تناقلت بعض المنابر الالكترونية قبل حين"تقريراً"مفزعاً بقدر ما هو غريب، مفاده تعرض أربعمئة امرأة في معسكر للاجئين السوريين في جنوبتركيا لعمليات اغتصاب منهجية من رجال أمن أتراك مكلفين حراسة المعسكر. يثير هذا الرقم شكوكاً مشروعة حول التقرير ومصدره ودوافعه، وهو مجلة"آيدنلك"التنوير اليسارية. واليسار التركي، باستثناءات قليلة انعطفت نحو الليبرالية، لم يجدد نفسه منذ سقوط النموذج السوفياتي، وحافظ على عدائه للإمبريالية كسياسة هوية، إضافة إلى تعلقه الهوسي بالعلمانية في أشد نماذجها تطرفاً. فبات يكرر سردية ثابتة في رؤيته لتركيا والعالم: حزب العدالة والتنمية إسلامي رجعي معاد للعلمانية، يهدد بإقامة دولة إسلامية تدور في فلك الولاياتالمتحدة. وهكذا جمع حكم أردوغان في نظر اليسار التركي مجد الشر من طرفيه، وباتت المهمة إسقاطه بأي طريقة أو ثمن. ومنذ السبعينات اتسعت القاعدة الاجتماعية لليسار التركي في صفوف الأقلية العلوية المهمشة، فبات كل علويٍ مسيّسٍ ماركسياً بطريقة أو بأخرى ما لم يثبت العكس. وفي إطار اهتمامها ب"المسألة السورية"كما باتت تسمى، ارتفعت في الصحافة التركية منذ معركة جسر الشغور، تحذيرات من انتقال عدوى التوتر المذهبي المفترض في سورية إلى داخل الأراضي التركية، تبعاً لقراءة تقول بصراع بين نظام أقلوي في مواجهة ثورة شعبية سنّية. وتحدثت بعض الصحف فعلاً عن اصطفافات في الرأي العام التركي بين بيئات إسلامية سنّية مؤيدة للثورة الشعبية في سورية، وأخرى علوية - يسارية مدافعة عن النظام السوري في مواجهة"مؤامرات غربية"مفترضة يتعرض لها النظام الممانع. حتى أن محللاً رصيناً وحسن الاطلاع على الشؤون العربية كجنكيز تشاندار، لم يتمالك نفسه من رسم خط جغرافي وهمي يبدأ من جسر الشغور شمالاً وينتهي عند تل كلخ على الحدود اللبنانية، توقع للعمليات العسكرية للجيش السوري أن تؤدي، في المنطقة الواقعة غربه، إلى عملية تطهير مذهبية بهدف إنشاء منطقة ذات غالبية علوية. هذا وجه من وجوه القلق والاهتمام التركي بالمسألة السورية، من وجوهه الأخرى الامتداد الكردي على جانبي الحدود المشتركة، وحساسية"ولاية الشام"التاريخية وقيمتها في نظر تيار العثمانية الجديدة الذي يحلم باستعادة النفوذ الامبراطوري في القارة الإسلامية. وبعيداً من بعض التهويل في الرأي العام السوري والعربي من سعي تركيا الأردوغانية إلى بسط هيمنتها على المجال العربي الإسلامي، لدى الأتراك فعلاً طموح امبريالي يتناسب وحجم ما حققوه في العقد الأخير من نمو اقتصادي وإنجازات ثقافية وسياسية أضافت إلى السياسة الدولية نكهة تركية مميزة، وإن كانت نظرية تصفير المشكلات مع الدول المجاورة والأبعد قد تعرضت لامتحانات قاسية في السنوات الأخيرة، سواء في ما يتصل بالموقف من إيران أو إسرائيل أو الموقف من الربيع العربي وبخاصة في ليبيا وسورية. أرادت تركيا منذ بداية الحركة الاحتجاجية السلمية في سورية إنقاذ حليفها النظام السوري من طريق إسداء النصائح إليه في صدد الإصلاحات الواجب تحقيقها لتجنب المصير الأسوأ. بيد أن أردوغان