لم تنجز الثورة المصرية أياً من أهدافها بعد، ولا تزال تواجه مخاضاً عسيراً ليس فقط بسبب محاولات نظام حسني مبارك احتواءها وإجهاضها عبر"لعبة الحوار"التي يرعاها نائب الرئيس، وإنما أيضاً بسبب محاولات البعض استثمار الثورة و"ركوبها"من أجل تحقيق مكاسب شخصية وفئوية وفق منطق انتهازي فجّ. فقد قامت الثورة من أجل إنهاء عصر سياسي بأكمله بكل ما له وما عليه، وكان شعارها هو تغيير"رأس النظام"باعتباره الحلقة الأولى فى نظام سلطوي شديد المركزية والتمحور حول شخص الرئيس. وكان منطقياً أن يكون هذا الهدف بمثابة"الحبل السرّي"الذي يربط، ولا يزال، بين جماعات وفئات وأفراد جاؤوا جميعاً من خلفيات شتّى، سياسية واجتماعية وعُمرية، ولكنهم اتفقوا جميعاً على إنجاز هذا الهدف. وهو ما شكّل نقطة فارقة في إعادة صهر الشخصية المصرية التي سحقتها سياسات التهميش والتفتيت والتجزئة خلال العقود الثلاثة الماضية، وأعاد إنتاج مفهوم"الجماعة الوطنية"الراسخ ولكن بطبعة أكثر حداثية وتحضّراً. وقد بدا المشهد وكأننا أمام عملية إعادة تجميع لأجزاء الصورة"المصرية"التي أخذت تتبلور طيلة السنوات الخمس الماضية فى شكل احتجاجات عمالية ومهنية وطالبية إلى أن جاءت لحظة الانطلاق الجماعي نحو تحقيق الهدف الرئيس. لم تغب الرمزية عن رسم ملامح هذه الصورة التي باتت هي الحدث ذاته. وحين يسترجع العقل شريط أحداث الأسبوعين الماضيين يكتشف أنه أمام ملحمة مملوءة بدلالات يعجز القلم عن وصفها. من وقوف الثائرين أمام عربات"القهر"فوق"كوبري قصر النيل"، إلى شاب يفتح ذراعيه أمام طلقات"الاستبداد"مستشهداً فى سبيل الحرية، وعزيمة والدٍ فقد ابنه ويقّدم ولديْه الآخرين فداء لإنجاز المهمة، وعمليات"قنص"جبانة من فوق أسطح المنازل لأبرياء عُزّل، إلى شباب يحمي أهله ووطنه من غدر"الأشقياء"وميليشيات وزارة الداخلية من خلال ما عُرف باللجان الشعبية، وانتهاء بحالة من التماهي والإخاء النقي بين مسلمين وأقباط لم تجف دموعهم على ضحايا كنسية"القديسيْن". في المقابل، رأينا نظاماً مترنحاً مرتبكاً، وعصابات وميليشيات تفر هاربة أمام غضب الثائرين، ورئيساً يصرّ على حماية مقعده بأي ثمن، ووزراء ومسؤولين وإعلاميين وحزبيين يتحسسون رؤوسهم خوفاً من أن يأتي دورهم. ورأينا رجالاً ترّبوا فى كنف السلطة واعتاشوا على فسادها يطلقون خيولهم وجمالهم كي تدهس المتظاهرين في مشهد لا يحتاج الى أكثر من السخرية. ومن دون مقدّمات، رأينا أحزاباً وقوى سياسية ولجاناً للحكمة وشخصيات توصف ب"العامة"تحاول"امتطاء"الثورة وتسعى لحصد ثمارها من دون تفويض، وما أن أطلق نائب الرئيس"لعبة الحوار"حتى هرعوا إلى المائدة يبحثون عن مكاسبهم ونسوا أولئك المرابضين فى"ميدان التحرير". وفرحوا بمجرد لقاء السلطة وغاب عنهم فقدانها للشرعية بفعل الثورة، وتذرّعوا بالعُقدة الدستورية وضرورة بقاء رأس النظام لإحداث"التحول"المطلوب، ونسوا بطلان الدستور بعد أن تجاوزه الواقع الجديد. انطلقوا جميعاً كي يأكلوا ثمرة لم تنضج بعد، فذاقوا مرارتها. وفي حين عادت جماعة"الإخوان