كان اللبنانيون يتوقعون الانعطاف السياسي الذي وعدهم به الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، ولكنهم فوجئوا بالتوقيت الذي أربك سعد الحريري واضطره الى تأجيل عملية تشكيل الحكومة. وبرر رئيس اللقاء الديموقراطي خروجه من صفوف"اليمين المنحاز"بالقول إن تراجعه عن مواقف تبناها عقب اغتيال رفيق الحريري، انما كان نتيجة قرار اتخذته"الجمعية العمومية الاستثنائية التنظيمية للحزب التقدمي الاشتراكي". ومن المؤكد أن هذه الجمعية التي تدين بالولاء المطلق لزعيمها، وجدت في لقاء المصارحة والمصالحة مع السيد حسن نصرالله، فرصة لإحياء الخط السياسي الذي كان يجمع سيد المختارة بقادة دمشق. وربما أراد وليد بك الإيحاء لجماعة 14 آذار، أن انفصاله عنهم خضع لقرار ديموقراطي اتخذته هيئة حزبية مستقلة. ومعنى هذا أن مواقفه السياسية تبقى رهناً لمشيئة الغالبية في حزب ورثه عن المرحوم والده. وهذا يذكّر بزيارة قديمة قام بها الى المختارة اليساري البريطاني الاشتراكي بيفن تلبية لدعوة كمال جنبلاط. ولما امتلأت صالات البيت العامر بمئات المرحبين بكمال بك وضيفه، سأل بيفن مضيفه بلهجة لا تخلو من السخرية، ما إذا كانت الأزياء الموحدة هي بذلات نظامية تميز أفراد حزبه الاشتراكي. وكان بهذا السؤال الهادف يعبر عن قناعته بأن الزعامة الإقطاعية هي التي تجمع طائفة الموحدين الدروز وليس مبادئ الحزب التقدمي الاشتراكي! يستدل من وقائع سابقة انها ليست المرة الأولى التي يستخدم فيها وليد جنبلاط قرار الجمعية العمومية للحزب، من أجل الحصول على تغطية سياسية ومناقبية لخطوة خطيرة كان يتردد في اتخاذها. وأفضل مثل على ذلك ما حدث عقب اغتيال والده 16 آذار/ مارس 1977 وظهور خيارات صعبة بالنسبة الى سياسة التعامل مع سورية باعتبارها الجهة المتهمة بتدبير عملية القتل. ولم ينقذ وليد جنبلاط في حينه من حال الضياع والتوتر سوى قرار الجمعية العمومية للحزب، اضافة الى إعلان المشايخ الذين دعموا موقفه بحجة أن"ابن عمود السماء"لا يخطئ. واستناداً الى تلك التوصيات والذرائع برر وليد جنبلاط زيارته غير المتوقعة لدمشق. ولمراجعة ظروف المرحلة السابقة التي فرضت تدخل"الجمعية العمومية التنظيمية للحزب التقدمي الاشتراكي"، لا بد من تفسير الدوافع السياسية التي أرجعت جنبلاط الى الثوابت الماضية. من المؤكد أن زيارته لواشنطن في آذار 2006، شكلت نقطة تحول في موقفه المناهض لعودة الهيمنة السورية. وقد وصف تلك الزيارة ب"النقطة السوداء"لأنها عرضته للإحراج أمام شخصيات أميركية جمعها له السفير السابق مارتن انديك. وعلى رغم تحفظه في الكلام، فقد هاجم النظام السوري الذي اتهمه بقتل والده، واعترف بأنه نادم على تصالحه مع دمشق.