الظاهرة الاجتماعية العريضة التي ينبغي تعليلها وتفسيرها هي مكانة المشاعر والانفعالات في المجتمعات المتقدمة، وانشغال المجتمع والسياسة بالذاتية الفردية. وتقدر الإحصاءات المصيرية ب25 في المئة السكان الذين يشكون، في السنة، اضطراباً عصبياً أو نفسياً، والاضطراب هذا، في معظم الأحوال، ناجم عن القلق أو الاكتئاب. وتبلغ كلفة العناية بأصحاب الأعراض، في الاتحاد الأوروبي، 3 الى 4 في المئة من الناتج الإجمالي الداخلي. ويلاحظ ان اختلال الصحة النفسية يتطاول الى الاجتماع والاختلاط وعلاقاتهما. وعلاقاتنا الاجتماعية، اليوم، إنما"تتكلم"لغة مشاعرنا وانفعالاتنا. ويتوسل الفرنسيون الى العبارة عن اختلال روابط الاجتماع والاختلال في مجتمعهم و"كلام"الاختلال لغة المشاعر والانفعالات، بلفظة"عارض قلق"على مثال: عارض صحي. وهذه اللفظة لا قرين لها في بريطانيا ولا في اسكندينافيا ولا في الولاياتالمتحدة. فيقال ان المجتمع يشكو عارض قلق أو ان عارض قلق أصاب الرابطة الاجتماعية. وهي، أي اللفظة، تفيد معنى الهشاشة والتصدع. وتصيب الهشاشة شخصية المرء او المرأة، وهذه هي عنوان الفردية والذاتية، وتولي الواحد المسؤولية عن نفسه بنفسه. وعليه، فعارض القلق في المجتمع هو ثمرة ضعف الرابطة أو العروة الاجتماعية، من وجه، وهو، من وجه آخر، القرينة على تعاظم ثقل المسؤوليات والاختبارات التي ينوء الفرد بها وتمتحنه. وفي آخر المطاف، قد يعجز أهل المجتمع الفرنسي عن القول ما الذي يجمعهم ويؤلف بينهم. وإذا صح أن أهل مجتمع من المجتمعات هم في آن، من يفعلون في الحياة الاجتماعية وينفعلون بها، جاز ان نخلص من تغير صور الفعل الى تغير صور الانفعال. والتغير الكبير الذي طرأ على الحياة الاجتماعية المعاصرة هو تولي المرء أو الفرد أمور نفسه بنفسه، وقيامه بها. ونظير تغير الفعل انقلب الانفعال الى الآلام النفسية وعارض القلق الذي يلخصها. فآلام النفس هي العبارة التي تلازم المشكلات والنزاعات الناجمة عن الحياة الاجتماعية وروابطها في مجتمعنا اليوم. والكلام على المشكلات والنزاعات في لغة الألم النفسي والقلق، لا يسع مجتمعاتنا تجاهله ولا التغاضي عنه. فهو وسيط الأفراد الإلزامي الى الإعلان عن شكاويهم وجهرها وإسماعها الملأ. والشكوى فعل لغوي، وهي تتوجه الى مخاطبين يفترض فيهم فهمها، واستعمالها في جوابهم أو ردحهم، والصحة النفسية جزء من الظواهر التي تشترك فيها حياة الجماعة، على خلاف علم الانحرافات النفسية العام التقليدي أو طب الأمراض العصبية و"العقلية". وتغيُر حال الألم النفسي هو قرينة على ان انحرافات واختلالات فردية، من صنف ما، صارت أعراضاً وانفعالات اجتماعية. فتتمخض التعاسة الشخصية عن اضطرابات تصيب حلقة المخالطة القريبة، على نحو ما تصيب المنشأة أو الشركة والأسرة السياسية. وتختبر المجتمعات، في الاضطرابات الناجمة عن التعاسة الشخصية، ومعالجة الشطر القدري أو الإجباري من الحوادث