تبدو القيمة الاستراتيجية لسقوط العقيد الليبي معمر القذافي كبيرة وغنية. فقد تجدد"الربيع العربي"بعدما أصابه الإحباط والتردد من الحالة الليبية. فقبل أسبوع من سقوط القذافي كان الحديث منتشراً عن فشل التدخل العسكري في ليبيا أو على الأقل سوء تخطيطه، وسوء تنظيم المعارضة الليبية وكثرة انقساماتها وانسداد الأفق أمام إصرار القذافي و"صموده"، وأخطار ابتعاد الحراك الشعبي الليبي عن التحرك السلمي كما حدث في تونس ومصر واليمن وسورية ولجوئه كأول حالة في"الربيع العربي"إلى العمل المسلح. قبل أسابيع كنا نتحدث كيف أن"الربيع العربي"يتحوّل في ليبيا إلى صيف حارق. اليوم تغيرت القصة، وانتصار الثوار الليبيين قدّم رواية أخرى ذات أبعاد تاريخية ينطق مضمونها بما يأتي: أولاً، لأنّ هذا الانتصار جاء بمساعدة عربية ودولية قوية، وعبر التدخل العسكري الخارجي، فإنه قدّم نموذجاً للمؤيدين للتدخل الخارجي بشروط تُبعده من مضمون الاحتلال، في حال عجز أي شعب عن التخلص من طغيان حاكمه ووحشيته وسرقته لخيرات بلاده وخنقه للحريات ولأي اعتراض شعبي. ولنتذكر أنه لولا تدخل"الناتو"لخنق القذافي التمرد الشعبي بكل سهولة. أي أن ليبيا، التي أضعفت فيها الضربات الجوية لحلف"الناتو"قدرات القذافي القتالية وعزلته سياسياً وميدانياً، تنضم اليوم تقريباً إلى مثال سيراليون لا إلى نموذجي أفغانستان والعراق. ثانياً، ما كان لثوار ليبيا أنْ يحققوا انتصارهم على الطاغية، وما كان لعمليات"الناتو"أنْ تساعدهم في ذلك، لولا الغطاء العربي. وثمة مراقبون يلحظون أنّ الجزء الأكبر من زخم صنع السياسة في إطار"الربيع العربي"وفي الحالة الليبية بخاصة، جاء الآن من دول خليجية، وكذلك تركيا والأردن. ثالثاً، سقوط القذافي سينُظر إليه على أنه انتصار لنهج إدارة الرئيس أوباما بأنْ يضطلع حلفاء أميركا بدور أكثر بروزاً في أية حروب خارجية. وقد شددت الولاياتالمتحدة في تعاطيها مع الحالتين الليبية والسورية على توافر غطاء وتأييد عربي وأوروبي يسبق التدخل العسكري ليبيا أو التصعيد السياسي والاقتصادي سورية. بمعنى آخر، فإن"التعددية العمل مع الآخرين هي شعار الغرب اليوم، وليس العمل الانفرادي"، وهذا عنصر جديد مهم في مضمون التحالف الأميركي - الأوروبي من جهة أو التحالف الأميركي - العربي/ الخليجي من جهة ثانية. وهو عنصر آخذ في التبلور منذ فترة تحت عنوان: تعلّم الدروس من حربي أفغانستان والعراق. والغطاء العربي الذي وفرته الجامعة العربية للتحرك الدولي في ليبيا ومواقف دول الخليج من الأزمة السورية أضعفت حجج موسكو وبكين الداعية الى عدم التدخل في ليبيا أو سورية، وجعلت موقفهما متردداً ومتأخراً عن الحراك الشعبي العربي، بل داعماً لأنظمة الحكم القائمة، وهو ما سيترك أثره، على الأرجح، في مصالحهما المستقبلية مع أنظمة الحكم الجديدة في المنطقة. رابعاً، لفتت تحليلات إلى أنّ أكبر نجاح حققه مصطفى عبدالجليل، رئيس