وداوود أوغلو اصطدما بالعناد السوري في التمسك بالقمع الوحشي مخرجاً وحيداً من أزمة الحكم. وكانت الزيارة الأخيرة لوزير الخارجية التركي إلى دمشق بمثابة قطع شعرة معاوية مع النظام والانخراط في التفكير في البدائل المحتملة. حيّر التردد التركي وبطء تطور موقفه المعلن المراقبين، وأثار استياء المحتجين السوريين الذين كانوا علقوا بعض الآمال على دور تركي إيجابي من زاوية نظرهم، فأخذت ترتفع في بعض التظاهرات لافتات غاضبة ضد تركيا وأردوغان، بعدما كان العلم التركي يرفرف في بعض التظاهرات قبل ذلك. ما هو سر هذا التردد؟ لا شك في أن الحكومة التركية غسلت يديها تماماً من نظام دمشق الحليف، وأخذت تتطلع إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه من مصالح استراتيجية لها مع سورية الجغرافيا والشعب. لكن القيادة التركية وضعت نفسها، من خلال التصريحات النارية لأردوغان ضد وحشية النظام السوري، في وضع في غاية الحرج. فعلى من يطلق التهديدات أن يملك القدرة على فعل ما يهدد به، وإلا باتت صدقية الدولة والدور التركيان في مهب الريح. هنا بالضبط ظهرت هشاشة سياسة القوة الناعمة وتصفير المشكلات. وكان الاختبار الأول حين هاجمت قوات إسرائيلية خاصة سفينة مرمرة الزرقاء وقتلت تسعة مواطنين أتراك من النشطاء المناصرين للشعب الفلسطيني. أما الاختبار الثاني فكان مع نظام دمشق الذي لا يختلف بوحشيته عن الإسرائيليين. ولم يكن أمام أردوغان ما يفعله أمام تطرف كل من نتانياهو والأسد وتصلبهما، على رغم تصاعد بعض الأصوات الرومانسية في الرأي العام التركي بوجوب التدخل العسكري التركي في سورية لحماية المدنيين وإسقاط نظام الأسد. ومع أن هذا الأخير لم يوفر جهداً لتقديم ذرائع للحكومة التركية لتشريع تدخل عسكري مماثل، من خلال عودته إلى اللعب بورقة حزب العمال الكردستاني الذي صعّد حملته العسكرية ضد الجيش التركي على إيقاع تصاعد أزمته الداخلية، لم يجازف أردوغان في إعادة سيناريو التهديد بالحرب في 1998 الذي انتهى بطرد عبدالله أوجلان من الأراضي السورية وإلقاء القبض عليه لاحقاً بعملية دقيقة شاركت فيها جهات استخبارية عدة. تجربة 2003 حين صوّت البرلمان التركي بالرفض على قرار يسمح لقوات التحالف الدولي باستخدام الأراضي التركية معبراً لغزو العراق بهدف إسقاط نظام صدام حسين، شكلت رضّة مؤسسة في السياسة الخارجية التركية في مطلع عهد أردوغان. فبقدر ما منحت تلك التجربة تركيا شعوراً بالزهو والاعتداد والثقة الذاتية لنجاحها في الخروج على حليفها الأطلسي، فستدفع قادة تركيا الجدد لاحقاً إلى الشعور بالندم لكونهم حرموا أنفسهم من المشاركة في رسم مصير العراق ما بعد سقوط صدام حسين. ولعل نكسة داوود أوغلو السياسية في بغداد بلغت ذروة تجليها حين عاد حلفاء إيران إلى سدة الحكم بعد انتخابات العام الماضي بقيادة المالكي. الدرس العراقي هذا هو الذي يفسر تردد أردوغان أمام الحالة السورية المستعصية، ومن المرجح أن يضبط الأتراك إيقاع حركتهم في الفترة المقبلة على إيقاع الولاياتالمتحدة وحلف الناتو. * كاتب سوري