المسلمين"بسرعة بعدما اكتشفت"الفخ"المنصوب لها ولغيرها، لا تزال القوى الأخرى تراوح مكانها بحثاً عن أية مكاسب من نظام اعتادت التمسّح به. لم تحقق الثورة حتى الآن هدفها الأساسي وهو الإطاحة بالنظام القديم بشخوصه ورموزه ومؤسساته وأدواته، ولا نعرف في الخبرات المشابهة ثورة قامت كي تعود إلى ما كانت عليه من قبل، وإلا فقدت اسمها وصفتها. فالثورة تنطوي على معنيين أساسيين هما: التغيير وإعادة البناء. فلا التغيير وقع، ولا مرحلة إعادة البناء قد بدأت. منطقياً أن يُصاب البعض بالتململ والتردد، بخاصة في ظل ملابسات وتعقيدات الحالة المصرية التي تتعرض لضغوط خارجية من أجل إجهاض ثورتها والالتفاف عليها، ومن الطبيعي أن يحاول البعض امتطاءها من أجل البحث عن شرعية"موقتة"ستزول بنهاية الوضع القائم وانكشاف الأوزان الحقيقية لكل طرف. بيد أن من السخرية أن يظن النظام الحالي أنه قد استعاد الثقة وأنه يسعى لإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل 25 كانون الثاني يناير ولكن بأسلوب جديد ولغة أكثر تواضعاً. الخطر الراهن على الثورة المصرية لا يأتي من داخل النظام المشغول حالياً بإعادة ترتيب أوراقه فى محاولة للتماسك والبقاء، وإنما من"الثوّار"أنفسهم ما لم ينتبهوا لمخاطر المرحلة الراهنة. فلا"العجلة"في تحقيق الأهداف وقطف الثمار مطلوبة، ولا الصراعات الجانبية والهامشية صحيّة في هذه اللحظة التاريخية. ويكفي"الثوّار"أنهم نالوا احترام الجميع داخلياً وخارجياً، وأعادوا بثورتهم مصر إلى قلب المشهد العالمي على مدار أسبوعين بعدما كادت أن تسقط نهائياً بفعل سياسات النظام الحالي. لذا فإن اعتقادي أن ثمة نقاطاً مهمّة يجب أن يلتفت إليها"الثوّار"خلال المرحلة المقبلة كي يحموا ثورتهم وينجزوا مهمتهم، لعل أولها أن الثورات لا تعترف بمنطق التجزئة، فالتاريخ لا يعترف بأنصاف"الثورات"، فإما ثورة أو لا شيء. بكلمات أخرى، إما أن تنجز ثورة 25 يناير أهدافها التي ضحّى من أجلها المئات، وإما أن تسقط من ذاكرة التاريخ باعتبارها مجرد حدث عارض. ثانياً، يجب أن يدرك الثائرون أن الشرعية الآن هي للمجتمع وليست للنظام. فإحدى ثمار الثورة أنها أعادت تصحيح الخلل الرهيب في العلاقة بين الدولة والمجتمع بحيث بات هذا الأخير هو المحدد لشكل العلاقة وهو الذي يجب أن يضع قواعد اللعبة ويحدد سقفها وشروطها وعلى الجميع الالتزام بها حكماً ومعارضة. ثالثاً، يجب أن يفطن الثوّار إلى أن شرعية النظام الحالي وإن سقطت، فإن مؤسساته وشخوصه وأدواته لا تزال حاضرة وفاعلة وتستعد لمرحلة جديدة من الصراع من أجل إجهاض الثورة. فالذي يحمي النظام الآن ليس الرئيس مبارك أو نائبه، وإنما بالأساس تلك الطبقة"الطفيلية"التي نمت وترعرعت على سياسات الاستبداد والفساد طيلة ثلاثة عقود، وتسعى الآن لحماية امتيازاتها وبقائها بشراسة. ولسوء الحظ فإن هذه الطبقة أشبه بالسرطان المتمدد في نسيج المجتمع المصري، وهي تضم فئات عديدة من سياسيين ورجال أعمال وأحزاب وصحافيين وإعلاميين ورؤساء جامعات ومديرين عامين وعُمداً