تعود إجراءات الصحة العامة، والتقليح للوقاية من الأمراض الوبائية وعدواها، الى القرن التاسع عشر. فغداة الحمى الصفراء التي أصابت برشلونة في 1821، تولى الملك الفرنسي قيادة مكافحة الأوبئة. وأولى قانون 1837 رؤساء البلديات المسؤولية عن الصحة العامة. وفي 1848، عممت على المحافظات والنواحي ومجالس الوقاية الصحية، وعهد إليها بمساعدة المحافظين والقائمّقامين إدارة المنشآت الصناعية الخطرة والمضرة. ويلزم قانون 1892، المنظم مهنة الطبابة ومزاولتها، الأطباء بالتبليغ عن الأمراض المعدية حال ملاحظتها وثباتها. والحق أن أول قانون يصدق القول فيه انه قانون"صحة عامة"نشر في 15 شباط فبراير 1902، في أعقاب 10 أعوام من المناقشات البرلمانية وفي مجلس الشيوخ. وفرض القانون التلقيح و"الإعادة"، او التلقيح الثاني، في مناسبة تفشي الجدري. وهي المرة الأولى التي تتولى فيها الدولة التدخل في الحياة الخاصة، والخطوة الأولى على طريق إنشاء دولة الرعاية. وكانت بلدان أوروبية سبقت فرنسا الى الإجراء السياسي والإداري هذا. فسنّت هولندا قانون التلقيح الإلزامي في 1872، واقتدت السويد بها بعد عامين، ولحقت بهما بريطانيا في 1875، ثم النمسا - المجر في 1876، وصربيا 1881 وإيطاليا 1888. فأشبهت فرنسا الاستثناء. وأوقع وباء الجدري في صفوف الجيش الفرنسي 23469 ضحية، وأصاب المرض 200 ألف جندي، أي ثلث عديد الجيش. وتفشى الوباء في الصين من طريق أميركا، ودام الى 1874. وحمَّل الأطباء الفرنسيون أنفسهم بعض المسؤولية عن هزيمة جيشهم في الحرب البروسية ? الفرنسية التي تفشى الوباء في أثنائها. فحمل ذلك الأطباء على الانخراط في العمل السياسي والبرلماني. فدخلوا الهيئة الوطنية التشريعية، وكانوا الكتلة الثانية، عدداً، بعد المحامين، في مجالس 1870 ? 1914. والوباء الثاني الذي بث الخوف في النفوس هو وباء الكوليرا الخامس في السنوات الثماني بين 1884 و1892، وقتل 15 ألف ضحية. والعدد هذا هو أقل 7 مرات من عدد ضحايا الوباء في 1832، ويفوق كثيراً نظيره في بريطانيا التي تجنبت تفشيه وآثاره القاتلة. فالبريطانيون أدركوا في وقت مبكر أن الكوليرا، شأن التيفوئيد، إنما تنتقل بواسطة المياه الموبوءة التي لوثها غائط المصابين ونفايات أمعائهم ومصارينهم. ويترتب على هذا فصل أقنية توزيع مياه الشفة الشرب عن شبكة صرف المياه المبتذلة ومجاريرها. ولم تكن فرنسا أنجزت هذا الفصل أو انتبهت الى ضرورته، والى إرساء سياسة الصحة العامة والنظافة. وطوال القرن التاسع عشر، غذت الأيديولوجية الليبرالية تحفظاً قوياً عن اضطلاع الدولة بدور ما في الحياة الخاصة أو الدائرة العائلية وتلك التي تملكها الأسرة ملكاً فردياً وخاصاً. فلم يكن يحق لطبيب أن يدخل مبنى حصلت فيه حوادث مؤذية متعاقبة إلا بطلب من صاحب المصنع وإجازة منه. وبقيت الإجراءات القانونية والإدارية الحكومية التي تحظّر تشغيل الأولاد والفتيان من غير أثر، وقتاً طويلاً، وذلك لأن آباء الأولاد أنكروا على الموظفين الحكوميين والبلديين الحق في التفتيش والمراقبة والتقصي، وحالوا بين الموظفين وبين التحري عن حال الأولاد. ولم تضعف الأيديولوجية الليبرالية الا حين تصدّت لها أيديولوجية مخالفة هي التضامنية "سوليداريسم"، في عهد الجمهورية الفرنسية الثالثة 1875 - 1930. ودعت الأيديولوجية الجديدة والناشئة الى اعتناء السلطات العامة، والرأي العام قبلها، بأثر أفعال الأفراد ونتائج هذه الأفعال، في المصالح المشتركة. ونبهت