تقترن الدلالة الأخيرة بموقف المثقفين بوجه عام من محنة نصر أبو زيد، وقدرة مثقفي التنوير بوجه خاص على مساندته وحمايته من المحنة التي تعرض لها معهم، أو تعرضوا لها معه. وتتجلى أهمية هذه الدلالة حين نقارن التسعينات من القرن العشرين، حيث الزمن الذي دارت فيه محنة نصر وتفاقمت، والعشرينات من القرن نفسه، حيث الزمن الذي حدثت فيه محنة كتاب"الإسلام وأصول الحكم"الذي أصدره الشيخ علي عبدالرازق القاضي عام 1925 وكتاب"في الشعر الجاهلي"الذي أصدره طه حسين عام 1926، أي قبل عام واحد من ظهور جماعة الإخوان المسلمين في الإسماعيلية، قبل انتقالها إلى القاهرة. فالمقارنة بين الوضع الثقافي لعشرينات القرن العشرين وتسعيناته، تلقي الضوء على محنة نصر أبو زيد والجماعة الثقافية التي ظل منتمياً إليها، وما أدى إليها من دوافع وعوامل ومتغيرات ثقافية واجتماعية سياسية. أما كتاب علي عبد الرازق فظهر بعد عامين من انقلاب الملك فؤاد على الوفد، حزب الأغلبية، وعلى دستور1923على السواء وكان ذلك قرين حلم الملك فؤاد في أن يتولى خلافة المسلمين، بعد سقوط الخلافة مع الدولة العثمانية التي أطاح كمال أتاتورك بآخر سلاطينها عام 1924. وجاء كتاب علي عبد الرازق كالقنبلة التي فجرت كل أحلام الملك فؤاد، مؤكدة أن الذين جعلوا"الخلافة"ركناً من أركان الإسلام لم يفهموا الإسلام فهماً أصيلاً أو صائباً. وأن هذا الاجتهاد اقترن دائماً بالحكم المطلق، وظل دعماً لاستبداد الخلفاء والحكام الذين زعموا أنهم يستمدون شرعيتهم من الدين، وأنهم ظل الله على الأرض. وكان هذا الكلام الجسور هادما كل أماني الملك فؤاد ورجاله في الأزهر الذي كان يتبعه مباشرة في ذلك الوقت. فثأر منه الملك فؤاد بأن أوعز إلى هيئة كبار العلماء بمحاكمة العالم الجليل، فحكمت بما يرضي مولاها، وأخرجت الشيخ من زمرة العلماء، وسحب العالمية منه، ومن ثم فُصل الرجل من القضاء. وكان الحكم بإجماع خمسة وعشرين صوتاً. ولم يستطع الأحرار الدستوريون، الذين ينتسب إليهم الشيخ المؤمن بالديمواقراطية والحكم المدني، حمايته من بطش الأزهر الذي وقف إلى جانب رئيس الوزراء الذي كان تابعاً أميناً للملك فؤاد ورئيس ديوانه الملكي ومخترع حزب"الاتحاد"من أجله أعني زيور باشا الذي سرعان ما قدم استقالته. ثم جاءت وزارة ائتلافية إلى الحكم تضم الوفد برئاسة سعد زغلول والأحرار الدستوريين بقيادة عدلي يكن، وأصبح الثاني رئيساً للحكومة، والأول سعد رئيس البرلمان الذي يراقب الحكومة في ظل دستور 1923. وعندما أصدر طه حسين كتابه في عهد الحكومة الائتلافية في آذار مارس 1926، وهاجت الدنيا، وقدّم شيخ الأزهر تقريراً رفعه علماء الجامع الأزهر الذين فعلوا ما فعلوا في علي عبد الرازق مطالباً باتخاذ الوسائل القانونية الفعالة ضد الطعن في دين الدولة الرسمي، وتقديم طه حسين للمحاكمة. وقد أحال البرلمان برئاسة سعد الكتاب وصاحبه إلى النيابة العامة، وقام رئيس نيابة مصر العظيم محمد نور بحفظ الأوراق، إذ لم يرَ في ما كتبه طه حسين طعناً في دين الدولة، وأن كل ما فعله اجتهاد ذهب فيه إلى آراء اعتقدها، ولم يرد بها الاعتداء على الدين الذي يثيب المسلم حتى على الخطأ في الاجتهاد. وكان الحكم طبيعياً في ضوء تقدير دستور 1923 لحرية الرأي من ناحية، وقوة التيار الليبرالي الذي كان يجمع بين مشايخ الاستنارة من أنصار الدولة المدنية مثل الإمام محمد عبده الذي أكد أن الإسلام لا يعرف الكهنوت، ولا يعرف حتى التسلط الذي يهيمن به عالم أو حاكم على عقول الناس أو أبدانهم. فلا سلطة دينية في الإسلام، وهو المعنى الذي انتهى إليه الشيخ علي عبد الرازق الذي هدم قداسة ما سماه البعض باسم الخلافة التي سيعيد الإخوان المسلمون التمسك بها. وكان أمثال رفاعة الطهطاوي الذي ترجم الدستور الفرنسي وأستاذه حسن العطار الذي علمه الانفتاح على علوم الدنيا