منذ عصور قديمة ومنطقة الخليج تحتل مكانة مهمة بحكم موقعها المتميز، ووجود هذا الممر المائي الحيوي المهم الواصل بين حضارات العالم القديم البابلية والسومرية والآشورية من جهة وحضارات وادي السند من جهة أخرى، وكذلك منطقة وصل بين حضارات وادي الرافدين وحضارات جنوب الجزيرة العربية. وبقيت أهمية الموقع تتضاعف كلما تنامت قوة الحضارات وتقدمها في المناطق المجاورة وكلما تعقدت العلاقات الدولية بين أمم وشعوب وأديان مختلفة. هذا الخليج لم يفقد أهميته على مدى القرون حتى أصبح واحداً من أهم المناطق في العالم في القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، وسيظل مهماً للقرون المقبلة لاقتصاد العالم أجمع وصناعته. وخلال فترة الصراع الدولي الكبير بين إمبراطوريتي فارس وبيزنطة كان للخليج في ذلك الصراع نصيب، فمنه انطلقت أساطيل فارس إلى جنوب الجزيرة العربية للحد من تفوق البيزنطيين هناك من خلال حلفائهم الأحباش، ثم غربت شمس هاتين الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية على أثر إطلالة فجر الإسلام الخالد الذي انطلق على أيدي أبناء الجزيرة ليقض قواعد أعتى إمبراطوريات العالم القديم وأكثرها تفوقاً وسيطرة وجبروتاً بل وأكثرها احتقاراً لأبناء الجزيرة العربية. التي كان أبناؤها قبل الإسلام لا يعدو دورهم كونهم حراس ثغور لكل من الإمبراطوريتين. ومنذ ذلك الفجر الخالد أصبح الخليج بحيرة عربية، فعبر مياهه عبرت القبائل العربية إلى ضفته الشرقية لتواصل مسيرة نشر الدعوة إلى بلاد السند والهند والصين، ومن تلك القبائل من استوطن على ضفاف الخليج الشرقية إلى عهد قريب وربما إلى هذا اليوم إلا أنهم ذابوا وذوبوا في المجتمع الفارسي الجديد فانسلخوا بالإكراه عن جذورهم العربية أمام حملات التهجير الإجباري من مواطنهم إلى مواطن أخرى في شمال فارس. وتمضي مسيرة التاريخ، وتجدّ أمور جديدة لم تكن في الحسبان حيث شهدت مياه خليجنا العربي هجمة صليبية قام بها حفدة الرومان والبيزنطيين، وتحالفوا هذه المرة مع مملكة فارس الصفوية وريثة الساسانيين، فتحالفوا ضد عروبة الخليج وضد أبنائه حفدة القادة الفاتحين من عرب الجزيرة الذين قاموا بنشر رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وكأن التحالف الصليبي - الفارسي القصد منه تصفية حسابات تاريخية. تمثلت تلك الهجمة الصليبية في جحافل البرتغاليين الذين لم يكتفوا بما قاموا به من دور في طرد المسلمين العرب من إسبانيا والقيام بهجماتهم الشرسة ضد المسلمين في المغرب العربي بل تجاوزوا في شن هجماتهم إلى مياه بحر العرب في جنوب الجزيرة العربية، ومياه الخليج العربي، فعاثوا فيها فساداً، وحولوا أمنها إلى فوضى ورخاءها الاقتصادي إلى فقر مدقع، ومدنها الزاهرة إلى أكوام من الخراب، وحاولوا استعباد أبنائها بعد أن كانوا بأصالتهم ومثلهم هم من عرّف العالم أجمع معاني الحرية. ومن المؤسف حقاً أن تقف حكومة فارس جنباً إلى جنب مع جحافل الغُزاة والقراصنة الأوروبيين ضد عرب الخليج، بل بلغ بهم الأمر أن أعلنوا استعدادهم بمد يد الغدر والخيانة لأعداء الإسلام ليس فقط ضد عرب الخليج بل ضد أقدس مقدسات الإسلام مكةالمكرمة والمدينة المنورة التي كانت أحد أهداف الغزاة الصليبييند. بدر الدين عباس الخصوصي: دراسات في تاريخ الخليج العربي الحديث المعاصر، ج1، ص20. أمام هذا التحالف الصليبي - الفارسي هبت الدولة