يدل التفجيران اللذان وقعا في موسكو في آذار مارس الماضي والصدامات المستمرة التي تشهدها مختلف مناطق شمال القوقاز على صعوبة تهدئة الوضع في المناطق الجنوبية من روسيا. وفي 29 آذار 2010، نفذت شابتان هجومين انتحاريين في محطتين لقطارات الأنفاق في العاصمة الروسية، ما أدى إلى مقتل 38 شخصاً وجرح أكثر من 60 آخرين. تُدعى الانتحارية الأولى جنة عبد الرحمنوفا 17 سنة وهي من داغستان. أما الانتحارية الثانية فتدعى مريم شاريبوفا 28 سنة وهي تعمل أستاذة في قرية في داغستان. ويبدو أنّ كليهما تنتميان إلى ما يعرف في روسيا ب"الأرامل السود"في إشارة إلى النساء المتزوجات أو المخطوبات من مقاتلين متمردين يشاركون في مهمّات انتحارية. واللافت هو أنّ الانتحاريتين ليستا من جمهورية الشيشان المتمردة التابعة للاتحاد الروسي. وجاء التفجيران ردّاً على مقتل زعيمين متمردين في بداية السنة. يدعى الأول ألكسندر تيخوميروف المعروف باسم"سعيد بورياتسكي"الذي قُتل في قرية في إنغوشيتيا في الثاني من آذار بعد أن حاصرت القوات الروسية المخبأ الذي كان موجوداً فيه. أما الزعيم المتمرد الثاني فهو أنزور أستيميروف المعروف باسم"أمير سيف الله"الذي قُتل في 24 آذار خلال تبادل لإطلاق النار في شوارع نلشك وهي البلدة الرئيسية في ولاية كاباردينو بلكاريا. قُتل بورياتسكي عندما كان في سن الثامنة والعشرين علماً أنه وُلد في جمهورية بورياتيا البوذية التي تقع على الحدود مع منغوليا واعتنق الإسلام ودرس اللغة العربية والشريعة الإسلامية في القاهرة وبرز على أنه أحد الإيديولوجيين المتشددين في الإسلام السياسي وهو معروف بعظاته التي نشرها على شبكة الإنترنت. تشير العودة إلى استخدام العنف بما فيه التفجير الانتحاري إلى أنّ المتمردين في شمال القوقاز يواجهون صعوبات في التجمّع ويلجأون إلى الإرهاب لأنه السلاح الوحيد المتبقي لديهم لمحاربة السلطات الروسية. وتدل سيرة حياة الزعيمين و"الأرامل السود"الى أنّ حركة التمرد ضد الحكم الروسي قد انتقلت إلى المناطق المحاذية لجمهورية الشيشان بدءاً بداغستان مروراً بأنغوشيا وصولاً إلى ولاية كاباردينو بلكاريا. ويعزى سبب انتشار حركة التمرد هذه إلى السياسات الروسية والخيارات التي اتخذها زعماء الكرملين في معرض الردّ على مطالبة الشيشانيين الحصول على السيادة خلال التسعينات. وعلى مدى عقدين، تحوّلت المقاومة الشيشانية من مقاومة وطنية تدافع عن حق الشعب الشيشاني في تقرير مصيره إلى مقاومة مرتبطة بحركة الجهاد العالمي. وكانت حركة التمرد الشيشاني التي برزت في بداية التسعينات بقيادة جوهر دوداييف القائد الأسبق في الجيش السوفياتي، علمانية جداً ومتأثرة بالحركات الوطنية التي تدافع عن حقّ الشعب في تقرير مصيره والتي كانت تنتشر في حينه أكثر فأكثر في القوقاز. وتغذّت القومية الشيشانية من الظلم الذي عاناه الشعب الشيشاني خلال الحقبة السوفياتية لا سيما عندما تمّ تهجير الشيشان إلى آسيا الوسطى عام 1944 بعد اتهامهم بال"تعامل"مع المحتلين النازيين. على رغم بروز حركات قومية متعددة في شمال القوقاز للنضال من أجل الاستقلال وعلى رغم إنشاء جبهة مشتركة معروفة باسم"اتحاد شعوب القوقاز"، كانت الدول الأصغر في المنطقة تخاف كثيراً من القومية