هما ابتداء سلسلة مشايخ الاستنارة التي وصلت ذروتها مع محمد عبده وتلميذيه علي عبدالرازق وأخيه مصطفى عبد الرازق. وكان هؤلاء جميعاً مع الأفندية المطربشين ليبراليي الهوى، لا فارق في ذلك بين وفدي أو أحرار دستوريين، فقد كانت العشرينات هي ذروة أوج الليبرالية المصرية التي قادت ثورة 1919 التي أدّت إلى تحرير المرأة، في موازاة تحرير عقول الجميع بما فتح الأفق أمام النخب الثقافية إلى طريق صاعد لا حدّ لآماله، أو إمكان صعود الدولة المدنية لذلك الزمن الجميل. واستمر هذا الصعود على رغم انكساراته، في بعض حقب الانقلاب على الدستور إلى أن جاء حكم العسكر الذي كسر التطلع الديموقراطي مع أزمة آذار مارس 1954. وأدى حضور التسلطية إلى هزيمة حزيران يونيو 1967 التي آذنت بمغيب الدولة القومية التسلطية، وصعود مشروع الدولة الدينية بوصفها بديلاً، من أكثر من طرف. إلى أن وصلنا إلى تحالف السادات مع الإسلام السياسي للقضاء على خصومه، فقتله حلفاؤه طمعاً في السلطة ولإخلاله بشروط التحالف من وجهة نظرهم. وجاءت الثمانينات التي أعقبت مصرع السادات بنوع من الصعود المطرد لنزعة التديين التي أخذت تغلب على المجتمع نتيجة إلحاح السادات على تأسيس"دولة العلم والإيمان"- حيث التهم التطرف في الإيمان العلم مع العقلانية، وساد التطرف الديني في موازاة التسلط السياسي المتصاعد الذي أرسى السادات قواعده بدستور 1970 الذي بدأ في محاولة"أسلمة"التشريع الدستوري والقانون، على نحو بدا معه أننا نمضي في اتجاه دولة دينية، ذات أقنعة مدنية فحسب. وصحب ذلك اختراق جماعات الإسلام السياسي المنظمات التضامنية للمجتمع المدني ممثلة في النقابات، فضلاً عن السلطتين التشريعية والقضائية. ولم يستطع النظام السياسي الحالي، تغيير الموقف، فقد كانت التركة أثقل من أن يحملها حزب أغلبية مصطنع، تجمعه المصالح والمنافع، ويبقى طمع السلطة على الوضع كما هو عليه، فيتقلص المناخ الليبرالي، وتبدو دعاوى الدولة المدنية غريبة على الجماهير التي سلبت عقولها عمليات التديين التي وجدت مراحها مع تصاعد الأزمات الاقتصادية الخانقة وشيوع الفساد بأنواعه، وفضائيات تديين قوية، ضمن أجهزة إيديولوجية جبارة. وكانت النتيجة هي محنة لا تزال تعيشها الثقافة المصرية التي أصبحت أجنحتها التنويرية بالغة الضعف والهزال، بعد أن أنهكتها مطاردات التسلط السياسي، فغابت ليبرالية الوفد الجديد الذي لم يتردد في التحالف مع الإخوان، وغاض تيار الناصرية مع التوجه القومي، وحوصر الاشتراكيون والشيوعيون مع بقايا الليبرالية بين المطرقة والسندان، مطرقة الجماعات الإسلامية التي تزايدت ممارسات العنف في أعمالها التي تحولت إلى إرهاب ديني، وسندان الدولة التي لا تتسع هوامشها الديموقراطية الضيقة، ولا تتطابق شعاراتها مع أفعالها. وكانت النتيجة الأولى تراجع الدور الثقافي التنويري لمصر، وإصابة جسد الثقافة بالضعف الذي جعله قابلاً لفيروسات الإظلام الآتية من صحارٍ حارقة، والمتحالفة مع أشكال الاستبداد الديني والسياسي. ولم يكن من قبيل المصادفة أن يطرد نحو خمسة من أعضاء هيئة تدريس قسم اللغة العربية الذي انتمى إليه نصر أبو زيد، وهو قسم طه حسين الذي أريد إفراغه من حيوية المساءلة الجسورة والاجتهاد الذي يتحدى التقاليد الجامدة، سياسياً وفكرياً، وأن يعود نصر مع زملائه في عهد مبارك، ولكن ليفاجأوا بعد سنوات معدودة باغتيال مفكرين من أمثال فرج فودة، وبداية استغلال القضاء في القضاء على الحضور الفاعل لدعاة الدولة المدنية. ومن المتلازمات الدالة، إلى أبعد حد، تزامن محنة نصر أبو زيد مع محاولة اغتيال نجيب محفوظ في 1994. وذلك حين رفض مجلس الجامعة ترقية نصر أبو زيد في الثامن عشر من آذار مارس 1993، وذلك قبل أشهر معدودة من محاولة اغتيال نجيب محفوظ في عصر الجمعة الرابع عشر من تشرين الأول أكتوبر 