبر نهر باندج الذي يفصل طاجيكستان عن أفغانستان، كما شيِدت مراكز حدودية ونقاط للجمارك على الحدود الطاجيكية - الأفغانية، مجهزة بوسائل حديثة للاتصال، وجهِز في الجنوب مركز لمكافحة الإرهاب. ولا يمكن تجاهل اول تصريح ادلى به الماز بيك اتامباييف بعد توليه رئاسة قيرغيزستان رسمياً في ما يخص القاعدة العسكرية الجوية الاميركية في بلاده، عندما أنذر الجانب الأميركي بأنه وبعد عام 2014 وانتهاء الاتفاق على وجود تلك القاعدة يجب أن يقوم البنتاغون بإغلاقها. وأشار إلى أنه في ذلك التاريخ إما أن يغادر الأميركيون مطار ماناس، أو يقومون بالاشتراك مع روسيا، أو أي دولة أخرى بإنشاء مركز مدني للشحن والترانزيت. ونفى الرئيس القيرغيزي أن يكون هذا القرار بضغط روسي، وقال إن إيران قد تطلق صورايخها على هذه القاعدة في حال تصعيد المواجهة بين إيرانوالولاياتالمتحدة. وأضاف متسائلاً:"ماذا لو سقط صاروخ على العاصمة بيشكيك؟". احتلال أذربيجان وتعهد الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف للرئيس الإيراني محمود احمدي نجاد عدم السماح باستخدام الأراضي الأذربيجانية منطلقاً لضرب إيران كما نقلت صحيفة"نيزافيسمايا"الروسية، في وقت سابق. إلا أن المحلل السياسي الأذربيجاني المعروف زردوشت علي زادة عبّر عن شكوكه في إمكان أن يتحدى إلهام علييف الإدارة الأميركية إذا رفعت الأخيرة طلباً تلتمس فيه السماح باستخدام الأراضي الأذربيجانية في الانطلاق نحو إيران خصوصاً إن نظام الحكم الذي يديره"آل علييف"في أذربيجان"يعتمد على دعم الغرب في شكل مطلق". ويرى زادة أن من شأن ذلك أن يؤدي إلى عواقب وخيمة على أذربيجان، إذ"تستطيع فرقة واحدة من الجيش الإيراني احتلال اذربيجان في زمن قصير". وفي هذا السياق لا يمكن تجاهل النيات الأميركية في نشر درع صاروخية في وسط أوروبا وآسيا والقوقاز. التحرك الأميركي على الساحة التي استخدمتها الولاياتالمتحدة في حربها على ما سمته الإرهاب الدولي في أفغانستان عام 2001، يهدف أيضاً الى ضبط تحرك دول المنطقة شرقاً وغرباً، لا سيما بعد صحوة بكين حيال تلك الدول والتعاون في إطار منظمة شنغهاي، ناهيك عن الاتفاقات الثنائية، وعودة موسكو بقوة الى المنطقة، ودخول اتفاق الاتحاد الاورآسيوي حيز التنفيذ. المنطقة تنتظر قراراً أميركياً جديداً ربما شابه ذلك الذي اتخذته الولاياتالمتحدة عشية الحادي عشر من ايلول سبتمبر. والقواعد العسكرية الأميركية في آسيا الوسطى لعبت دوراً أساسياً في تلك الحرب. وإذا كان الوضع هذه المرة أكثر تعقيداً فإن الحاجة الى أميركا ما زالت قائمة.