الجمهور الى أضرار رشح الحفر المنزلية على شبكة جر مياه الشرب وتوزيعها. وهذا يشبه مكافحة أثر الصناعات الملوثة، اليوم، في أحوال البيئة والمناخ. وأثر في تأخر فرنسا عن الركب الأوروبي الصحي والوقائي عامل ناجم عن الهيئات والمؤسسات. فالتشريعات التي استنت لمراقبة المنشآت الصناعية غير الصحية، وتسمى اليوم ملوثة، عهد بتطبيقها الى وزارة التجارة. وتولت الوزارة هذه الإشراف على مجالس الوقاية. وهذه أنشئت في بداية القرن التاسع عشر في باريس والمدن الكبيرة في سياق تعاظم التصنيع وتوسيع دائرته، وعمت البلاد في 1848 على وجه التقريب. ولكن مسائل مثل العناية الصحية العامة، والوقاية من الأمراض الوبائية والمعدية، وجرّ مياه الشفة، وتصريف النفايات، لا شأن لوزارة التجارة بها، ولا سلطة لها عليها. وتولى إداريون جمهوريون استلهموا التضامنية، في ثمانينات القرن التاسع عشر، من أمثال محافظ مدينة فان، هنري ? شارني مونو، او نائب مدينة الهافر ورئيس بلديتها، جول سيغفريد، نقل صلاحيات السياسة والإدارة الصحيتين الى وزارة الداخلية. فجمعوا ما يعود من الصلاحيات هذه الى إعالة المعوزين واليتامى والمسنين والمجانين والمرضى، الى صلاحيات العناية والنظافة العموميتين. وألحقوا الصنفين والبابين بمديرية الرعاية والعناية العموميتين. فوسع أهل الوقاية الصحية العامة، منذ 1889، التوسل بجهاز إداري وقانوني الى سن قوانين تنظم السياسة الصحية، وتراقب ظروف العمل وشروطه، وتتحرى عن سكن العمال وملائمته معايير الصحة والسلامة، وتحمي الطفولة من قسوة التشغيل الطويل والمرهق، وتتعهد الرعاية الطبية في المدن والأرياف، وغيرها. ولا ريب في أن الشرط الأول الذي لا بد لسياسة صحية ناجعة أن تحوزه هو الثقة التي قد يوليها المجتمع المدني للدولة وسلطاتها وإداراتها وقد لا يوليها إياها. والسياسة الصحية امتحان هذه الثقة واختبارها، على ما رأينا في حملة التلقيح ضد انفلونزا الخنازير H1N1، في 2009. فالإقبال الأعلى على التلقيح حصل في بلدان مضى على انتخابها حكوماتها، او تجديد الانتخاب، وقت قصير ? في الولاياتالمتحدة وكندا والسويد والنروج. والإقبال الأدنى حصل في بلدان لم يمحض مواطنوها حكوماتهم إلا ثقة ضئيلة في استطلاعات الرأي، شأن فرنسا وألمانيا وبريطانيا وإسبانيا. والتلقيح لا يخلو من مخاطر تحف به، ويتوقعها المقبل على التلقيح ويخشاها. وعلى هذا، فالإقبال عليه خطوة ترجحها الثقة في الحكومة التي تتولى حملة التلقيح وتشرف عليها. وحين نظمت الحكومة الفرنسية، في 1832، حملة تلقيح ضد الكوليرا التي تفشت في باريس شاع في الناس أن الوباء ليس وباءً بل هو محاولة يتولاها الوجهاء ويتذرعون بها الى تسميم العامة والفقراء. وفي ثمانينات القرن التاسع عشر أنشأ هوسمان، مجدد عمارة باريس المُدنية، شبكة صرف صحي ممتازة، غير أنه عجز عن إلزام السكان وصل حفرهم المنزلية الخاصة بها. وعلى خلاف فرنسا، كانت الحكومة البريطانية ترسل المراقبين الصحيين الى القرية النائية حال ملاحظة نسبة وفيات فيها تفوق متوسط الوفيات العام، فيُكرهون السلطات البلدية على إجراء التدابير المناسبة. وإذا امتنعت السلطات البلدية من الاستجابة أو تلكأت، خولت الحكومة المراقبين جباية ضرائب يصرفونها الى التدابير اللازمة. والمفارقة في التأخر الفرنسي عن أوروبا هي أن فرنسا كانت سباقة الى انتهاج سياسة صحة عامة أو عمومية، واحتذت بلدان قريبة، مثل بريطانيا، أو بعيدة، مثل الولاياتالمتحدة، على