العثمانية التي ظهرت كقوة إسلامية فتية عُلقت عليها الآمال، وتطلعت إليها الأنظار في التصدي للعدو الغاشم، فحولت وجهة فتوحاتها شرقاً للدفاع عن المقدسات الإسلامية، حيث أحكمت سيطرتها على مداخل البحر الأحمر - بعد أن أسقطت حكومة المماليك المتهالكة في مصر - فأبعدت عنه شبح خطر القوى الأوروبية لفترة طويلة وحولته إلى بحيرة إسلامية طوال القرون التالية، وكذلك أحكمت سيطرتها على العراق، واتخذت منه قاعدة متقدمة للتصدي لخصومها الفرس والبرتغاليين، فساعدت على طرد البرتغاليين من مياه الخليج، وحفظت للعراق عروبته أمام التحديات الفارسية التي ما فتئت المرة تلو الأخرى تعمل وبكل الوسائل من أجل السيطرة على العراق بوابة الوطن العربي الشرقية بما فيه مدينة البصرة العظيمة بوابة الخليج وقلعة أمنه الصامدة. أفرزت فترة الهجمات المعادية لعروبة وإسلام الخليج ظهور قوى سياسية عربية محلية أي نابعة من رحم هذه الأرض أرض جزيرة العرب، لتقوم بواجبها هي بنفسها للتصدي لقوى الشر والعدوان، سواء كان ذلك الشر ممثلاً في بقايا البرتغاليين الذين فتحوا الطريق لقوى أوروبية أخرى في ما بعد أو أمام تنامي قوة دولة فارس منذ ظهور الشاه إسماعيل الصفوي على مسرح السياسة الإيرانية وإقامة الدولة الصفوية 1501م، التي ناصبت الخليج العربي وأبناءه العداء في شكل مكشوف تمثل في تعاونها مع الدول الأوروبية حيناً وقيامها بمحاولات غزو بلدان الخليج والعراق أحياناً أخرى، وطمس كل مظهر عروبي فيهما، وكان من أبرز تلك القوى العربية المحلية وأقدمها قوة عُمان الفتية بزعامة اليعاربة الذي سجلوا أنصع صفحة ليس في تاريخ عُمان الحديث فحسب بل في تاريخ الجزيرة العربية كلها، حينما تمكنوا من خلق وحدة وطنية شاملة تصدوا من خلالها للوجود البرتغالي وتمكنوا بفضل تلك الوحدة الوطنية من طرد البرتغاليين من مياهنا الخليجية طرداً نهائياً، وواصلوا ملاحقتهم إلى سواحل أفريقيا الشرقية فأجلوهم من معظم قواعدهم هناك، وكونوا بذلك نواة الحزام الأمني الواقي ضد تكرار أي محاولة لهجمات أوروبية أخرى حينما مدت تلك الدولة الفتية نفوذها إلى السواحل الأفريقية الشرقية. ولم تكف دول فارس المتعاقبة عن تحرشاتها بأمن الخليج، ولم تكن راضية بظهور أي قوة عربية على ضفافه"بل أزعجها تنامي قوة عُمان فعمدت إلى إضعاف تلك القوة حينما تدخلت في شؤون عُمان الداخلية، وذلك في عهد نادر شاه المعروف بنزعته العدوانية وسياسته التوسعية، حيث وجدت لها منفذاً من خلال اندلاع الصراع على السلطة بين أبناء الأسرة اليعربية العُمانية، وأدى هذا الصراع بكل أسف إلى تدخل فارس عسكرياً في الوقوف إلى جانب بعض أجنحة الصراع، فكان وسيلة لسيطرة القوات الفارسية على مقدرات الشعب العربي العُماني، ووصف المؤرخ العُماني ابن رزيق وحشية جنود الاحتلال الفارسي الذي عانى منه الشعب العُماني أشد أنواع القسوة والجبروت من قتل للرجال وسبي للنساء حميد بن محمد بن رزيق، الفتح المبين في سيرة السادة البوسعيديين، وزارة التراث القومي، سلطنة عمان ص 337 - 8. وتخليصاً لعُمان من محنتها هيأ الله لها قائداً فذاً من أبنائها ذلك هو الإمام أحمد بن سعيد المؤسس للأسرة البوسعيدية التي يتحدّر منها السلطان قابوس بن سعيد إمام عُمان اليوم، حيث أخذ على نفسه عهداً وأعطى لشعب عُمان وعداً بأنه سيحرر البلاد من الغزاة، فكان بوعده باراً وفى عهده صادقاً، إذ بفضل جهاده وصلابة