كان الداعي إلى إنشاء مجلس للحكماء هو ذلك الأمر العجيب الذي عرض فجأة للحياة واعترض نهرها السيال، وتقاتل المواطنون والصفوة حوله، لكنه بقي بلا حل، وخشيَ رأس الدولة من حدوث انفلات عام، يخرج الأمور إلى ثورة تزيحه هو ونظامه، واقترح اقتراحاً ماكراً ليبقي القضية معلقة سنوات، عندما وقف خطيباً، وقال:"منذ أشهر والناس هايصة والكلام لا يتوقف حول هذا الموضوع الخطير، وكان من واجبي أن أصل إلى حل في هذه المسألة، وانتهت بي الفكرة إلى ضرورة أن يكون هناك مجلس للحكماء في هذه الدولة السائبة، وسنؤجل النظر في الأمر سنوات حتى ننتهي من بناء مقر لهذا المجلس". ثم مال وهمس لمستشاره: - ليس هناك أجمل من التأجيل طريقاً لكسب أية قضية عويصة. هز المستشار رأسه موافقاً، بينما واصل الرئيس موضحاً في شكل نهائي: - وإلى أن ينتهي البناء والاختيار، من سأسمع حسه يلج في القضية، سأقطع خبره من الدنيا وربما الآخرة أيضاً، حيث لن يستدل ملاك أو حتى شيطان على أثر له. وعليها، انتهت المجادلات الحادة في المقاهي، والمناقشات المستعرة في المنتديات، والمساجلات الساخنة في الإعلام، وأعلنت رئاسة الوزراء يوم التوقف عن المهاترة عيداً قومياً تعطل فيه المصالح الحكومية والمدارس تحت اسم"عيد الهدنة". وسارع شعراء الأغاني بالطبع إلى كتابة أغاني تناسب الحال مثل: - عيد الهدنة يا عيدنا هدتنا وهدتّنا وبقينا هاديين. كما أعلن عن تشكيل عصابي - آه آسف - أقصد لجنة موسعة من 999 شخصية تمثل طبقات الشعب وفئاته كافة، تعمل اللجنة على بذل كل المجهودات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية وصولاً لاختيار ال33 حكيماً المنوط بهم حل المسألة ووضع الأسس النهائية لحل القضية. ومضت الأعوام عاماً تلو عام، كان الناس يذكرون القضية همساً: - وبعد؟ - نحن في انتظار أن ينتهوا من البناء وبعدها ربك يفرجها. * لكن الأمر الغريب الذي واجه لجنة اختيار مجلس الحكماء، هو أنه كلما اقتربوا من الاختيار النهائي لكامل عدد الحكماء، يجيء طائر الموت إلى الجمهورية، وقبل أن يغادر يكون قد قبض أرواح عدد كبير من عجائز الحكماء المختارين كان أغلبهم يموت نتيجة لحمى غامضة، حار في أمرها الأطباء، وعرفت اصطلاحاً باسم حمى الحكماء. وكلما عاودت اللجنة الاختيار، عاود طائر الموت الاختيار في اتجاه عكسي بمفهوم السلب. وإحقاقاً للحق، وتفادياً لدهاء زائر الموت، رؤي أن يكون نصف مجلس الحكماء من النساء العجائز ونصفه الآخر من الرجال الأصغر سناً، هكذا أمكن ببراعة وبحيلة بسيطة الالتفاف نصف لفة حول دهاء الموت وطائره الأريب. ثم جاء اليوم الذي انتهوا فيه من الاختيار والبناء معاً، ولم يعد إلا بحث القضية/المسألة/الإشكالية، التي باتت ليالي طويلة تنتظر حكمة الحكماء. نعم انتهوا من اختيار ال33 حكيماً، وأعلنت اللجنة أسماءهم مصحوبة بالدعاء والغناء وهتاف الجماهير كلما أعلن اسم واحد منهم: - حبك مانجه وبعدك رنجه وعين الحسود فيها عود وكمانجه. بينما كان الاقتراح الذي قبل من الجميع، أن يكون زي الحكيم أبيض ناصع البياض، ليعكس ضوء الحكمة، ولم يضرب فيه مخراز أو إبرة، بل يلف كالساري حول جسده، وعلى