على أرض مصر يعيش شعب واحد يتكون من غالبية تدين بالإسلام وأقلية مسيحية. وهذه الأقلية ليست عرقية أو سلالية اثنية أو لغوية، وهو الأمر الذي ميّز شعب مصر بدرجة عالية من التماسك والاندماج الاجتماعي. وساهمت مشاريع بناء الدولة المدنية الحديثة في مصر منذ القرن ال19، في صياغة نموذج متقدم للتكامل بين المسلمين والأقباط، خصوصاً في عصر محمد علي، ما أدى إلى تولي اثنين من الأقباط منصب رئيس وزراء مصر عام 8091 وعام 9191، وتولي قبطي رئاسة مجلس النواب، فضلاً عن الكثير من الوزراء الأقباط في الحكومات المتعاقبة قبل 23 يوليو 1952. لذلك لم يكن مستغرباً عند كل احتقان طائفي يلوح في الأفق أو فتنة تقع بالفعل على أرض مصر بين 1952 ? 2011، أن ينشط الحديث عن الوطن الواحد، وحقوق المواطن ووضع الأقليات، وأن تسارع السلطات باستحضار وحدة الهلال والصليب أثناء ثورة 1919، وشعارها الأثيري:"الدين لله والوطن للجميع". منذ سبعينات القرن ال20 تفننت السلطة السياسية ? الدينية في مصر في تحويل"أنصاف الاعتقادات"عند العامة إلى"اعتقادات تامة"، ومن ثم عرضت جميع المفاهيم الدينية لخطر التيبس والتحول إلى مجرد مظاهر خارجية. وأصبح الميل إلى تطبيق التصورات الدينية، في جميع الأوقات وعلى كل الأشياء، مظهراً عميقاً لحياة التدين الشكلي. ويدل التنامي الذي لا حد له للمحرمات والتابوهات وانتشار الفتاوى والتفسيرات الدينية على زيادة في"الكم"على حساب"الكيف"نفسه، وهو ما جعل الدين مثقلاً أكثر مما ينبغي، بينما تراجعت القيم الأخلاقية ? بشهادة الجميع - إلى أدنى مستوى لها. وسط هذا المناخ المشبع بالحساسية الدينية، أو قُل الهوس الديني، ضاع"الوطن"وضاعت المواطنة وتحلل التماسك الاجتماعي وتفكك النسيج الواحد الذي ظلت مصر تتباهى به قروناً وسط شعوب المنطقة والعالم. أصبحت الدولة المصرية تعيش"حالة فريدة"، في نهاية القرن ال20 والعقد الأول من القرن ال21، لا هي دولة مدنية خالصة ولا هي دولة دينية كاملة. وبين استغلال الدين في العمل السياسي، للوصول إلى الحكم، واستغلال النظام السياسي للدين لترسيخ السلطة حتى ولو كانت منفردة، تحقيقاً لأهداف سياسية وحزبية، لم تستطع تحقيقها بالوسائل المدنية، يمكننا أن نستكشف مصادر المياه الجوفية التي كادت أن تفتك بالوطن الواحد. الأخطر من ذلك هو الإصرار"المريب"في التعامل مع"القضية القبطية"أمنياً وليس سياسياً، وهو الذي جعل الأمن طرفاً أساسياً في كل الأحداث الطائفية، منذ أحداث أخميم عام 1970 وحتى تفجير كنيسة"القديسين"عام 2011. بدأ ذلك في عهد الرئيس السادات بإهمال التقرير"العمدة"للدكتور جمال العطيفي عام 1972، ثم التسويف في التعاطي مع المشاكل الملحة والعاجلة للأقباط في عهد الرئيس مبارك، كقانون الأحوال الشخصية وقانون بناء دور العبادة الموحد وقانون عدم التمييز الديني، وكلها ركائز تدعم فكرة المساواة الاجتماعية وترسخ مبدأ المواطنة. لكن، ماذا حدث مع فجر 25 كانون الثاني يناير 2011؟ كيف تمرد المصريون على السلطة السياسية ? الدينية الرسمية؟ وهل اختلف الدور الوطني للأقباط في ثورة 2011 عن دورهم في ثورة 1919؟ وهذه بعض الحقائق التي قد تضيع في خضم الأحداث السريعة المتلاحقة، بصفتي مواطناً مصرياً مسيحياً شرّفه شباب 25 يناير باختياره كأحد أمناء مجلس الثورة، وحملوه مسؤولية كبيرة في الدفاع عن مطالبهم وحماية الثورة: أولاً: لقد اكتشف الأقباط أنفسهم في ثورة 25 يناير كغيرهم من المصريين، وأصبحوا للمرة الأولى أقل استعداداً لطاعة قيادتهم الدينية، التي أعلنت رفضها للتظاهر، بينما كان القس سرجيوس يخطب في المتظاهرين في ساحة الجامع الأزهر في ثورة 1919، وهو تحول جديد يشير إلى أن الأقباط في ثورة 2011 رفضوا بالإجماع كونهم"طائفة دينية"مسؤول عنها سياسياً البابا، بل أعلن الأقباط للعالم بخروجهم في التظاهرات واستشهاد بعضهم واختلاط دمائهم بدماء إخوانهم المسلمين، أنهم مواطنون مصريون وليسوا مجرد"رعايا"بمفهوم الدولة الدينية، ما يعني التعامل مع قضيتهم منذ الآن فصاعداً كقضية سياسية تخص المصريين على أرضية المواطنة. ثانياً: على مدى 18 يوماً لم يرفع شعار ديني واحد في هذه الثورة الشعبية المصرية، وهو ما كشف عن أن النظام السابق كان يؤجج المناخ الطائفي حتي يبتز الغرب، من خلال تهديده بفزاعة"الإخوان المسلمين"في الداخل والخارج، وليس مصادفة أن أبشع فترات معاناة الأقباط هي في ال 12 سنة الأخيرة، منذ أحداث الكشح الأولى وحتى كنيسة"القديسين"في الإسكندرية، تمت في عهد وزير الداخلية السابق حبيب العادلي الذي استمر 14 سنةً، حافلة بأسوأ جرائم التعذيب وامتهان حقوق الإنسان في أقسام الشرطة والسجون، وما تعذيب خالد سعيد مصري مسلم حتى الموت الذي أشعل ثورة الشباب على ال"فايسبوك"، إلا نموذجاً لبشاعة هذا العهد الدموي. لقد شاهد العالم كيف أقيمت القداديس يومي الأحد والجمعة على أرض ميدان التحرير، التي سجد عليها المسلمون خمس مرات في اليوم، وعلى رغم غياب الأمن وانهيار جهاز الشرطة لم يسجل حادث طائفي، وهو ما بدد الفكرة المسمومة التي روج لها النظام السابق في الداخل والخارج، باعتباره الحامي الأمين للأقباط من المسلمين! ثالثاً: لقد بلور الشعار الذي رفعه الشباب الأحرار في ميدان التحرير منذ اليوم الأول للثورة:"مدنية... مدنية. سلمية... سلمية"، أن إقامة الدولة المدنية الديموقراطية الدستورية وإرساء مبدأ"المواطنة"، هو مطلب عام لكل القوى الوطنية والتيارات السياسية على اختلافها وتعددها، وهو الكفيل وحده بإزالة كل المخاوف من شبح الدولة الدينية أو الدولة العسكرية، والسبيل الى تحقيق الدولة العصرية في الألفية الثالثة، حيث يُستبدل اليوم مبدأ"السيادة"الوطنية بمبدأ"الديموقراطية"في النظام الدولي الجديد. * أكاديمي مصري