في القرى والنجوع المصرية. جميعهم مستفيدون من بقاء النظام، وهم حين يدافعون عنه إنما يدافعون عن بقائهم ولن يتورعوا عن استخدام كافة الوسائل لتحقيق ذلك. رابعاً، يجب أن يتذكر الثوّار دائماً أن ما يجمعهم ويوحّدهم ليس فقط مظلوميتهم السياسية والاجتماعية من النظام الحالي فحسب، وإنما أيضاً مستقبلهم ومستقبل أبنائهم وحلمهم بتأسيس دولة ديموقراطية عصرية تقوم على أسس الحرية والعدالة والمواطنة. وهو هدف كافٍ لشحن العزائم وتجديد الهمم كلما ارتخت. ويجب ألاّ يغيب عنهم أنهم لا يصارعون القمع والاستبداد والفساد فحسب، وإنما يناضلون ضد منظومة من القيم المعيبة التي توطّنت في المجتمع المصري وأفقدته هويته وخصوصيته خلال العقدين الماضيين. وهم بثورتهم هذه إنما يصحّحون خطأ تاريخياً تسبب فيه نظام ثورة يوليو 1952 الذي رفض"إقامة حياة ديموقراطية سليمة"وفق ما نص على ذلك البيان الشهير للضباط الأحرار آنذاك. خامساً، يجب ألا ينشغل الثوّار بمتابعة تفاصيل الحوار الجاري حالياً بين النظام والمعارضة، وألا يلتفتوا لأية نتائج قد تسفر عنه. فهُم في النهاية من يمنح الشرعية وليس مائدة الحوار. وكلما تماسك الثوّار وأصرّوا على إكمال ما بدأوه، كلما تقزّمت الأطراف الأخرى وتشتّت جهودها. سادساً، يجب ألا يستحضر الثوّار ما حدث في الحالة التونسية التي شهدت انهيار النظام في أقل من ثلاثة أسابيع، فالحالة المصرية مختلفة بقدر اختلاف الدولة والمجتمع في كلا الحالتين. ما يعني الهدوء وعدم الاستعجال، فهناك حالات عديدة ظلت فيها الثورة مشتعلة سنوات، كما حدث مع الثورة الفرنسية إبان القرن الثامن عشر، أو شهوراً كما كانت الحال في الثورتين الإيرانية والإندونيسية اللتين أطاحتا بأنظمة ديكتاتورية مشابهة. سابعاً، يجب أن تنتقل الحركة الثورية من دوائرها الأفقية إلى شكل مؤسسي مبدئي يتحدث بلسان أغلب الثائرين، وأن يتم الاتفاق على قيادة رمزية للحركة. وربما يكون الدكتور محمد البرادعي هو الأقرب للعب هذا الدور، كونه لم يلوّث بعفن السلطة ولم يشارك في حوارها الجاري مع بقية الأحزاب، فضلاً عن التزامه بمطالب الحركة وطموحاتها. وأخيراً، يجب على شباب الثورة ألا يقعوا في"فخ"الشخصنة والرغبة في الظهور الإعلامي، بخاصة في وسائل الإعلام الرسمية التي ترتدي الآن ثوب"الحمل"من أجل استقطاب هؤلاء الشباب وتفريغ ثورتهم من مضمونها. في المقابل فإن ثمة جهداً مطلوباً من القوى النابضة في المجتمع المصري من أجل حماية الثورة واحتضانها، وأقصد بها منظمات المجتمع المدني والهيئات الحقوقية والمهنية. ومن جهة ثالثة، يجب على الكتلة الصامتة التي ظلت على الحياد طيلة ثلاثة عقود أن تنفض عن كاهلها ثقافة الخوف التي سقطت بسقوط المؤسسة الأمنية خلال الأحداث الأخيرة، وأن تؤدي واجبها في حماية ودعم الثائرين. وأخيراً، يجب أن يدرك المصريون جميعاً أن ثورتهم إذا نجحت ستغيّر ملامح الشرق الأوسط وتجبر العالم على احترام هويتنا وثقافتنا العربية والإسلامية. * أكاديمي مصري - جامعة دورهام، بريطانيا [email protected]