هل كان الشاعر شوقي بزيع يعلم أن الطفل الذي حاوره في قصيدة"مرثية الغبار"سيأخذ بيده إلى"سوق عكاظ"، ويمنحه جائزة 80 ألف دولار، ويلبسه بُردة صنعت من الحرير والذهب؟ لعله كان يعلم، لكن كان عليه أن ينتظر أكثر من عقد ونصف العقد، ليقف تحت خيمة عكاظ، قريباً من قبة النابغة الذبياني الحمراء، ويقرأ مقاطع من قصيدته تلك التي عدّها نقاد مفصلية في تجربته، وبداية لمرحلة جديدة يتخفف فيها من الإيقاع والصوت العالي والمنبرية باتجاه فضاء شعري مغاير، يطبع مجمل نتاجه اللاحق. لكن على رغم ما ذهب إليه النقاد حول أهمية هذه القصيدة وفرادتها، إلا أن السؤال ما برح يطرح: لماذا اختار شوقي بزيع قصيدة عمرها حوالى عشرين سنة، لينافس بها في جائزة"شاعر عكاظ"؟ ألم يكتب بعدها قصائد مهمة يستطيع أن يشير إليها بكل ثقة، وبالتالي يختار واحدة منها للترشح عبرها للجائزة، التي تعد من أكبر الجوائز التي تمنح للشعر. يوضح صاحب"صراخ الأشجار"إصراره على تلك القصيدة من دون سواها قائلاً:"الذي دفعني لاختيار قصيدة مرثية الغبار، أولاً أن لجنة الجائزة لم تطلب قصيدة جديدة، وحسناً فعلت لأن الشعر في جوهره لازمني. وثانياً شعرت بأن هذه القصيدة بما تمثل من دراما من حوار بيني وبين الطفل الذي كنته، بما تمثل من مواءمة بين الخاص والعام، بما تمثل من هواجس جيل كامل إزاء أحلامه المحبطة، تمثلني في حدود كبيرة". بيد أن صاحب"الرحيل إلى شمس يثرب"، يعود ليضيف سبباً جوهرياً أكثر إقناعاً،"كان بإمكاني اختيار قصائد أخرى، مثل"قمصان يوسف"أو"مريم"أو"ليلة ديك الجن الأخيرة"، لكن خشيت أن تثير هذه القصائد حساسيات معينة،"ديك الجن"مثلاً قد تثير بعداً جنسياً جسدياً، أو بعداً دينياً في القصائد الأخرى، فقلت ابعد عن الشر وغن له إذا صح التعبير". "مرثية الغبار"عبارة عن حوار مفتوح يجمع الشاعر، وهو في قمة الأربعين والطفل الذي كانه. كل منهما يشعر بأنه ابتعد عن الآخر، بفعل الحرب الأهلية اللبنانية والحروب المتعاقبة، التي شكّلت ما يشبه الهوة، وفصلت كل منهما عن الآخر. الشاعر والطفل يتحدثان عما فعله كل منهما بالآخر عن الأحلام التي أضحت سراباً، فالوطن العلماني الليبرالي الجديد لم يتحقق، وما هو ماثل للعيان سوى طائفية تترسخ أكثر فأكثر، بسبب الحروب الأهلية. اسأله عن ظروف ولادة هذا القصيدة والمناخ الذي تخلقت فيه، وهل سبقها تحضير مثلاً، تأمل واسع في منجزه الشعري، خصوصاً والعربي والإنساني عموماً، أم جاءت بشكل عفوي؟ فيرد"مرثية الغبار"قصتها غريبة. بدأت في كتابتها عام 1989، وكان عمري آنذاك 38، لكن سرعان ما اندلعت ما يسمى بحرب الإلغاء في لبنان، التي قامت بين ميشيل عون وسمير جعجع، فهجرت إلى صور، أنا الذي لا أكتب سوى في مكان بعينه وعلى الطاولة نفسها وفوق المقعد ذاته مع الورق والقلم نفسهما، أي طقوس كتابة صعبة. كأن ارتباطي بالمكان حوله إلى رحم آخر للقصيدة، وكأنما هو الوحيد الذي يهيئ لي الأخيلة والصور، وأرتاح في كنفه، وهو مكان عام مقهى بحري في بيروت". في هذا الجو الجديد لم يستطع مواصلة الكتابة فيها طوال مدة التهجير فتوقف. والغريب في الأمر، يشرح شوقي أن القصائد التي تكتب عادة على فترات طويلة،"تخسر الكثير من عفويتها عدا هذه القصيدة. القصيدة لشدة تلقائيتها واتصالها بالقلب تبدو كأنما كتبت في وقت واحد، زمن واحد. وما ساعدني في أن تحقق هذه القصيدة هذا القدر من السخونة هو أنني كنت أكتب في الوتيرة القصوى للكتابة، إذ كان العصب مشدوداً إلى نهاياته". منذ تلك القصيدة تطوّرت تجربة شوقي بزيع، وشهدت تحولات مهمة، وتوقفت عند حساسيات فنية، وأفادت من تجارب شعرية وحياتية عدة، لكن اليوم وبعد أكثر من عقدين من الزمن، هل يعاني صاحب"هجرة الكلمات"من تحول طرأ على علاقته بالقصيدة وبلغته، تحول تصعب معه استعادة ذلك الألق، تلك الفورة الأولى، أم القصيدة تمضي بالنسبة لديه على الوتيرة نفسها؟ ينظر شوقي إلى الشعر بصفته ذا مصدر جنسي،"أي يتصل بالفتوة والحيوية الإنسانية، بدورة الدم، بالهرمونات". ذلك لأن الشعر، كما يقول، ذو طبيعة انفجارية ويتصل بالشغف. ولأنه كذلك فإنه كأنما"ينبثق من المكان نفسه الذي ينبثق منه الجنس، ولا أعني بالجنس معناه الميكانيكي الآلي، إنما العاطفة أو القدرة على الحب والافتتان بالمرأة. ولذلك يمكن للشاعر أن يكون كبيراً قبل بلوغ العشرين، وهذا ما حدث لرامبو مثلاً، أو أن يقضي نحبه وهو شاعر كبير، كما فعل طرفة بن العبد، الذي نحتفل به في هذه الدورة من"سوق عكاظ". أو كما هي الحال مع جون كيتس أو أبو القاسم الشابي. ويتفق بزيع مع اليوت حين يقول:"إن الشاعر إذا بلغ الثلاثين ولم يصبح شاعراً كبيراً، فلن يصبح شاعراً كبيراً في ما بعد". وعليه فإن الشخص على المستوى الجنسي، يمكن أن يخسر جسدياً مع تقدم العمر، وفي المقابل يكتسب خبرة ومهارات عالية، تعوض فوران الدم في العروق. هذه الحال تنطبق على الشاعر أيضاً، أي أنه يصبح"أكثر خبرة في العلاقة مع اللغة، وأكثر تقصياً في بحثه وتنقيبه عن معرفة جديدة وعن مناطق غير مكتشفة، ولكن يخسر هذا الدفق الأول للغة، وهذا ينطبق على كثير من الشعراء". ومع ذلك فشوقي يحاول اليوم الاحتفاظ بما يستطيع من لهب الكتابة الأولى،"باعتباري أزعم أن حبي للحياة يعصمني من التلف المبكر، من التأسن، من خسارة هذه المياه التي تتصل بالطفولة والشباب الأول. كما أن القراءات الدائمة والمتجددة تكسب الشاعر الكثير من الخبرة والمعرفة، والذهاب إلى حيث لم يكن قادراً أن يذهب من قبل". عاش شوقي بزيع فترة من الصراع القاسي بين خيارين، أخذا يلحان ويتناوبان عليه. حين كان شاباً في الجامعة انتمى إلى أحد التنظيمات الماركسية، كان جيله يومها مأخوذاً بتجربة الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم. وعلى المستوى الشعري تتلمذ آنذاك على أدونيس ويمنى العيد وخليل حاوي على شعراء ونقاد كبار أخذوا بيده باتجاه الحداثة، هو الذي لم يكن غير شاعر وزن وقافية، ويكتب شعر الزجل وأغاني شعبية في الريف."إذ كان صوت الحداثة يشدني إلى مكان، وصوت آخر، صوت الأيديولوجيا التي كانت ضاغطة في السبعينات تأخذني إلى ناحية أخرى. من جهة، أكتب"طواف في رحاب صاحب العصر"، مأخوذاً بهواجس وجودية، وشديدة الصلة بالثقافة، ومن جهة ثانية أنجز مثلاً قصيدة"أيمن"التي غناها مارسيل خليفة أو"يا حادي العيس". بسبب ذلك الصراع خلد إلى الصمت مدة خمس سنوات، بين عامي 1985 و1990، لم يكتب خلالها شيئاً،"شعرت بأنني إذا استمررت في الاكتفاء بما يسمى القصيدة الوطنية أو قصيدة المقامة، فلن أفعل شيئاً سوى أن أستهلك نفسي، وأنه عليّ أن أخرج من هذا النفق. طبعاً هذا الأمر لم يكن سهلاً. يحتاج إلى تخمر داخلي. مع الأربعين في"مرثية الغبار"كانت تصفية حساب، بيني وبين المرحلة السابقة. ثم انطلقت نحو ما أزعم أنه أفق جديد." في أي حديث مع شوقي بزيع لا يمكن لقصيدة النثر ألا أن تحضر، كمقترح جديد ورؤية مغايرة إلى الشعر والذات والعالم، فيقول إنه في البداية كان حذراً،"لأن الأمور كانت تأخذ طابعاً قاسياً بين الخيارين، بعد أن حسمت الحداثة أمرها مع الشعر العمودي، فبدأت المشكلة المسألة بين قصيدتي التفعيلة والنثر. لم يحقق حينها شعراء قصيدة النثر حضوراً كافياً، وكانوا، كما ذكر لي الصديق عباس بيضون يوماً ما، يشعرون أنهم يتامى وبلا آباء، فهذا الشعور باليتم خلق في داخلهم شعوراً بالعدوانية أحياناً، لماذا؟ لأنهم كانوا يشعرون أنهم مهمّشون، وكانوا يبحثون لهم عن موطئ قدم، داخل مشروعية القصيدة العربية، الأمر الذي خلق توتراً جابهناه نحن بتوتر آخر في المقابل". ويعتقد صاحب"سراب المثنى"أن الأمور هدأت الآن، والحرب التي كانوا يسمونها"داحس والغبراء"تراجعت عند الطرفين، فأصبح أكثر ما يحتفي في كتاباته النقدية بهذه القصيدة وكتابها، كما يؤكد."أقرأ بشغف لعدد من الشعراء، من الجيل السابق مثل أنسي الحاج ومحمد الماغوط الأسمين التأسيسيين". ويوضح أن مشكلة قصيدة النثر أنها لا تقبل أنصاف الحلول، كما هي الحال مع القصائد الأخرى مع الأساليب الأخرى،"بإمكانك أن تكون شاعراً كلاسيكياً أو شاعر تفعيله متوسط الشاعرية، مدعوماً بالوزن والقافية اللذين قد يحجبان أحياناً بهتان معنى ومضامين. في قصيدة النثر تتقدم أعزل إلى الشعر".