الدراسات التاريخية المقارنة من الموضوعات العلمية الدقيقة، التي تقتضي الإلمام بشتى ألوان المعرفة الإنسانية وأصنافها، لا سيما في الموضوعات الحضارية المتنوعة. وهذا الكتاب"حركة محمد عبده، وعبدالحميد بن باديس، وأبعادها الثقافية والاجتماعية والسياسية -1849/1940م"يمثل دراسة تاريخية حضارية، فكرية مقارنة بين عمل رجلين من رجال النهضة العربية الإسلامية الحديثة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين وهما: محمد عبده في مصر، وعبد الحميد بن باديس في الجزائر، وأعمالهما هذه ثرية ومتشعبة، تستوجب الخبرة والدراية بأسس الحضارة الحديثة وقيم الإسلام ومناهج الإصلاح والمعرفة الصوفية وطبيعة العمران البشري، وقواعد التفسير ومفاهيم السياسة وأصول الحكم، ومبادئ الفلسفة وأنماط التربية. ذلك أن هذين المصلحين ساهما بقسط وافر عملياً ونظرياً في إنقاذ المجتمعين المصري والجزائري من الانحطاط الداخلي العام الذي أصاب الدين والأخلاق والثقافة والعلاقات الاجتماعية والأسرية على حد سواء، كما أصاب الوطن ومؤسساته السياسية القيادية والاقتصادية، كنتيجة حتمية للهيمنة الاستعمارية من ناحية، ولاستمرار عامل الجمود والتخلف من ناحية ثانية، كما ساهما بجهد معتبر في بعث وإحياء ومحاولة تجديد التراث العربي الإسلامي والتعريف به، وهو عمل حضاري كان يبدو على جانب كبير من الأهمية ليس فقط لدى مواطنيهما بل حتى عند بعض المثقفين والباحثين الأوروبيين والأجانب الآخرين عموماً. يشير المؤلف عبدالكريم أبو صفصاف إلى أن اختياره هذا الموضوع يعود إلى أسباب عدة منها: قلة اهتمام الباحثين العرب في المشرق بالشخصيات والحركات الفكرية في المغرب العربي عموماً وفي الجزائر خصوصاً، منذ ظهور الهجمة الاستعمارية على شمال أفريقيا، حيث إن بعض الكتاب الجزائريين ومنهم ابن باديس ينحون باللائمة على المؤرخين والكتاب المشارقة عموماً، الذين لم يهتموا خصوصاً في الجزائر التي كانوا يعدونها جزءاً لا يتجزأ من الممتلكات الفرنسية مثل: أحمد أمين في كتابه"ضحى الإسلام". الرغبة في البحث عن الحقيقة في ما يقال عن الفروق الفكرية بين المثقفين المشارقة والمغاربة لا سيما ما يتردد على الألسن، بل في بعض الكتابات من أن المستوى الفكري في المشرق أرقى وأنضج منه في المغرب، الرغبة في أبرز قيمة الروابط الثقافية بين المفكرين المشارقة، والمفكرين المغاربة عموماً والجزائريين خصوصاً. وعلى رغم أن الرأي السائد في الجزائر لدى بعض المثقفين هو أن المقاربة تصح أكثر بين جمال الدين الأفغاني وابن باديس غير أن هذا البحث أكد أن الأستاذ الإمام، هو أولى مقاربة وأكثر تشابهاً مع المصلح الجزائري من الأفغاني. انطلق الكتاب من نقطة كيف عمل كل من الشيخ محمد عبده في مصر والشيخ عبد الحميد بن باديس في الجزائر، من أجل يقظة شعبيهما ووضعهما في المواجهة المباشرة مع المستعمر الغربي من جهة، وفي مواجهة مؤسسات الجمود والتحجر المحلية من جهة أخرى، وكيف استطاع كل منهما أن يقاوم الجهل وينشر المعرفة العلمية والثقافة الدينية، باعتماده على إمكاناته وإمكانات شعبه، وإلى أي مدى تمكن الرجلان، من تقديم الأدلة والبراهين على أن مبادئ الإسلام الصحيح، لا تتعارض مع نتائج العلوم التجريبية الحديثة. ومن