الشيشانية. حتى أنّ الأنغوشيين المقرّبين إثنياً من الشيشانيين كانوا يشككون بالقومية الشيشانية القوية. وعام 1992، فضّلوا الانفصال عن الشيشانيين وإنشاء جمهوريتهم الخاصة ضمن الاتحاد الروسي وإبعاد أنفسهم عن الحركة الانفصالية الشيشانية. فشلت القيادة الروسية في بداية التسعينات بقيادة بوريس يلتسين، في إيجاد طريقة سلمية للتعامل مع المطامح والمطالب الشيشانية المتعلقة بالحصول على السيادة على رغم أنّ ذلك كان مستحيلاً. وعقد الكرملين اتفاقية عام 1994 مع جمهورية تترستان التي كانت تطالب بدورها بالحصول على"السيادة". واضطرت روسيا إلى حلّ النزاع السياسي مع الشيشانيين من طريق القوة فأرسلت جيوشها لسحق الحركة القومية الشيشانية، الأمر الذي أدى إلى اندلاع"الحرب الشيشانية الأولى". وامتدت هذه الحرب من كانون الأول ديسمبر 1994 لغاية آب أغسطس 1996 وانتهت بانتصار الشيشانيين وانسحاب القوات الروسية. حوّلت الحرب النزاع القائم بين موسكو والشيشان من نزاع سياسي إلى نزاع عنيف. وسمحت الحرب للجماعات المتشددة بالدخول إلى المنطقة بما فيها حركات السلفية الجهادية وصلت من طريق متشددين عرب، فخلال هذه الحرب وصل المتطوعون العرب بقيادة خطاب سامر صالح عبدالله السويلم من آسيا الوسطى إلى القوقاز. وكان خطاب مواطناً سعودياً انضم إلى الأفغان العرب في مقاومتهم الجيش السوفياتي في أفغانستان. كما شارك بعد ذلك في الحرب الأهلية في طاجكستان. وفي كانون الثاني يناير من عام 1995 وصل خطاب إلى جانب مجموعة من الجهاديين العرب إلى الشيشان وتحالفوا مع قائد ميداني شيشاني هو شامل باسايف. وعلى رغم انتصار الحركة القومية الشيشانية في الحرب الأولى ضد روسيا وعلى رغم أن الشيشان أصبحت"بحكم الأمر الواقع"دولة مستقلة عام 1996، إلا أنها فشلت في إعادة إعمار الدولة والمجتمع في المرحلة التي تلت الحرب. وخلال السنوات الثلاث الممتدة بين الحربين الشيشانية الأولى والثانية أي بين عامي 1996 و1999، أصبحت الشيشان"دولة فاشلة". وتمّ انتخاب أصلان مسخادوف، وهو ضابط مدفعية سابق في الجيش السوفياتي قاد المحاربين التابعين للمقاومة الشيشانية خلال الحرب الأولى، رئيساً للشيشان عام 1997. إلا أن مسخادوف لم ينجح في فرض الأمن والاستقرار وفي تلبية الحاجات الأساسية للشعب. كما فشل على وجه الخصوص في توحيد المجموعات المسلحة التي أدت دوراً مهماً في مقاومة الاحتلال. لكن بعد التحرير، أصبحت هذه الفرق المقاتلة مصدراً دائماً لانعدام الأمن بما أنها كانت تحارب بعضها بعضاً للسيطرة على الأراضي وعلى الموارد الاقتصادية. حتى أن أمراء الحرب أنفسهم حاربوا مسخادوف الذي تعرّض لأربع محاولات اغتيال. ومسخادوف هو آخر شخصية سقطت في إطار المشروع القومي الشيشاني، فمهّد فشله في بناء دولة شيشانية وفي تطبيع الأوضاع، الطريق أمام بروز أفكار بديلة أخرى وكانت العقيدة السلفية الجهادية الأقوى بينها علماً أنها جذبت عدداً من المقاتلين المتشددين وربطتهم بالمسائل العالمية. غير أنه كان من الصعب نشر العقيدة الإسلامية السياسية داخل جمهورية الشيشان التي تفتقر إلى جذور إسلامية عميقة. وطالما شكّلت داغستان المجاورة مركزاً لتعلم الإسلام علماً أن الإسلام موجود فيها منذ القرن الثامن. وفي هذا