لماذا يتأخر ولوج من هم في عقدهم الثالث والرابع عالم الرشد؟ والسؤال هذا يشغل الأوساط الجامعية والسياسية الأميركية التي تقف حائرة أمام"تعثر"انتقال المراهقين الى الرشد. ويوصف هؤلاء بالأولاد ال"بومرينغ"، وهو نبلة ترتد الى مطلقها إذا لم تصب الهدف، أي الأولاد الارتداديين أو المرتدين. وخصت مجلة"نيويوركر"الظاهرة هذه بغلافها، في الربيع المنصرم، ونشرت صورة شاب يعلق شهادة الدكتوراه الجامعية في غرفة صبيانية الأثاث. ولسان حال الأهل اليوم هو كيف بلغنا الحال هذه؟ فالشباب يعودون للاستقرار في منازل الأهل، في ختام الدراسة. ويتأخر، تالياً، دخولهم عالم الرشد. والظاهرة هذه برزت قبل الأزمة الاقتصادية الحالية. ولا يعرف أحد أثرها في حياة الشباب وأهلهم، والمجتمع. وركن المجتمع هو افتراض انتهاج الأولاد طريقاً يفضي الى الرشد يبدأ عند الانتهاء من الدراسة، وبلوغ سن الرشد، والدخول الى سوق العمل، وإنشاء أسرة مستقلة، وينتهي عند التقاعد الذي يسدد نفقاته جيل آخر من الأطفال الذين يسلكون حلقات الحياة نفسها. وثلث الشباب الأميركي يغادر منزل الأهل. و40 في المئة منه يعود مرة على الأقل للسكن مع الأهل. وبين ال20 وال30 سنة، يشغل الشباب نحو سبع وظائف مختلفة. وبدأ سن الزواج يتأخر في أميركا. فهو ارتفع بين 1970 و2009 من 21 سنة للإناث الى 26 سنة، ومن 23 سنة للذكور الى 28 سنة. ويرى علماء الاجتماع أن روزنامة الانتقال الى سن الرشد اختلت. ومحطات الانتقال الى الرشد خمس، أولها الانتهاء من الدراسة، ومغادرة بيت الأهل، والاستقلال المالي، والزواج وختامها ولادة الطفل الأول. وفي 1960، اجتازت 77 في المئة من النساء، واجتاز 65 في المئة من الرجال المراحل الخمس هذه، قبل بلوغ سن الثلاثين. وفي 2000، اقتصرت نسبة الإناث اللائي اجتزن المراحل هذه على 50 في المئة، وتقلصت نسبة الرجال الى الثلث. والشباب لا يسلكون طريقاً واحدة نحو النضج والرشد. وهم لا يستعجلون بلوغ الرشد. وبعضهم لا يجتاز أياً من المحطات الخمس، فلا يتزوج ولا ينجب، وبعضهم الآخر يقلب المراحل هذه رأساً على عقب. ويرى جيفري جنسن ارنيت، أستاذ علم نفس في جامعة كلارك ورسِستر، أن ثمة مرحلة جديدة من الحياة تبرز، هي مرحلة"العشرينات". فما يحصل اليوم يشبه ما حصل قبل قرن، يوم أفضت التغيرات الاجتماعية - الاقتصادية الى صوغ مفهوم المراهقة. وعند منعطف القرن العشرين، عبّدت تغيرات اجتماعية كانت جديدة يومها الطريق أمام بروز مرحلة"عمرية"جديدة تبدأ في الثامنة عشرة وتنتهي في ختام العشرينات. ومن العوامل الاجتماعية التي أسهمت في بروز"الراشدين الصاعدين"، على ما يسميهم أرنيت، إطالة وقت الدراسة، وندرة فرص العمل المخصصة للمبتدئين، وشيوع المساكنة واستخدام حبوب منع الحمل، وتأخير مشاريع الزواج، وإرجاء النساء الإنجاب جراء توافر فرص عمل مجزية وإمكان اللجوء الى وسائل تلقيح اصطناعي، اثر شح الخصوبة. ولكن هل مرحلة"الراشدين الصاعدين"هي فعلاً مرحلة جديدة في الحياة؟ والسؤال هذا هو موضوع مناقشات طويلة في الأوساط الجامعية، خصوصاً في أوساط علماء النفس وعلماء الاجتماع. وما يترتب على خلاصة المناقشات هذه لا يستهان به. فقبل قرن من الزمن، انصرف علماء النفس الى اثبات أن المراهقة هي مرحلة جديدة من النمو الإنساني. وإثر رسوخ الفكرة هذه، أدخلت تعديلات على المؤسسات التربوية ومؤسسات الصحة العامة والخدمات الاجتماعية. وعُدلت القوانين للنزول على حاجات من هم في عمر بين ال12 و 18 سنة. ولكن علامات الرشد في الولاياتالمتحدة ملتبسة. فالشباب في الثامنة عشرة يملكون حق الاقتراع. ولكن، في بعض الولايات، لا يغادر الأطفال بيوت الرعاية قبل عمر ال21. وفي مقدور الشباب الالتحاق بالجيش في الثامنة عشرة، ولكن لا يسعهم تناول الشراب، قبل بلوغ ال21 سنة. ويحق للشاب القيادة في ال16 من العمر، ولكن لا يسعه استئجار سيارة قبل سن ال25 من دون الاضطرار الى دفع رسوم إضافية. فنحن عاجزون عن تحديد بلوغ الشاب سن رشده. وليست أحوال الشباب اليافع واحدة. فبعضهم يتزوج وينجب قبل ال25 من العمر، وبعض آخر يستقل عن الأهل ويحوز شقة قبل الثلاثين، وغيرهم يبقى في منزل الأهل ويعمل في وظائف وقتية أو يبقى عاطلاً من العمل. ويواجه المجتمع تحديات كبيرة ومعضلات، منها اتخاذ قرار حماية الشباب أو تمييزهم عن الراشدين من دون الهيمنة عليهم أو فرض وصاية ابوية وأخلاقية عليهم. وشاغل الأهل هو جواب السؤال الذي يؤرقهم، وهو"هل مراوحة أبنائهم بين المراهقة والرشد سلبية أم ايجابية". فمتوسط حظ الواحد في العمر طال، ويعيش الناس اليوم الى ال90 سنة. وعليه، قد تبرز الحاجة الى اختبار الشاب تجارب كثيرة قبل اختياره خيارات يضطر الى التزامها في حياته المقبلة طوال أكثر من نصف قرن. ويرى بعضهم أن سن الرشد، وهي مرنة و"مطاطة"وتحمل خيارات زواج وعمل البت فيها غير حاسم ولا يستبعد الرجوع عنها، تفترض أن يبادر الشاب الى الالتزام بشيء وإلا فاته قطار الرشد. ويقول 60 في المئة من الشباب المستفتين في دراسة أجراها أرنيت أنهم يشعرون أنهم راشدون وغير راشدين، في وقت واحد. والازدواج هذا هو مرآة وضع الدماغ، على ما يقول علماء طب الأعصاب. وإلى وقت قريب، حسِب هؤلاء العلماء أن نمو الدماغ يتوقف عند البلوغ. ولكن الدراسات الجديدة أظهرت ان نمو الدماغ يستمر الى عشرينات العمر. فنضج الدماغ لا يكتمل قبل ال25 سنة. والحق أن ما ينتظره الأهل من أبنائهم تغير، فهم لا يتوقعون أن تسارع فلذات اكبادهم الى بلوغ الرشد. وبعضهم لا يرغب في أن ينفصل الأبناء عنهم. فمنهم من يندم على زواجه المبكر أو على تحمل اعباء حياة مهنية مبكرة، ويأمل بأن يتسنى لأولاده التأني في الاختيار. وبعض آخر يسعى في طمأنة أولاده الى دوام رابطة متينة بالمنزل الأهلي. ويصعب معرفة ان كان الشاب فعلاً لا يرغب في أن يبقى طفلاً أم ان أهله هم الذين يتمسكون به ويعوقون انطلاقه في الحياة. ويرى أرنيت أن ظاهرة"الراشدين الصاعدين"نادرة في الدول النامية، وأن عدداً لا يستهان به من شباب المجتمعات الصناعية لا يمر بهذه المرحلة. فمرحلة"الرشد الصاعد"ليست جامعة وعامة. والمأخذ هذا هو نواة طعن باحثين معروفين في نظرية أرنيت. * كاتبة في الشؤون العلمية، عن"نيويورك تايمز" الأميركية، 4/11/2010، اعداد منال نحاس