الشواهد التي حصرها المؤلف من آثار الرجلين: أنهما كانا يريان الخلاص من السيطرة الاستعمارية بسلوك طريق طويل أصيل، يعتمد أولاً على إعادة الاعتبار للمجتمعين المصري والجزائري، وفي هذا الإطار يحتل الإسلام في نظر الرجلين مكانة مهمة لا باعتباره أحلام دروشة، أو غيبيات غامضة، ولكن بصفته نمطاً حضارياً في الفكر والسلوك، يساعد على مد جسر متين من الماضي إلى المستقبل. وطريق عبده وبن باديس يعتمد ثانياً على الأخذ بوسائل الحضارة التقنية الحديثة وهضم علومها وأساليبها، حتى تكون مواجهة الغرب ناجحة، ليس فقط بالنسبة للتخلص من الحاضر الاستعماري، ولكن حتى بالنسبة لمراحل البناء بعد الاستقلال، فالفكر الفلسفي عند عبده وابن باديس لا يقف عند حدود الاهتمامات اللاهوتية، والميتافيزيقية، ولكنه متصل بحركة أوسع وأشمل وهي البحث عن أضمن أسلوب للقضاء على مختلف أنواع التخلف التي تمثل أقوى أخلاف الاستعمار. ومن هذا المنطلق كان حرص المصلحين على تحقيق تلك الازدواجية المتمثلة في بعث أحسن التراث العربي الإسلامي من جهة، ومن جهة أخرى تبني أصلح وألزم ما في الثقافة العصرية من طريق تمثيل وهضم الوسائل التي مكنت الغرب من التفوق، مع اعتبار كبير للعوامل الاقتصادية. وفى سياق تناول المؤلف لهذه القضية يطرح علينا السؤال الآتي: أليست دعوة عبده وابن باديس إلى إصلاح المجتمع وإخراجه من التخلف الاقتصادي والثقافي، دعوة مثالية؟ وبصيغة أخرى هل يمكن تحقيق كل ذلك في ظل الاستعمار؟ ألا توجد هناك أولويات أخرى؟ الإجابة: يختلف الأمر هنا بين الرجلين، فكلاهما حاول أن يضع يديه على جميع العلل، والأمراض الاجتماعية، وكلاهما حاول أن يلفت نظر الناس إلى عوامل التخلف بوصفها حليفة الاستعمار، ولكن عبده سلك في ذلك التؤدة والأناة على رغم أن مجتمعه كان أكثر تقدماً، في حين أن ابن باديس كان إحساسه شديداً بضرورة السير السريع. أما في موضوع الفلسفة بمعناه الاصطلاحي فإن باع الشيخ محمد عبده فيه كان أطول وأعمق وأشمل من باع ابن باديس، لأن الأول ترك نظرات فلسفية واضحة، ودخل في نقاش حاد مع مفكرين وفلاسفة أوروبيين وعرب ومسيحيين، في حين أن ابن باديس دافع فعلاً عن الإسلام ضد منتقديه من مفكري الغرب، ولكن ردوده لم تكن ذات قيمة فلسفية، أو فكرية عالية كما هو الحال عند محمد عبده، غير أن ابن باديس وفق فعلاً في ميدان الفلسفة العملية أكثر مما وفق الفيلسوف المصلح في مصر، لأن الأول كان أكثر ديناميكية من الثاني، بل إن عمله كان يتم في معظم الأحيان بين الجماهير الشعبية. وبعد تناوله سيرة رائدين من رواد الإصلاح والتجديد في العالم العربي وأعمالهما الفكرية ونضالاتهما السياسية انتقل الكاتب إلى استخلاص نتائج عدة منها على سبيل المثال: انطلق كلاهما من الانحطاط الداخلي، الذي أصاب الأمة سواء لأسباب داخلية أو لعوامل خارجية، وهما في ذلك يشبهان الكثير من قادة العالم الذين غيروا مجرى التاريخ. ونقلوا شعوبهم من مرحلة أدنى إلى مرحلة أعلى، فمحمد عبده عندما ظهر، كان المجتمع المصري يعاني من وطأة الديون الخارجية ومن فساد الحكام، ومن جمود المؤسسات الدينية والثقافية، فبدأ ينظر بعين نحو الداخل وأخرى نحو الخارج. أما ابن باديس لما برز في الساحة الجزائرية، كانت البلاد ترزح تحت وطأة