1994، وبعد مضيّ نحو عام على اغتيال فرج فودة في منتصف حزيران يونيو. كان قرار مجلس الجامعة، في هذا السياق، استسلاماً فاضحاً لضغوط تيار الإسلام السياسي الذي اخترق الجامعة، وطرد منها بقايا التيارات المعادية التي ظل يقمعها، ولا يزال يقمعها، بتهم الكفر والإلحاد، تماما كما فعل خارجها حين وصل هذا التيار إلى درجة من القوة التي لا يزال يمارس بها ضغوطه على النظام السياسي الذي لم يحسم موقفه من كونه نظام دولة مدنية. فثغراته لا تزال تتيح لتيارات الإسلام السياسي التفوق عليه في مجالات عملية عديدة، جذبت المواطنين إليها، بعد أن تباعد عنهم النظام السياسي الذي لم ينجح في توفير الغذاء والكساء والعلاج والتعليم الصالح لأبنائهم، وتركهم أسرى الفقر والجوع والمرض الذي تحدث عنه طه حسين في"المعذبون في الأرض"الذين لا تزال تتتابع أجيالهم وتتكاثر، في الوقت الذي يتصاعد نفوذ تيار الإسلام السياسي ويزداد كثافة وثراء ونفوذاً في كل اتجاه. ومن الطبيعي، والأمر كذلك، أن يضعف تأثير أجنحة التيارات المستنيرة التي تجد نفسها واقعة بين مطرقة الاستبداد السياسي للحكومة وسندان تيار الإسلام السياسي الذي أصبح أكثر قمعاً من الدولة، خصوصاً بعد أن جنح إلى العنف، ولم يتردد في الاغتيال أو محاولات الإيذاء الجسدي ولذلك تمكن التأسلم السياسي من أن ترجح كفتة، ويعلو صوته على تيارات الاستنارة التي حاولت الدفاع عن حق نصر في الاجتهاد. ولكن خذلتها شعبية التأسلم السياسي الذي نجح في جذب التناقض الفكري بين الاجتهاد والتقليد إلى أرضه، وأحاله إلى تضاد بين الذين يدافعون عن الدين. والذين يهاجمون الدين، وهو الأمر الذي نال تعاطف الجماهير البسيطة التي ساهم خطباء المساجد بقيادة عبد الصبور شاهين وأتباعه في جذبها وإثارتها ضد هولاء الكفار الذين يدافعون عن كافر مثلهم، وذلك جنباً إلى جنب الجرائد والمجلات التي فتحت صفحاتها لمكفري نصر أبو زيد والمدافعين عنه من أمثاله. وتزايدت كتب تكفير نصر التي تتابعت، مذكرة بالكتب التي صدرت ضد كتاب"في الشعر الجاهلي"عام 1926. لكنّ زمن تسعينات القرن الماضي كان مختلفاً عن زمن العشرينات، حين كانت الليبرالية قوية عفية، على النقيض من التسعينات التي أصبحت فيها أجنحة الاستنارة مقصوصة الريش منهكة. وزاد الطين بلة اختراق تيار الإسلام السياسي القضاء، فاستخدم أعداء فكر نصر العقلاني القضاة في الخلاص منه، واستصدروا حكم التفريق. وكانت النتيجة أن استقتل محامو نصر في إيقاف تنفيذ الحكم، ونجحوا في استصدار حكم الإيقاف، فأصبح هناك حكم بالتفريق، وحكم مضاد بتنفيذ الحكم لكن الكارثة قد وقعت معنويا، وكان تأثيرها تدميرياً إلى أبعد حد في مجالات عديدة. وكانت قوى الاستنارة المنهكة أصلاً استنزفت ما بقي من قواها. ووجد نصر أبو زيد نفسه وزوجه عاريين من الحماية، معرَّضين لأن يحدث لهما ما حدث من قبل لنجيب محفوظ أو فرج فودة، خصوصاً بعد صدور حكم التفريق والتهليل له من جانب أنصار الإسلام السياسي، الذين غطّوا بضجيجهم على حكم إيقاف التنفيذ. وما كان أسهل على أي شاب مضلل العقل أن يقوم باغتيال نصر وحده، أو مع زوجه ومن هنا جاء قرار المنفى الإجباري، ذلك القرار الذي ساعد عليه أصدقاء من إسبانيا وهولندا، وبدأ منفى نصر الذي انتهى بالموت. وكم شعرت بالأسى، وما أزال، عندما أطالع الصحف المصرية بعد الوفاة، وأجد تسابق صحف المعارضة والحكومة، في الاحتفاء بالرجل الذي سمحت لأعداء فكره أن يشككوا في إيمانه وصحة عقيدته، وذلك في مقابل فضائيات ومواقع"نت"التعصب التي لا تزال تعلن شماتتها في موت الرجل الذي أصبح عند ربه، لا تجوز عليه سوى الرحمة، والصمت عن الاتهام. لكنّ هؤلاء لا يعرفون مبدأ: اذكروا محاسن موتاكم، ولا دعوة شيخ الأزهر"جزاه الله على اجتهاده"وهي دعوة واجبة لمن ظل يقول:"أنا أفكر، فأنا مسلم". رحمه الله ورحمنا معه.