المجلس الوطني الانتقالي، هو تمكنه من إقناع قائد الكتيبة المكلفة من القذافي حماية طرابلس بإلقاء السلاح، ما أدى إلى تفادي حمام دم ومنع انتشار الفوضى وأعمال الانتقام وسلب الدولة كما في النموذج العراقي. وقد نجح قادة الثوار، إلى حد ما، قبيل سقوط طرابلس وباب العزيزية، بالإصرار على توجيه المقاتلين الفاتحين بأن يلتزموا القانون ويحفظوا حقوق الإنسان ويبتعدوا عن روح الانتقام والغرور بالنصر، كما أن حديثهم عن أنّ عناصر الكتائب هم في الحقيقة أبناء ليبيا إلا إذا أصروا على خيانتها، كان درساً حكيماً وذكياً في استجلاب روح المصالحة والتوافق وإعادة البناء، ولعل هذا في ظل الإقرار بأن نوازع الانتقام لم تغب تماماً بين بعض صفوف الثوار أهم تحدٍ أمام الثوار اليوم، وهو أن يعطوا نموذجاً على أن التخلص من الطغاة لا يعني الفوضى والانقسامات وتفكك المجتمعات والخراب وغياب الأمن والاستقرار، فهل ينجحون في ذلك؟ خامساً، إن الانخراط التركي القوي في الشأنين السوري والليبي، والتحولات التي مرت بها أنقرة في مواقفها من هذين الملفين، تضعف نظرية"تصفير المشاكل"التي ارتكزت عليها تركيا - حزب العدالة والتنمية، كما نظّر لها وزير الخارجية أحمد داود أوغلو، في سياستها الخارجية الجديدة في المنطقة خلال العقد الماضي تقريباً. فاليوم تكتشف أنقرة مجدداً أنّ الدول ليست جمعيات خيرية، وأنّ ثمة محاور وتحالفات في المنطقة واصطفافات مذهبية وطائفية لا تخطئها العين الثاقبة، تبدو معها سياسة"كسب الجميع"سياسة ساذجة وحالمة، لا تُدرك مضمون تعقيدات السياسة في هذه المنطقة من العالم. والأرجح أن تركيا اليوم تدرك أن"تصفير المشاكل"لا معنى له مع جارتها الجنوبية، وأنّ الحياد أو رفض التدخل الغربي في ليبيا، كما كان الموقف التركي بداية الأزمة الليبية، كان كفيلاً بأن يحرم أنقرة مكتسبات استراتيجية مهمة لو أنها بقيت على فهمها السابق لما يجري. نظرية"تصفير المشاكل"كانت تجمع في طياتها متناقضات يصعب هضمها على المدى البعيد، إذ يصعب على أي دولة، حتى لو كانت ذات ثقل إقليمي وازن مثل تركيا، أن تجمع بين سورية وإيران وحزب الله وحماس ودول الخليج وأميركا وإسرائيل... يصعب على دولة أن تكون عضواً فاعلاً في حلف"الناتو"ثم تستمر في لعب"الدور الشعبوي"إلى نهايته من دون توقف. فوقع الصراع والفرز والاصطفاف في المنطقة يزداد مع"الربيع العربي"، وهذا الربيع يقدّم الحجج الوافرة لتأكيد أن ما قيل عن عبقرية ديبلوماسية"تصفير المشاكل"يَثبُت الآن قصوره وأنه أقرب إلى الشعار والإنشاء منه إلى حركة الدول والمصالح و"كولسات"السياسة ولؤم منطقها في كثير من الأحيان. ما يتبدى الآن، على الأرجح، أنّ"تصفير المشاكل"كان نظرية حالمة لتصوّر المصالح التركية في المنطقة، وقد ثبت لأنقرة عبر المسألتين الليبية والسورية أنّ اكتساب الخصوم وربما الأعداء جزء لا مفر منه في السياسة، مثلما هو اكتساب الأصدقاء والحلفاء.