أبشع نظام استعماري عرفته البشرية في ذلك الوقت، ومن ثم فإن فكر الرجلين على رغم أصالته المرجعية فإنه كان من نتائج ردود فعلهما على الغزو الأجنبي والتخلف الداخلي معاً. من المؤكد أن فكر المصلح المصري بدأت ملامحه تتضح وتتبلور في مرحلته الطالبية، أي قبل الاحتلال الإنكليزي لمصر بحوالي عقد من الزمن، ومع ذلك كله، فإن جل أفكاره التي تحتوي على معرفة نقدية للتراث من ناحية، ولواقع المسلمين من ناحية أخرى اكتملت ونضجت في العهد الاستعماري. أما ابن باديس فإن نشأته في أسرة قسطنطينية تشترك مع الفرنسيين المحتلين في تسيير شؤون البلاد، كان من الممكن أن يوجه فكره وجهة غربية لا شرقية، ولكن تمسك والده بالقيم العربية والتقاليد الإسلامية الجزائرية، جعله يوجه ابنه البكر توجهاً يختلف عن توجهات جيله من أبناء العائلات الكبيرة المعجبة بالحضارة الفرنسية. ومن هنا فإن فكر المصلح الجزائري يمكن اعتباره متولداً بالدرجة الأولى من العصبية الثقافية التي وقفت في وجه الغرب مدة قرن وثلث القرن أثناء اجتياحه بلدان الشمال الأفريقي، في حين أن فكر عبده هو استمرار لفكر النخبة المصرية المثقفة مع شيء من التجديد كنتيجة حتمية لتأثره بالحضارة الغربية. ثقافة الرجلين كانت ثقافة عربية إسلامية متطورة، فهما على رغم تمسكهما بالينابيع الأولى للإسلام والأخذ بالميراث التقليدي للمسلمين عبر التاريخ فإنهما استطاعا أن يوجدا ثقافة عربية راقية لغة وأسلوباً وفكراً، تجاوزا فيها بعض ثقافة علماء العصور الإسلامية السابقة ومصنفاتهم المعقدة أحياناً والجافة أحياناً أخرى لغة وأسلوباً، وقدّموا لأجيال عصرهما بل عصرنا أيضاً نصوصاً سهلة التناول شائقة الأسلوب حلوة العبارة، سواء في النصوص الدينية أو الاجتماعية أو في النصوص السياسية أو حتى الفكرية الفلسفية ما جعل قراءتها وفهمها واستيعابها ميسراً للجميع، وفي الوقت ذاته نقلا إلى قراء العربية دراسات علمية وتربوية أدبية من الثقافة الغربية مطبوعة بالطابع العربي القومي، لا سيما الشيخ محمد عبده الذي قرأ الكثير من المؤلفات لكتاب انكليز وفرنسيين وروس. أما ابن باديس فقد اتخذ من صحيفته"الشهاب"منبراً لنشر الآراء والأفكار العربية منها والغربية، بل إنه كان ينشر مقالات كاملة مترجمة عن الصحف والكتب الفرنسية إلى قراء العربية. وبذلك أسهم المصلحان في إثراء الثقافة العربية ومعارفها المختلفة. فكان ما نقلاه إلى المجتمعين المصري والجزائري من ثقافة الغرب بمضامين متنوعة أكثر وأثمن مما نقلته النخبة المفرنسة في الجزائر مثلاً إلى مواطنيها، لأنها كانت تجهل لغتهم وتنبذ عاداتهم وتقاليدهم المحلية، واقتصرت على تكريس بعض القيم الأجنبية، التي كان المجتمع الجزائري أو المصري في غنى عنها. أما نوعية ثقافة الرجلين ومدى استفادة المجتمع منها فيمكن القول انطلاقاً من هذه الدراسة، ومن سلوك الأجيال التي تكونت في بوتقة ما نسميه بالمدرسة"العبدوية"والمدرسة"الباديسية"، هو تكوين الروح الوطنية في الناشئة، والأخذ بالأخلاق الإسلامية الرفيعة، وبعض قيم الغرب المنسجمة مع القيم العربية، وخلق نوع من التفكير المتفتح على الثقافة العالمية. كما استفاد مواطنوهما من الاطلاع على الثقافة العربية الإسلامية من خلال كتابتيهما بلغة سهلة