موقفه تمكن من تحرير التراب العُماني من الاحتلال الفارسي بدءاً بتوحيد الجبهة العُمانية نفسها، وإزالة كل أثر للفرقة والاختلاف، فاحتل بذلك العمل العظيم مكانة الندية مع أسلافه من عظماء الأسرة اليعربية الذين كان لهم السبق في تحرير عُمان من البرتغاليين، وظلّ طوال حياته يدرك ما تشكله فارس من خطورة على أمن الخليج سواء بإمكاناتها الذاتية - كلما آنست في نفسها قوة - أو من خلال تعاونها وتحالفها مع القوى الأوروبية التي خلفت البرتغاليين من هولنديين وفرنسيين وإنكليز، فأعد الإمام أحمد بن سعيد للوقوف في وجه تلك المخاطر العدة، فأنشأ أكبر قوة بحرية عُمانية بل أكبر قوة بحرية عربية عرفتها مياه الخليج العربي وبحر العرب، وكان أسطوله أقوى أسطول شهده المحيط الهندي خلال هذه الفترة، ليس فقط للأغراض الحربية إنما للأغراض التجارية أيضاً، فإلى جانب التصدي للخطر الفارسي الذي عجز في مجاراة عُمان بخاصة في قوته البحرية، لأن فارس لم تكن ذات يوم دولة بحرية بل كانت تخشى البحر وتتلقى على مياهه الهزائم من القوى العربية التي أثبتت مهارتها الفائقة في حروب البر والبحر، فإن أحمد بن سعيد سخّر الأسطول العُماني للتصدي لأساطيل القرصنة الأوروبية التي كانت تمارس قرصنة مكشوفة في المحيط الهندي وفي بحر العرب ضد سفن التجّار العرب الذين كانوا ولقرون طويلة سادة ذلك المحيط الذي لم يكن منطقة صراع قبل مجيء الأوروبيين إليه، بل كان محيط وصل ثقافي وحضاري وتجاري بين شبه القارة الهندية وما وراءها من بلاد الشرق وبين المنطقة العربية التي كانت معبراً ثقافياً وحضارياً بين الشرق والغرب من أفضل المصادر التي ألقت الأضواء على النشاط التجاري في المحيط الهندي ودور العرب في ذلك هذان المصدران: K.N. Chaudhuri, Trade and civilization in the Indian Ocean, An Economic History from the Rise of Islam to 1750, Cambridge Univer ? sity Press, 1985 Philip D. Curtin, Curtin, Cross Cultural Trade in World History, Cambridge University Press, 1984.. خلال فترة حكم نادر شاه بلادَ فارس حاول أن يمد نفوذه ليشمل أجزاء من العراق وفرض سيطرته على الخليج العربي، بيد أن صمود الموصل في وقفته الباسلة ضد حشود نادر شاه خيبت آماله في النيل من سيادة العراق. أما في منطقة الخليج فإن صمود القيادة العُمانية ومعها عرب الخليج جميعاً قد أفشلت كل محاولة قام بها نادر شاه في فرض أي نوع من أنواع النفوذ على الخليج العربي، وعلى على رغم محاولاته المتكررة، وقبله عباس الكبير في بناء أسطول يمكنهما من التغلب على قوة عُمان البحرية. مات نادر شاه ولم يُحقق طموحاته التوسعية على حساب عروبة العراق والخليج، فدبت الفتنة والصراع بين الطامعين على السلطة في إيران من بعده إلى أن تمكن في النهاية كريم خان زند من التغلب على منافسيه واستحوذ على مقاليد الأمور في بلاد فارس، ولكي يحافظ على انفراده بالسلطة أمام منافسيه الكثيرين فقد فكر في خطة يلهي بها الشعب الإيراني ويصرف بها أنظار منافسيه. وتمثلت هذه الخطة في إعلان عزمه على مواصلة سياسة سلفه، وذلك بتجديد فكرة غزو العراق وغزو الخليج العربي لتنفيذ مآربه مستغلاً الظروف الصعبة التي كانت تمر بها الدولة العثمانية إبان حربها مع روسيا وخروجها منهزمة من تلك الحرب، وتوقيع اتفاقية"كوجك كينارجة 1774"الشهيرة التي كانت تعد أحد المنعطفات الخطرة في تاريخ الدولة العثمانية. ويمم كريم زند بحشوده صوب البصرة بقيادة أخيه صادق حيث كان ينوي بعد احتلالها المسير براً لضرب عُمان عماد القوة العربية في منطقة الخليج، وذلك بعد أن أعيت إيران الحيل في محاولاتها المتكررة السابقة للتفوق على قوة عُمان البحرية، فحاولت أن تغزوها براً ولكن الأمر الذي لم تحسب له القيادة الفارسية حساباً هو إسقاط قدرة القوى العربية في الصمود في وجه محاولات الفرس، حيث اتحدت القبائل العربية الكبرى في المنطقة حينذاك وهي المنتفق وبني خالد وغيرهما من القبائل العربية، ووقفت وقفة بطولية في وجه الغزاة، بينما جهز الإمام أحمد بن سعيد أسطوله المظفر بقيادة ابنه هلال لفك الحصار الذي ضربه الأعداء حول البصرة، وكتب الإمام أحمد إلى السلطان العثماني يخبره بأن ما قام به من نصرة لدحر العدوان عن البصرة إنما هو واجب تفرضه ضرورة الحفاظ على أمن الخليج، وأشار إلى أن ما يضر البصرة ينعكس أثره على أمن وسلامة عُمان، حيث ذكر في رسالته ما نصه:"... ولأن البصرة وعُمان متحدتا الأشكال متناسختان في حالي الفساد وصلاح الأحوال وفي ما نعتقد أن ذلك رضى الله وغيرة على دين الله"مقتبس من نص لرسالة مطولة بعث بها الإمام أحمد بن سعيد إلى السلطان العثماني بتاريخ 20 شعبان 1193ه أصل الرسالة محفوظ في أرشيف رئاسة الوزراء باسطنبول في دفتر نامهمايون رقم 9، ص 105. وادعى قادة فارس في ما بعد في رسائل بعثوا بها إلى السلطان العثماني يبررون غزوهم البصرة بأن هدفهم لم يكن احتلال البصرة بل كان هدفهم غزو عُمان من طريق البر، وفي هذا الخصوص أشار الإمام العُماني في رسالة أخرى بعث بها إلى السلطان العثماني يفند فيها بطلان الادعاء والأوهام الفارسية حيث وصف محاولتهم تلك بأنها محاولة خرافية لا يمكن قوة إيران مهما كانت أن تنفذها، وقال: عن ادعائهم ما هي إلا معاذير تبريرية، الهدف منها الاستيلاء على البصرة لإشاعة الفوضى فيها، وعدم الاستقرار في الخليج في شكل عام، حيث قال عنهم. كيف يختالون"بمرتض إبدال مدينة السلام وعلوج الأوغاد استخدمت الولدان واستباحت عواتق الحجال واستأصلت الدور بعد فتكها ببطارق الرجال وأفسدت في الأرض بإهلاك الحرث والنسل بعد إرسال الشكايت كذا إليكم تشيب الجدّ بالهزل بزعمهم على المرحوم عمر باشا والي بغداد في طلب الرخصة للعبور إلى عمان افتراء عليه، واقتراحاً أن يكون أهل البصرة منهم على أمان، ومن المحال على أمثالهم استطاعة السبيل لبعد تنايف يتيه بها الخريب كذا ويحار الدليل ومن البحر قد أعجزتهم الحيل والتجارب ولإدراك الأماني عزت عليهم المطالب، فكم بغوا وآتاهم من حيث لم يحتسبوا"وكم طغوا والله أركسهم بما كسبوا"وكم عفونا عنهم ولا فخر بعد اقتدار"وكم ألبسوا أثياب الخزي والذلة والعار"وما زعموا أجلكم الله عنهم وذكرهم فذلك نزر قليل من مكرهم"رسالة الإمام أحمد بن سعيد إلى السلطان العثماني بتاريخ 16 ربيع الأول 1193ه أرشيف رئاسة الوزراء باسطنبول ? دفتر نامهمايون رقم 9، ص 97 - 99. هكذا، كانت آلام البصرة تستجيب لها مسقط، ومن أجل خليج عربي آمن مستقر توحدت صفوف عرب الخليج من شماله إلى جنوبه، حاضرته وباديته لتقف في جبهة واحدة وفي خندق واحد للدفاع عن عروبة الخليج وأمنه واستقراره، هكذا حدثنا التاريخ، وهكذا نقف اليوم حيث التاريخ يُعيد نفسه فليس للبلاد من حامٍ غير أهلها. وتوحيد صفوفهم وتوظيف إمكاناتهم في مجابهة خصومهم. * كاتب سعودي