الرأس غطاء أقرب إلى الطرطور، ليحبس الأفكار، التي تتقافز من عقله، وفي يد كل حكيم مصباح به شمعة، يضيئها قبل أن يدخل رواق الحكمة. * في العاشرة صباحاً، بدأت أفواج الحكماء تهل، ومشى الحكماء عبر أروقة المبنى حاملين فوانيس الحكمة المضاءة بالشموع، حتى انتهوا إلى الرواق الكبير. جلسوا إلى مقاعد نصف الدائرة التي تتوسط القاعة، أمامهم منصة الرئاسة ومستشاريها، وعلى الحائط المقابل أبرزت جدارية منحوتة ثلاثة رجال وضعوا أسس الحكمة في ما مضى من الأزمنة. دق الرئيس بمطرقته الخشبية سطح المنضدة، ساد صمت عميق، وبدا الترقب الشديد على ملامح أهل الحكمة وسدنتها، لكن الرئيس انتظر حتى يستوعبوا جرعة الصمت المركز، ثم قال: - اليوم لنا أن نفخر بما حققنا وأنجزنا، اليوم فقط ستجد هذه البلاد السلام والحكمة معاً، تذكروا هذا جيدا وأنتم تتدارسون الأمر، لتضعوا حلاً لهذه الإشكالية التي عرضت للبلاد منذ سنوات ولم نجد لها حلاً حتى اليوم، وتذكروا أن مصير البلاد وأملها بين أيديكم، ولنبدأ. وما أن انتهى حتى بدأت المجادلات الحادة، والمناقشات الساخنة، والمساجلات المستعرة، وتناثرت الأصوات في الرواق وطارت العبارات فوق رأس الرئيس ومستشاريه: - لنقل إنها مسألة. - بل هي مشكلة. - إنما هي مشكل. - الأدق إنها إشكالية. - دقق النظر أكثر، ستجد أنها قضية. - لنطرح الموضوع على بساط البحث. * - لنطرحه، نعم لنطرحه. جاء الخدم ببساط البحث وفردوه على منضدة الحكماء، فعاودوا النظر في الأمر، وتصايحوا: - لنقل من البداية إنها إشكالية، فنتفق. - ولماذا لا نتفق أكثر ونقول إنها قضية، وإنه من الواجب قتلها بحثاً. - وهل تحمل معك ما سوف تقتلها به؟ - لست إرهابياً ولا غبياً لأحمل معي سلاحاً. كان رئيس الحكماء قد أصيب بلوثة من كثرة الضجيج، وأخذ يدق في جنون بمطرقته الخشبية على سطح المنضدة، وضاع صوت الدق في أصوات الضجيج، حتى انكسر مقبض الشاكوش، وحل نصف صمت غريب عليهم، فانتبهوا، رأوا رئيس الحكماء ينظر إلى مقبض المطرقة ووجهه محتقن بالدماء من الشعور بالمهانة وضياع الهيبة، فماذا هو فاعل من دون مطرقة؟ قادته حكمته البالغة إلى القول: - إيه، يا حكماء، إيه، أعطوا فرصة لصوت العقل، لنقل إننا سنضعها بلا تحديد على بساط البحث. برقت العيون من الدهشة أمام دقة المصطلح، عندها هز الحكيم الأكبر رأسه، وقال: - لنتفق مرة. واتفقوا مرة، ومالت الرؤوس، وتصادمت حواف الطراطير، وأحدثت الأفكار المخبأة تحتها شرراً تطاير في أرجاء القاعة، وعادت الأصوات تعلو، وتعلو حتى جاوزت حدود جمهورية العقلاء، ولم يجد الحكيم الأكبر مفراً سوى أن يلقي بمقبض المطرقة على وسع يده في الهواء وهو يصيح: - اقترح أن يظل المجلس في حالة انعقاد دائم، مادام الموضوع/المشكل /المشكلة/المسألة/القضية/الإشكالية لم تحل. * مر الوقت، واستحالت الأيام سنيناً، ولا يزال مجلس الحكماء منعقداً انعقاداً دائماً، وكلما جاء طائر الموت ودق أبواب المجلس لا يجد من يفتح له، يجلس على إحدى قبتي المجلس، يراجع الكشوف التي جاء بها، ويهرش قفاه، ثم يضرب بجناحيه الهواء وهو يهمس لنفسه: - إن التأجيل خير وسيلة لكسب أية قضية.