واضحة، وفي الوقت نفسه استفادوا من بعض ما كتباه عن الحضارة الغربية، ومن طرق التعليم المعاصرة التي استعملت وللمرة الأولى للبنين والبنات في عهد الرجلين، لا سيما في جزائر ابن باديس، الذي كان أول من أنشأ مدرسة عربية في الجزائر على الطراز الحديث سنة 1917م. وكذلك تفسير القرآن بأسلوب مبسط ومفهوم من قبل جميع المستمعين لدروسهما والقراء لصحافتيهما، وبخاصة تفسير ابن باديس الذي كان موجهاً بالدرجة الأولى إلى المجتمع الجزائري الذي كان قد فقد كل مقومات ثقافته العربية. كلا الرجلين، حاول أن يقدم حلولاً مناسبة لمجتمعه بحسب ظروفه الخاصة، فكلاهما راعى عنصرين أساسيين في اجتهاده إصلاح المجتمع هما: قيم الإسلام وروح الحضارة الحديثة. غير أن الشيخ محمد عبده كان مسايراً لعصره أكثر من الشيخ ابن باديس كما يبدو من آثارهما، فالأول ذهب بعيداً مثلاً في الدعوة إلى حرية المرأة، كالمطالبة بحقها في الطلاق وفي سفور الوجه، ومنع التعدد إلى درجة أنه ساهم في تأليف كتاب"حرية المرأة"مع تلميذه"قاسم أمين"، كما ذهب إلى ذلك محقق أعماله الدكتور"محمد عمارة". وعلى المستوى الاقتصادي أفتى بجواز فوائد صندوق التوفير والتأمين الاجتماعي وارتداء ملابس الغربيين كالبرنيطة"Chapeau"مثلاً، في حين أن مساهمة ابن باديس في ترقية المرأة لم تتعد حدود التقاليد الاجتماعية الجزائرية التي كان يعيش فيها إلا في إطار التعليم، فقد نادى بفتح الباب أمامها للأخذ بكل المعارف الدينية والدنيوية، من دون حدود أو قيود، كما دعاها إلى العمل في كل الميادين باستثناء الرئاسة أو القيادة، وهو أمر غامض إلى حد ما في رأي المصلح الجزائري، وفي إطار المظهر الشخصي للمرأة فقد رخص لها أن تخرج إلى الشارع سافرة الوجه، ولكنه ربط ذلك بالبيئة الاجتماعية التي تعيش فيها حسب الوضع الذي تعود الناس رؤيتها فيه، وهو خلاف لما أفتى به المصلح المصري الذي طالب المرأة بأن تكون سافرة الوجه، لا سيما في مواقع العمل والمسؤولية والشهادة. صحح كلاهما بعض العقائد الإسلامية، التي تسربت إليها البدع والخرافات، وقاوما الجبرية، ودعيا إلى حرية الإرادة وحرية العقل، ولعل هذا من أبرز العناصر الإيجابية في حركتيهما، والذي يمكن أن يستمر مع الأجيال على الدوام، وقاوما بعض الظواهر الاجتماعية المرتبطة بالدين كتقديس الأولياء في حياتهم والتمسح بقبورهم بعد وفاتهم. كما أنهما حاولا أن يبطلا بعض السلوكيات أو الممارسات، كزيارة المقابر والأضرحة مثلاً، وهما يبرران تلك المقاومة بالابتعاد عن الحدود الشرعية، لأنهما كانا يخشيان أن تتحول تلك الزيارات إلى تقديس أصحاب القبور، مما يؤدي إلى الشرك. غير أن انشغالهما بمقاومة رجال الصوفية والفقهاء التقليديين جلب عليهما نقداً كثيراً من الكتاب والسياسيين الذين اعتبروا عملهما في هذا الحقل مضيعة للوقت وخروجاً عن رسالتهما الحقيقية، التي حصروها بالنسبة لابن باديس في التربية والتعليم، وبالنسبة لمحمد عبده في التعليم والتوجيه والقضاء وإصلاح الأزهر. ولكن أكبر عمل ديني وثقافي ورثه المسلمون عن هذين المصلحين هو تفسير القرآن الذي يعد من أجود التفاسير وأثراها وأكثرها ملاءمة للعصر، ذلك أن كل من يقرأ هذا التفسير يشعر بطرافة الموضوع ومتعة الأسلوب وجمال اللغة وبذوق فني رفيع