مثالها. ففي أثناء الثورة الفرنسية 1789 - 1797 تولى أحد الكيميائيين من مساعدي لافوازييه تنظيم مهنة الطبابة تنظيماً جديداً. ولم تعد المستشفيات مآوي مسنين وعجزة ومرضى عقليين. وقصرت على العناية بالمرضى ومعالجتهم، وصارت مرفق تدريس وتعليم واختبار يتلقى فيه دارسو الطب والتمريض اعدادهم. وأدخل المرفق الجديد في عداد مواد تدريس الرعاية الصحية. ودُرِّس الطلاب إجراءات تؤدي الى تلافي الأمراض حيث لا يرجى شفاء من طريق العلاج. وخصّت الرعاية الصحية والوقاية من الأمراض بكرسي من ست كراسٍ أستاذية. وكان جان ? نويل هاليه أستاذ المادة وكرسيها الأول، في 1803. ودعا الى الوقاية والرعاية الصحيتين أثر الأوبئة الفادح في صفوف الجيش الفرنسي النابوليوني. وأنزلت الأوبئة خسائر في الجنود فاقت خسائرهم في ميادين الحرب. وبين من تنبهوا الى المسألة وخطرها، وتولوا العمل في سبيل تفادي الخسائر، الطبيب الجراح لوي رينيه فيلليرميه. وفيلليرميه هو صاحب اقتراح او قانون اشترع لحماية الأولاد العاملين، في 1841. والحق ان القانون هذا أراد المشترعون به تقليص ساعات عمل الأولاد. ولم يدع المشترعين الى ذلك الحرص على وقاية الاولاد من شروط العمل القاسية فقط، بل دعاهم اليه، الى ذلك، الرغبة في تقليص عدد الأولاد العاملين، والحؤول دون كسبهم دخلاً عائلياً اضافياً، ومنافستهم اليد العاملة البالغة وتخفيض الأجور تالياً. ويوصف القانون ب"المالتوسية"نسبة الى دارس اقتصاد السكان، مالتوس، دلالة على معالجته المشكلة الاقتصادية بواسطة تقليل العَرَض وتقليصه. وسعى فيلليرميه نفسه في انشاء صناديق العون المتبادل في حال المرض أو البطالة، وصناديق التقاعد. وكان له سهم في بناء المدن العاملية على مقربة من المصانع، فلا يضطر العمال الى النوم في أفنية المصانع أو في ملاجئ المباني و"كهوفها"، الباردة والمظلمة تحت الأرض. والإجراءات هذه هي نواة نظمنا الاجتماعية وتأميناتنا، منذ غداة الحرب العالمية الثانية الى اليوم. وهي الإصلاحات التي دعا اليها التيار الكاثوليكي الاجتماعي. وفي 2010، خرجت الى شوارع المدن الفرنسية حركة احتجاج على إصلاح صناديق التقاعد والمعاشات أو الرواتب التقاعدية. وتناولت الحركة تفاوت حظوظ الفئات الاجتماعية بإزاء الموت. ففي سن ال35، تحظى الإطارات الإدارية والفنية العليا بفرق مأمول في العمر يبلغ 9 سنوات فوق متوسط العامل اليدوي أو"العضلي". ودرس فيلليرميه الفرق هذا دراسة إحصائية في 1828، وأبرز أثر التفاوت بين شروط العمل والوقاية الصحية في اختلاف مضار الأمراض والعجز وظروف الموت بحسب اختلاف الطبقات الاجتماعية. ويدين قانون الرعاية والوقاية الصحيتين الأول بصدوره الى إثبات التعالق بين وجهي التفاوت. والحجج الأخلاقية قلما تجدي أو تحمل الناس والسلطات على سن اجراءات المكافحة الصحية. فسياسة البغاء لم يبعث عليها التنديد بها، وإنما بعثت عليها مكافحة الأمراض الزهرية التي تفشت في الثلث الأول من القرن التاسع عشر. ودعا الى سن قانون مراقبة الرضاعة والمرضعات في 1874 تعاظم عدد الأولاد المولودين من علاقات غير زوجية، ووفاة 80 في المئة منهم. وعمدت الدولة، في 1889، الى سن قانون يبيح لموظفيها حماية الأطفال من قسوة والديهم وإضرارهم بهم. وهذا ثورة في بابه. فمن هذا الباب أجيز للدولة أن تقتحم حرم الحياة الخاصة وعلاقاتها. * مدير أبحاث ودراسات وصاحب"مجتمع قيد العلاج"2010، عن"ليستوار"الفرنسية، شباط فبراير 2011، إعداد م. ن.