عاشت واشنطن في عزلة"مبدأ مونرو"1823 بعيداً عن ضجيج حروب وأزمات القارة الأوروبية"العجوز"، وكان الدخول الأول لها عملياً في الشؤون العالمية هو عام 1898، عندما نشبت الحرب الإسبانية - الأميركية، قبل أن تعود لعزلتها، وسط أجواء تجمُّعِ غيوم الحرب العالمية، والتي اضطرت العاصمة الأميركية لدخولها في نيسان ابريل 1917، بعد سنتين وثمانية أشهر من نشوبها، ضد الألمان والنمساويين. في يوم 18 كانون الثاني يناير 1918، قدَّم الرئيس الأميركي وودرو ويلسون إعلانَ مبادئ سمِّي ب النقاط الأربع عشرة، تضمنت مبادئ:"حق تقرير المصير"، و"الحقوق المتساوية اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وسياسياً لجميع البشر"، و"إنشاء عصبة دولية تحفظ سلماً دولياً دائماً"، أراد من خلالها ليس فقط وضع مبادئ للسياسة العالمية للولايات المتحدة، وإنما أيضاً"تحقيق هدف رسم نظام دولي جديد وأفضل". لم يكن ذلك الإعلان صادماً حلفاءَ الرئيس ويلسون في لندن وباريس فقط، وإنما كان كذلك أيضاً لوزير خارجيته لانسينغ في الجانب الآخر، بحيث كان رأي وزير الخارجية الأميركي أن"السيادة الشرعية للدول المتكونة القائمة هي فوق أي اعتبار، وتسبق - كأولوية - الإرادةَ الشعبية للأقليات"، محذِّراً من أن دفع مبدأ حق تقرير المصير إلى نهاياته سيؤدي إلى فوضى وصراعات لا يمكن السيطرة عليها، عبر"تفجير البنى في الدول القائمة". كان ويلسون يرمي - إضافة إلى قناعاته بمبادئ ومثاليات إعلانه، ومنها الديموقراطية، التي كانت الجزء الرئيسي في أيديولوجية الرئيس الأميركي - إلى تقويض محادثات"بريست ليتوفسك"، بين حكام روسيا الجدد من البلاشفة وبين الألمان، الرامية إلى انسحاب روسي منفرد من الحرب، وجذب النمساويين بعيداً عن الألمان في الوقت نفسه، عبر طرحه ل كونفيدرالية دول الدانوب كصيغة جديدة للحفاظ على ممتلكات العرش النمسوي ? المجري المهدَّدة بالتقسيم. لم يستطع ويلسون تحقيق ذلك، مع توقيع معاهدة"بريست ليتوفسك"بعد شهرين، ثم مع انهيار وتذرر تلك الممتلكات لآل هابسبورغ في فيينا، مع انتصار حلفائه في الحرب في 11 تشرين الثاني نوفمبر 1918. ثم كانت مفاجأة الرئيس ويلسون أكبر في مؤتمر الصلح بقصر فرساي بباريس 1919، الذي اشترك في أعماله كمفاوض على رغم معارضة أركان إدارته، لمّا خرج خاليَ الوفاض مع إقرار المؤتمر تكريسَ المنظمة الدولية التي اقترحها، ليس من أجل تحقيق مبادئه الأربعة عشر وإنما لتكون"راعيةً لتقاسم الأراضي الذي حصل بين لندن وباريس"، وهو ما عجّل في سقوطه طريح الفراش في الخريف اللاحق. زاد الكونغرس بعدها في شعور الرئيس الأميركي بالإحباط، عندما رفض اقتراح انضمام الولاياتالمتحدة إلى عصبة الأمم، معيداً واشنطن إلى عزلة مبدأ مونرو، قبل أن تجبر الطائرات اليابانية التي دمرت الأسطول الأميركي في مرفأ بيرل هاربور في 7 كانون الأول ديسمبر 1941، الأميركان على الانخراط في الحرب العالمية الثانية ضد دول المحور، ثم ليقودوا المعسكر الغربي ضد السوفيات بعد الانتصار في الحرب على هتلر واليابانيين. خلال فترة الحرب الباردة مع موسكو 1947-1989، لم تستخدم واشنطن مبادئ أو عدة أيديولوجية، بعكس السوفيات، بل كانت هناك ضدية أميركية تحدِّد نفسها وهويتها عبر الوقوف ضد الخصم، الذي لم يكن عندها أيُّ وسواس تجاه استخدام كافة الوسائل والطرق لهزيمته، وهذا واضح من"مبدأ ترومان"آذار/ مارس1947، لما عُرضت المساعدة الأميركية على كل الدول التي تواجه الخطر الشيوعي، ومن"مشروع أيزنهاور"كانون الثاني/ يناير 1957، الذي اشترط المساعدة الأميركية لدول الشرق الأوسط، شرط وقوفها بعيداً أو ضد موسكو. هذا أدى إلى براغماتية أميركية بلا ضفاف، حيث تحالفت