في العامين الأخيرين، لم تنفك السلطات الأميركية تعلن أن"القاعدة"شارفت على لفظ أنفاسها الأخيرة. فعلى سبيل المثال، بشّر مدير وكالة ال"سي آي إي"في أيار مايو 2008، في مقابلة صحافية الأميركيين ب"هزيمة المنظمة الإرهابية هزيمةً استراتيجية". وتباهى بعض القادة العسكريين الأميركيين بأن الهجمات الجوية على أهداف ال"قاعدة"في باكستان أودت بحياة مئات العناصر القيادية في المنظمة هذه. وعلى رغم احتضار الحركة الإرهابية، وسعها أن تشن في ختام الشهر الماضي هجومين، أخفق الأول في بلوغ مأربه، وأصاب الثاني هدفه. وحمل الهجومان السلطات الأميركية على اعادة تقويم سياساتها الأمنية تقويماً معمقاً هو الأول من نوعه منذ 2001. ويبدو أن أنشطة ال"قاعدة"الأخيرة هي ثمرة نهج جديد يقوم على خمسة أركان وأولها هو الاستفادة من انتشار شبكتها شبكة المنظمة، والتعويض عن ضعفها في المجالات الرقمية. ورمت هجمات الحادي عشر من أيلول سبتمبر 2001 الى توجيه ضربة قاضية الى الولاياتالمتحدة. واليوم، تسعى"القاعدة"الى قتل عدوها قتلاً بطيئاً. فالمنظمة تحاول تشتيت انتباهنا، وإرهاقنا. ولذا، تنهمر على أنظمة استخباراتنا سلسلة تهديدات لا تعد أو تحصى، وتغرق أنظمتنا بمعلومات عن هجمات متخيلة. وتتوقع"القاعدة"أن تفوّت الغربيين معلومات عن هجمات فعلية جراء انشغالهم بمعالجة معلومات غير مفيدة. وفي خضم الأزمة المالية العالمية، أعلنت"القاعدة"أنها تقود حرباً اقتصادية علينا. وهذا ركن نهجها الجديد الثاني. ونشرت العام الماضي بيانات، وأفلام فيديو صغيرة، ورسائل صوتية على شبكة الإنترنت تحتفي بنجاح هجماتها على النظام المالي الغربي. ونسبت"القاعدة"الأزمة الاقتصادية خطتها. وهذه حملة بروباغندا دعاية سياسية صريحة، وضعيفة الصلة بالواقع. ولكن الحملة هذه قد تلقى صدى، ويُصدقها جمهور"القاعدة"، على رغم افتقارها الى أضعف أساس. وتحاول"القاعدة"شق شركاء التحالف الدولي الذي يحاربها. ففي العامين الماضيين، أعد حلفاء القاعدة في باكستان هجمات في برشلونة وأمستردام عقاباً لإسبانيا وهولندا على دورهما في مكافحة الإرهاب. وهذا ركن الخطة الثالث. وفي أفغانستان، ينفذ انتحاريون هجمات تستهدف جنود بريطانيا، وكندا، وألمانيا، وهولندا. وتُزرع عبوات على طريق هؤلاء الجنود. وتريد"القاعدة"تعجيل انسحاب قوات ال"ناتو"من أفغانستان. والركن الرابع للخطة سعي منظمة"القاعدة"في زرع الاضطراب في دول فاشلة، وإنشاء ملاذات آمنة لها في المناطق الخارجة على سلطة الدول هذه. وكثفت الشبكة الإرهابية هجماتها في باكستان، والجزائر، والساحل الأفريقي، والصومال، واليمن. وعلى رغم أن عدد عناصرها يتفاوت في المناطق المختلفة، تحاول"القاعدة"زيادة مواردها. فهي تمد يد العون الى مجموعات محلية ارهابية، وتسهم في اعداد هجماتها، وتمدها بالسلاح ومعلومات استخباراتية، وتدربها. وتنشئ مواقع دعاوية خاصة بهذه المجموعات المحلية على شبكة الإنترنت. وتبذل"القاعدة"جهوداً كبيرة في تجنيد عناصر موالية لها في دول غير اسلامية ترسي بواسطتها موطئ قدم لها في الغرب. ويرى زعماء ال"قاعدة"، خامساً، أن استمالة غربيين اعتنقوا الإسلام هي أولوية كبرى، فأسماء هؤلاء الغربيين، وملامحهم الغربية، لا تثير شكوك رجال الأمن في المطارات وغيرها من المرافق. وبحسب تقارير الاستخبارات الأميركية والبريطانية،"تخرّج"مئات الشبان المتحدرين من دول غربية من معسكرات تدريب ال"قاعدة"في باكستان. وهؤلاء تدربوا على تنفيذ عمليات ارهابية. ويراقب رجال"القاعدة"اجراءات الدفاع الغربية ليجدوا ثغرات أمنية ضعيفة. ويتابعون المناقشات البرلمانية في الدول الغربية، ويقرأون التحليلات والتقارير الصحافية، ويستقون منها معلومات استراتيجية. واستندت منظمة"القاعدة"الى هذه المعلومات لإجهاض اجراءات أمنية اتخذتها الدول الغربية. وعمليات ال"قاعدة"في الأشهر السبعة الأخيرة هي مرآة تنوع تكتيكات المنظمة. فالهجمات نفذها ارهابيون متطرفون مختلفو المنابت من أمثال البلوي، العميل المزدوج الذي اخترق الاستخبارات الأردنية والأميركية، وأودى بحياة عدد كبير من عملاء وكالة الاستخبارات الأميركية. وثمة عملاء ينتمون الى خلايا نائمة، من أمثال ديفيد هيدلي، الأميركي الذي زوّد"عسكر طيبة"، والمنظمة الإرهابية الباكستانية وأقدم حليف ل"القاعدة"، بمعلومات يسرت تنفيذ هجمات بومباي الدامية، في تشرين الثاني نوفمبر 2008. ومن هؤلاء العملاء عمر فاورق عبد المطلب النيجيري الذي حاول تفجير طائرة خطوط"نورث ويست ارلاين"فوق ديترويت، ونجيب الله زازي الأميركي من أصل أفغاني الذي اوقف بنيويورك، في ايلول سبتمبر الماضي، بتهمة التخطيط لتنفيذ هجمات على منطقة هدسون تحاكي هجمات بومباي. وثمة"ذئاب مستوحدون"يوالون"القاعدة"من أمثال الرائد نضال حسن، الذي أردى 13 من زملائه في قاعدة فورت هود العسكرية، في تشرين الثاني الأخير. وبينما تسعى"القاعدة"في استغلال نقاط ضعفنا، نكتفي بالرد على عملياتها عوض ارساء استراتيجيات استباقية تحول دون حصول الهجمات. وحريّ بالاستخبارات الغربية النظر في مفاهيمها، وإرساء سياساتها على أسس استباقية. * أستاذ جامعي وخبير في شؤون الإرهاب،"واشنطن بوست"الأميركية، 14/1/2010، اعداد منال نحاس نشر في العدد: 17092 ت.م: 20-01-2010 ص: 26 ط: الرياض