الإطار، يمكن تفهّم السبب الذي دفع القوات الشيشانية والجهاديين العرب إلى محاولة اجتياح داغستان في أيلول سبتمبر 1999. إذ كانت محاولة"لتصدير الثورة"وإنشاء إمامة إسلامية أوسع في شمال القوقاز. كما أنها كانت محاولة منهم للفرار من فشلهم في بناء دولة في الشيشان. ونتج من هذا التحرّك بقيادة شامل باسايف وخطّاب تبعات كارثية. فحشدت روسيا قواتها واجتاحت الشيشان، الأمر الذي سجّل بداية"الحرب الشيشانية الثانية". أُرسل حوالى 90 ألف جندي من القوات الروسية إلى الشيشان خلال الحرب الثانية، ما كسر ظهر المقاومة الشيشانية. كما اعتمدت السلطات الروسية سياسة إلغاء القادة الشيشانيين فقتلت خطاب عام 2002 وأصلان مسخادوف عام 2005 وشامل باسايف عام 2006. واتبعت موسكو سياسة تجنيد ضباط وجنود تابعين للمقاومة الشيشانية في سبيل تطبيق سياستها القائمة على تهدئة الوضع في الشيشان وذلك من خلال العمل على دعم النظام الاستبدادي بقيادة آل قادروف. إلا أنّ نقص الرؤية السياسية أدى إلى هزيمة الشيشان: خلال الحرب الأولى كانت المقاومة الشيشانية تناضل من أجل الحصول على الاستقلال الوطني أما خلال الحرب الثانية فكانت تناضل ضد الغزاة من دون أن تملك مشروعاً بديلاً. وأدت الحملات العسكرية الروسية إلى مقتل العديد من الأشخاص وتسبّبت بدمار كبير. وأشارت المصادر الروسية إلى أن الحربين أدتا إلى مقتل 160 ألف شخص ناهيك عن جرح وتشريد العديد غيرهم. تمّ حالياً"تهدئة الوضع"في الشيشان في ظلّ حكم ديكتاتور قاسٍ يدعى رمضان كديروف علماً أن بعض المحللين الروس يشككون في ولائه لروسيا. ونتج من عقود الحرب تبعات سلبية في شمال القوقاز وهي إحدى المناطق الأكثر فقراً في الاتحاد الروسي. وفي إطار الجهود التي بذلتها موسكو لاستيعاب حركة التمرد، اعتمدت على حكّام لا يحظون بشعبية، إذ انهم كانوا يعملون في صفوف الجيش أو القوات الأمنية الروسية. ويبدو أن الإدارة الموالية لموسكو في المنطقة فاسدة إلى أقصى الحدود وغير قادرة على إيجاد حلول لمشاكل الجيل الجديد. وفي ظلّ هذه الظروف، تمكنت العقيدة السلفية الجهادية من الازدهار. وتخلى الزعيم الحالي للجماعة المسلحة الشيشانية دوكو أوماروف عن المطالبة بالاستقلال الوطني الشيشاني التي كان أطلقها عام 2007، واعتنق فكرة إنشاء الدولة الإسلامية التي تضمّ منطقة شمال القوقاز كلها. ولا يُعتبر لجوء المتمردين الشيشانيين في شمال القوقاز إلى التقنيات الإرهابية دليل قوة بل دليل ضعف. فعندما كانت القوات المتمردة قوية كانت تواجه مباشرة الجيش الروسي وتستخدم التكتيكات الإرهابية عندما تفقد الأمل والدليل الواضح على ذلك تمثّل في الاعتداء الجريء الذي شنّه شامل باسايف على مستشفى في بلدة بوديينوفسك عام 1995. ساهمت السياسات الروسية في تشتيت المقاومة الشيشانية إلا أنها لم تضع حداً لها. واليوم، لا تزال المجموعات المسلحة المتعددة التي ضعفت وتقلص عددها لكنها ما زالت فاعلة موجودة في جبال الشيشان وفي داغستان وأنغوشيتيا أيضاً. وسيستمر العنف الذي تمت ممارسته على الشعب الشيشاني خلال الحربين إضافة إلى اعتماد السلطات الروسية وسيلة القمع، في جعل المنطقة تحدياً أمنياً خلال السنوات المقبلة. نشر في العدد: 17208 ت.م: 16-05-2010 ص: 12 ط: الرياض