والوقائع. والتعاسة والشر والمرض هي مادة هذا الشطر القدري. وحري بدارس الاجتماعيات إنزال المسألة من عليائها الميتافيزيقية الى الحياة العادية والسائرة. وعلى خلاف الشكوى الفرنسية، وإلقائها اللوم عن الاضطرابات الفردية والشخصية على عارض القلق المجتمعين يلقي التنديد الأميركي التبعة على الفرد، ويبرئ المجتمع من التبعة. فيذهب الأميركيان كريستوفر لاش وروبرت بيلّاه الى ان نرجسية الفرد الأميركي ووهن وطنيته المدنية، وتخليه عن الأخلاقيات الجمهورية، هي السبب في قصور المجتمع المعاصر، وتردي الحياة الجماعية وتآكلها. ويلخص التشخيص الأميركي العلة في خسارة الذات أو ذات النفس، وما يقوم منها مقام نواتها المتماسكة والمبادرة. والذات، أو ذات النفس، تجمع في نازع واحد ومشترك بناء الفرد وبناء الجماعة الوطنية أو المهنية او المحلية. وعلى خلافها، يوجب المثال الفرنسي فصل الفرد من الجماعة، ثم إرساء الفرد على ركن الجماعة، وتوكيلها هي بكفالة حريته وحمايته معاً. فإذا انكفأت الجماعة، أو بدا للأفراد انها تقصر عن كفالة حريتهم وحمايتهم، أصابهم عارض القلق، والشعور بالهشاشة، المشهودان اليوم. والدولة الأميركية تولت، حين نشأت، جمع المعمرين، والتأليف بينهم بواسطة رابطة فيديرالية ائتلافية. والمعمرون هؤلاء أحرار مستقلون ومتساوون. وأقرتهم الدولة الفيديرالية على حريتهم ومساواتهم وإرادتهم وتعاقدهم، ودعتهم الى التزام قسمهم وعهدهم. وأما في فرنسا، فلم تؤلف الدولة بين افراد أحرار ومتساوين بل تولت هي تحريرهم من نظم التبعية التي كانوا أسرى هيمنتها. واضطلعت، بعد فك وثاقاتهم وروابطهم التقليدية، بالتحكيم في نزاعاتهم المتخلفة عن تحررهم، وذلك من طريق بسط رعاية اجتماعية وارفة على ضعفائهم. ولا يقتصر الفرق بين المثالين الفرنسي والأميركي على الدولة. فهو يتطاول الى الديانة. وتلابس الدولة الفرنسية صبغة دينية قوية بقيت من آثار النزاع الطويل بينها وبين الكنيسة الكاثوليكية، وتوليها هي محل الكنيسة رابطة المجتمع بهذه، ونازعها الى تأطيره وتهذيبه وتربية روحانيته والأخذ بيده على طريق خلاصه أو تقدمه. وقام الجسم التعليمي المدرسي بدور الإكليروس المدني، وانتصب بإزاء المجتمع قاضياً وناقداً ومقوماً وعالماً عارفاً. فإذا تلكأت الدولة أو تعثرت، فقد الأفراد سندهم ودليلهم. ويرقى النازع الفردي، أو الفردية الأميركية، الى النشأة الطهرانية والبروتستانتية الأولى في القرن السابع عشر. ويحمل النازع البروتستانتي كل فرد من الناس على كنيسة. ونريد النازع البروتستانتي الأميركي على هذا عاملاً جديداً هو اشتراط الإرادة الشخصية، وطلب نية التعاقد والتعاهد، على المسيحي. والكاثوليكي يقدم على الاعتراف بينما يفحص البروتستانتي ضميره. والفردية السياسية الأميركية تتوج الفردية الدينية البروتستانتية، وتمضي عليها. فترسي المجتمع السياسي، أو الجماعة السياسية، على خواص الفرد الداخلية وأولها مَلَكة تسيير نفسه بنفسه. وتعقد عقداً متساوياً ومتجانساً بين الدائرة الخاصة وبين الدائرة العامة، فلا ينفك الإنجاز او النجاح الشخصي من بناء الجماعة السياسية بناء عادلاً ومجزياً. وذات النفس الأميركية مفهوم اجتماعي سبقت صفته الاجتماعية صياغته الفلسفية والنفسانية. ويتفرع المفهوم ويصرف تصريفاً كثير الأوجه: فهو ذات النفس المستقلة والواثقة، وهو ذات النفس الحاكمة نفسها بنفسها فرداً وجماعة متضامنين، وهو حد التمام الشخصي وحد المساواة المترتبة عن المجتمع الديموقراطي والوصلة بين الحدين. وحين شخص الأميركيون أزمة النرجسية حملوها على قصور في القيام بالنفس. وحملها دارسو الاجتماعيات الفرنسيون على إفراط في قيام الأفراد بأنفسهم ناجم عن انفراط الهيئة الاجتماعية وتقوض مؤسساتها وأجسامها. فخشي الفرنسيون تخلي الدولة عن المجتمع، وتركه نهباً لنزاع الأفراد لا ضابط له، وتدور دوائره على الضعفاء المتروكين، على"الطريقة الأميركية"، يتحمل واحدهم المسؤولية عن نفسه. وعلى حين تجمع فكرة ذات النفس الأميركيين، تقسم الفرنسيين. وهؤلاء تجمعهم فكرة الهيئة العامة أو الدولة. والاستقلال بالنفس استقر حالاً عامة في فرنسا حين اصابت دولة الرعاية الأزمة التي لم تشف منها. فجُمع الاستقلال بالنفس الى"عودة"الليبرالية، ونهض نقيضاً لمعارضتها السارية في الثقافة السياسية الفرنسية منذ القرن الثامن عشر. وهذا قلب الانقسام الفرنسي. فالمساواة الفرنسية تعرفها المساواة في شروط الحماية. وهي تفترض الرتبة أو المرتبة، على معنى الوظيفة ومثالها الوظيفة العامة أو الحكومية. والهيئة، على هذا المعنى، هي الوصلة بين العام وبين الخاص، أو المقدس. ومثالها ليس الفرقة البروتستانتية التي يعتنقها المؤمن صادراً عن إرادة ذاتية بل الكنيسة الكاثوليكية القائمة بالوساطة بين المؤمن والخالق. ولعل عارض القلق الشائع هو ثمرة اصطدام الأبنية الفرنسية المخالفة لليبرالية، والمتخلفة عن نظام الهيئة - وحمايتها ورعايتها، بالإطار الليبرالي. فيُنكر على الإطار الليبرالي قيامه بمحل السبب والعلة من تآكل دالة الهيئات والمؤسسات، وهشاشة الحياة، وامحاء علامات الاستدلال. والألم النفسي هو ثمن غلبة الإطار الليبرالي على الحياة الاجتماعية. واختلال هذه هو منشأ عارض القلق الذي تصيب آلامه وتعاسته الأفراد، وتقضّ على الذات مضجعها. وفي الأثناء، افتقرت المساواة، على معنى الحماية والمرتبة المكتسبتين، أركانها ومسوغاتها. ومصادر التفاوت اليوم هو الغرق في موارد العلاقات والمعرفة، وبإزاء متطلبات العمل المرن والمتقلب. وليس وهن الرابطة الاجتماعية هو علة عارض القلق بل انقلاب التفاوت الاجتماعي وصوره من حال الى حال، ونهوض صور التفاوت على العامل الفردي والشخصي الذي لا تقر له الأبنية العملية والسياسية الفرنسية إلا بمحل ضيق. * دارس اجتماعيات الفردية، عن"إسبري"الفرنسية، 7 / 2010، إعداد وضاح شرارة