وأثنى على شجاعة الرئيس جورج بوش الذي قضى على الديكتاتور صدام حسين، وتمنى أن تكون هذه الحرب مدخلاً لإسقاط الأنظمة الديكتاتورية في العالم العربي. ومثل هذا الجواب لم يكن أكثر من عبارة مخففة لندوة استغرقت ساعتين، أفرغ فيها جنبلاط ما يملأ 16 صفحة من كلام يندر أن يقوله علناً. وكان بين الحضور أكثر من ممثل للسفارة السورية. ومن الندوة انتقل إلى مكتب وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس، حيث سمع منها عن سورية كلاماً لا يقل انتقاداً عن كلامه. أي أنها أوحت له في حديثها ما اعتبره كافياً لزعزعة النظام أو إسقاطه. ولكن هذا الانطباع تبدل في آخر عهد بوش، الأمر الذي أثار فضول وليد بك، ودفعه لزيارة واشنطن مرة ثانية. ولدى استيضاحه حقيقة السياسة الأميركية، تبين له أن الانطباع الأول لم يكن صحيحاً، ثم جاء عهد باراك أوباما ليحدث انقلاباً في علاقة واشنطن مع سورية وإيران وكوريا الشمالية. ونالت دمشق من سياسة الانفتاح النصيب الأوفر بسبب استعدادها لتسهيل مهمة الرئيس الجديد في العراق ومواقع أخرى في المنطقة. وقامت الوزيرة هيلاري كلينتون بتدشين هذه المرحلة من طريق إرسال مبعوثين الى سورية. أمام هذه المتغيرات الاقليمية أدرك وليد جنبلاط أن رهاناته السابقة لن تتحقق، وأن المرحلة تتطلب اجراء نقد ذاتي قبل الانتقال الى فضاء سياسي يجمعه والرئيس نبيه بري تحت مظلة رئيس الجمهورية ميشال سليمان. لذلك باشر عملية الانفصال بتمرير محضر جلسة سرية الى الصحف، هاجم فيها المارونية السياسية الكارهة للعروبة، ومشدداً على ضرورة إقامة علاقات مميزة بين لبنان وسورية. وكان بهذا التذكير ينكأ جراحات اتفاق 17 أيار وما نتج منه من حرب طاحنة في سبيل اسقاطه. وقد شهد خريف سنة 1983 أعنف المعارك يوم اشتركت الأساطيل الأجنبية في ضرب مناطق الشوف، بينما تحصنت قوات اللواء الثامن بقيادة العماد ميشال عون في"سوق الغرب"كي تمنع دبابات الحزب التقدمي الاشتراكي من الوصول الى الرئيس أمين الجميل المتمركز في قصر بعبدا. محضر هذه الجلسة سربه مصور محسوب على جنبلاط، للفت انتباه المسؤولين السوريين، الى أن الخصم السابق بدأ يمهد الطريق للتراجع وفعل الندامة. ولكن هذه"التسريبة"لم تلق الصدى الواسع الذي لقيه محضر الخلوة الدرزية إثر نشره في صحيفة"الأخبار". وفيه يعترف جنبلاط بأهم المتغيرات التي ادخلتها الأحداث اللبنانية والاقليمية والدولية، على تفكيره. وأعلن في تلك الخلوة عن نياته المبيتة تجاه الشيعة، كأنه يهيىء لدخول مرحلة جديدة لا تضم جماعة 14 آذار. ومن أهم عناوين تلك المرحلة: أولاً - الإبقاء على التحالف التقليدي مع رموز المسيحية، والتخلي عن سمير جعجع وآل شمعون ومن يدور في فلكهما. ثانياً - علينا أن نجد طريقة تحفظ وجودنا مع الشيعة. الشيعة اليوم ثلث البلد... مليون ومئتا ألف مواطن. وهم منتشرون من الجنوب حتى خط الشام. نحن الدروز في الوسط. المسيحيون لن يعودوا الى الجبل. إنهم ينقرضون. البحر السني كبير ولكن ليس عندنا بل في طرابلس وعكار. لذلك أريد منكم أي المشايخ مؤازرتي على تخفيف العداء للشيعة. مش وقتها نتذكر حربنا مع الشيعة في عهد فخر الدين. ثالثاً - علينا أن نغلق ملف 7 أيار. لقد قتل