وبمعلومات تاريخية وعلمية قيمة، بالإضافة إلى المعرفة الدينية والأخلاقية التي تربي المجتمع وتربط اللحمة بين أفراده وتربي فيه قيم الحرية ونبالة الضمير الإنساني. الممارسة السياسية في عملهما كانت ممتزجة بأعمالهما الأخرى، فكلاهما كتب في السياسة، وكلاهما قدم آراء ونظريات في أصول الحكم وإشكاليته، وكلاهما قدم مطالب سياسية إلى الجهة المعنية في عصره، وكلاهما ألقى خطباً سياسية وربما ثورية أيضاً كالشيخ محمد عبده مثلاً في وسط الثورة العرابية، وكلاهما شارك في حوارات سياسية، ولكن لا أحد منهما يمكن أن نقول عنه إنه كان رجل سياسة بمعناها الاحترافي أو بمدلولها العملي، لأن انشغالهما بالمسائل الدينية والتربوية والقضايا الاجتماعية والثقافية قد طغى على إنتاجهما الفكري، وإن كانت جل نصوصهما لا تخلو من السياسة. غير أن مواقفهما السياسية تجاه الاستعمار الغربي لم تكن ثورية عملاً وسلوكاً، وإن كانت مكثفة طبيعة وطموحاً. ويمكن القول بأنهما كانا أول من عبّر عن الوطنية تعبراً حديثاً من العرب المسلمين كل في وطنه وفي عصره، وقدم فيها منظوراً سياسياً عميقاً، واعتبر في الجزائر الأساس الذي بني عليه الفكر الوطني بعد ذلك قاطبة. أما ابن باديس فباستثناء نظرته التقييمية للتاريخ العربي والإسلامي والتاريخ الوطني لا نكاد نعثر له على عمل ذي قيمة فلسفية واضحة، ما عدا ما يمكن أن نستنبطه من مقاله الخاص بالتمييز بين الإسلام الذاتي والإسلام الوراثي، أو ما يمكن أن نستشفه من نص دعوة الجمعية الذي كتبه سنة 1936م، والذي أضفى عليه طابعاً فلسفياً وإنسانياً تسامحياً اجتماعياً واقتصادياً واضحاً. ولعل أهم ميزة تميزت بها حركتا عبده وابن باديس من وجهة نظر المؤلف هي ميزة التسامح مع أصحاب الأديان المخالفة ومع خصوم الإصلاح، فبخصوص المسألة الأولى دعا المصلح المصري إلى الاتحاد والتسامح والتعاون بين الأديان السماوية الثلاثة اليهودية والمسيحية والإسلام، وبسبب وجود طوائف يهودية ومسيحية في مصر، ألغى محمد عبده عنصر الدين من مقومات الوطنية المصرية. أما ابن باديس في الجزائر فعلى رغم أن وطنه كان مستعمرة فرنسية استيطانية، فإنه كان يرى أن الديانات السماوية، بل وحتى المجوسية تستطيع أن تعيش في وئام وتسامح وأخاء مع بعضها، إذا كانت بعيدة عن الظلم والعنصرية والأنانية والإجحاف. وفي ما يتصل بالمسألة الثانية، فإن كلا المصلحين، كان يدعو خصومه من الطرقيين والفقهاء الرسميين الجامدين إلى التفاهم والتسامح والابتعاد عن التعصب والمغالاة واتباع الدين من الطرق الميسرة، ومحاولة أفهامهم أن الدين واحد وأن الرب واحد، فلماذا الاختلاف؟، ولماذا التعصب؟، ولماذا تقديس البشر؟. ومن هذه النتيجة نستخلص نتيجة أخرى وهي: أن العنف والتطرف والمغالاة في الدين الذي تميزت به بعض الجماعات في السنين الأخيرة، لم يكن كما يدعي البعض نتيجة من نتائج الإصلاح الإسلامي، الذي دعا إليه محمد عبده في مصر وابن باديس في الجزائر، بل بالعكس فإن كثيراً من زعماء الحركات المتطرفة في الجزائر هاجموا ابن باديس ووصفوه بالعلمانية، وعابوا عليه أن يكون رجلاً قومياً ووطنياً، مع أن الإنسان لا يمكن أن يكون كامل الشخصية إلا بهذه المقومات. نشر في العدد: 16864 ت.م: 06-06-2009 ص: 27 ط: الرياض