واشنطن ودعمت أنظمة ديموقراطية في الغرب الأوروبي في الوقت نفسه الذي وقفت وراء انقلابات دموية في غواتيمالا 1954 وأندونيسيا 1965 وتشيلي 1973 ضد الشيوعيين واليساريين، وذلك من أجل خلق جبهة عالمية ضد السوفيات أوسد أي ثغرة ممكن أن ينفذوا من خلالها، هم وحلفاؤهم، إلى هذه المنطقة أو تلك. كانت هذه الإستراتيجية واضحة عند وزير الخارجية الأميركي جون فوستر دالاس في الخمسينات وهو ابن أخت لانسينغ، وصولاً إلى هنري كيسنجر بمرحلتيه كمستشار للأمن القومي وكوزير للخارجية 1969-1977، وقدم الأخير تنظيراً لهذه الإستراتيجية عندما اعتبرها تحت خيمة المدرسة الواقعية، التي تسعى لتحقيق أهداف السياسة الخارجية من"خلال البنى والوقائع القائمة"عند القوى الحليفة، وليس من خلال نموذج مفترض أو محدد أيديولوجياً أو كبنى للنظم سياسية. من هنا، أتى نقد كيسنجر وهجومه على سياسات الرئيس كارتر 1977-1981، الذي وضع موضوع حقوق الإنسان في مرتبة أيديولوجية واستخدمه ضد السوفيات، حيث رأى كيسنجر أن هذا قد أصاب وأربك حلفاء واشنطن، مثل ماركوس في الفيليبين وحكام كوريا الجنوبية العسكريين وبينوشيه في تشيلي، معتبراً أنه من الخطأ استخدام مبادئ أيديولوجية في السياسة الخارجية، وإنما تتحدد نجاعة الأخيرة من خلال تحقيق هدف هزيمة الخصم المحدد، تماماً كما تقاس الأفكار والممارسات في الفلسفة البراغماتية ذات المنشأ الأميركي بنتائجها وليس بمحتواها. خلال عهود ريغان وبوش الأب وكلينتون، سادت المدرسة الواقعية في السياسة الخارجية الأميركية: أثناء عهد بوش الابن 2001-2009 جرت استعادة لمبدئية ويلسون في السياسة الخارجية مِن قِبَل المحافظين الجدد، الذين أعطوا مسحة أيديولوجية كبرى للسياسات الخارجية لذلك العهد، في خلطة فكرية امتزجت فيها الديموقراطية مع الليبرالية الجديدة في الاقتصاد والنزعة المحافظة الجديدة الرافضة لأفكار ما بعد عصر الأنوار الفرنسي، لتتحول واشنطن عبر هذا إلى حامل تبشيري ل الديموقراطية، أو تتذرع بتبشيريتها، في أثناء تحقيق أهداف سياستها الخارجية، كما جرى في غزو 2003 للعراق، أو أثناء ضغطها على الخصوم، والحلفاء، من العرب في فترة 2002-2007. مع تغيُّر ميزان القوى لغير صالح واشنطن في منطقة الشرق الأوسط، وهو ما تلمسته الإدارة الأميركية مع تقرير بيكر- هاملتون 6 كانون الأول 2006، جرت الاستدارة نحو السياسات"الواقعية"، وكانت استقالة وزير الدفاع رامسفيلد قبل شهر من ذلك التقرير ثم نائبه وولفوفيتز، وقبلهما رئيس مجلس تخطيط السياسات في البنتاغون ريتشارد بيرل، من العلامات الكبرى على هذه الاستدارة. خلال ما تبقى من عهد بوش الابن، كان واضحاً أن هزيمة ما تبقى من محافظين جدد لمصلحة"الواقعيين"هبّات أيديولوجية هنا أو هناك: استمر هذا النهج"الواقعي"خلال سنتين من عهد أوباما، إلى أن جاءت الأحداث المصرية ما بعد 25 كانون الثاني/ يناير 2011 وما أعقبها عربياً، حيث بدأت واشنطن مجدداً باستخدام الديموقراطية مجدداً، ولكن من دون شعاراتية أيديولوجية، كما في عهدي ويلسون وبوش الابن، وإنما عبر الركوب السياسي على موجة ديموقراطية في الشارع العربي، رأت إدارة أوباما مصلحةً في عدم الوقوف ضدها، ولو كان هذا على حساب حلفاء مثل الرئيس مبارك، لمصلحة تعويم المصالح الأميركية عبر السباحة وفق اتجاه تلك الموجة، ولو أن واشنطن تبقى، كما في موقفها مما جرى في البحرين، حذرةً من استفادة الخصوم الإقليميين إيران من الأحداث الداخلية، وهو شيء تفعله هي في ليبيا الآن لكي ترسم عبر"داخلٍ جديد هناك"جزءاً من"الشرق الأوسط الجديد"، الذي ربما تفكر، ولكن بالتأكيد ليس على طريقة دونالد رامسفيلد في عراق 2003، في إعادة صوغه. * كاتب سوري