الشيعة منا وقتلنا منهم. السنّة اخترعوا من 7 أيار كربلاء جديدة. المهم من كل هذا ان رسائل جنبلاط السرية والمعلنة وجدت أرضاً خصبة لدى خصومه السياسيين الذين رحبوا بعودة الابن الضال. ويبدو أن دمشق أعطت الضوء الأخضر لحلفائها على اعتبار أن وليد جنبلاط سيكون في المستقبل أفضل من ميشال عون لجهة حمل الراية السورية. والسبب أنه كان حليفاً موثوقاً وشريكاً مهماً في عمليات تنفيذ سياستها في لبنان. صحيح أن"حزب الله"قد تولى الآن هذه المسؤولية، ولكن جنبلاط على صعيد المنطقة، يبقى أطول باعاً وأقوى عضداً. فهو يؤثر سياسياً في 300 ألف درزي في لبنان، ونصف مليون درزي في سورية ومئة ألف درزي في فلسطين و25 ألف درزي في الأردن. بعض المراقبين يراهن على رفض القيادة السورية استقبال جنبلاط نظراً الى الأذى المعنوي الذي أحدثته تصريحاته وتعليقاته على سمعة النظام. ولكن الوقائع المعروفة تدحض هذا التصور، لأن دمشق تتعامل مع خصومها وأصدقائها بواقعية المصلحة الدائمة. وأفضل مثل على ذلك انها استقبلت بترحاب ميشال عون الذي هدد بتكسير رؤوس الكبار وضرب المدن السورية بصواريخ صدام حسين. وقد لا يصلح ايلي حبيقة لأن يكون مثلاً في هذا المجال، لأن الرئيس أمين الجميل مؤمن بأن حبيقة كان عميلاً سورياً منذ تولى حراسة شقيقه بشير، ثم ساعد على اغتياله. تقول مصادر مطلعة ان السيد حسن نصرالله هيأ الأجواء لاستقبال جنبلاط في دمشق بعد تأليف الحكومة، وبعد زيارة سعد الحريري، هذا في حال لم يعتذر عن تشكيلها. وما يهم سورية من تغيير التوازنات السياسية اللبنانية، يتجلى في تفكيك السنّة بحيث ينفرط عقد تحالفهم مع الدروز. وقد حقق لهم جنبلاط انفراط حلقة قوية وصامدة. ذلك أنه لولاه لما نشطت التظاهرات والمسيرات التي غطت الشوارع منذ اغتيال الحريري. ولولا صموده لما تجرأت 14 آذار على مقاومة الخوف بعد اغتيال 14 كاتباً وصحافياً ونائباً. وللغاية ذاتها يعمل النائب سليمان فرنجية على تفكيك وحدة المسيحيين المعارضين لسورية عبر احتواء الكتائب وعزل الدكتور جعجع و"قواته". وفي حال تحققت كل هذه الأهداف تصبح سورية في مأمن وسلامة من المخاطر التي تسببها لها دائماً"خاصرتها"الغربية. عقب اجتماعه برئيس الجمهورية ميشال سليمان، أعلن جنبلاط أن البعض أساء تفسير كلامه، وأنه لم يخرج من قوى 14 آذار، ولن يتخلى عن دعمه لرئيس الحكومة المكلف. ومثل هذا التراجع المفاجئ يعبّر عن عمق قلقه على مستقبله المجهول وسط متغيرات لم يحسب حسابها. فالقول بالعودة الى الثوابت اليسارية والعربية والنقابية والفلاحية أصبح خيالياً لكثرة ما استهلك في الخطب الحماسية. ذلك أن الشعارات التي طرحها زعيم المختارة لترويض عقول جماعته على قبولها، أصبحت صفحات ممزقة من تاريخ منظومة اشتراكية تفككت الى 24 دولة. وليس أمامه في هذا الحال، سوى البحث عن دور جديد في موقع جديد مع فريق جديد! * كاتب وصحافي لبناني. نشر في العدد: 16927 ت.م: 08-08-2009 ص: 11 ط: الرياض