"إنها تمثيلية هزلية تحمل في طياتها سيناريوات خطيرة على مستقبل إيران"، بهكذا كلمات وصف المرشح الإصلاحي مير حسين موسوي نتائج الانتخابات الرئاسية الإيرانية الأخيرة، التي أعلن وزير الداخلية المقرب من نجاد فوز الأخير فيها إثر حصده 63 في المئة من الأصوات، ما أفضى إلى اندلاع اضطرابات وأعمال عنف واشتباكات بين أنصار موسوي وقوات الأمن في العاصمة طهران لم تشهد لها البلاد مثيلاً منذ المواجهات الطلابية في تموز يوليو 1999، الأمر الذي أدّى إلى تصاعد التوقعات في شأن احتمال تفجر ثورة ثانية في إيران تؤسس لجمهورية جديدة في ظل أجواء الاستقطاب السياسي الحادة التي تشهدها البلاد. بيد أن تاريخ التجربة السياسية الإيرانية الحديثة منذ قيام الثورة الإسلامية في عام 1979 وحتى اليوم يرسم مساراً مغايراً للأمور ويجعل من الصعوبة بمكان الادعاء بأن إيران في سبيلها إلى ثورة جديدة. فبادئ ذي بدء، يمكن الزعم أن مقدار التغيير الذي لحق بالذهنية السياسية الإيرانية لا يزال متواضعاً إذ اقتصر على مغازلة أفكار شريحة محدودة من الشباب والمثقفين الليبراليين الإيرانيين، ذوي التأثير والنفوذ المتواضعين، في بلد تخطى تعداد سكانه السبعين مليوناً. ومن ثم لم يكن غريباً أن يظل هناك إجماع وطني عريض على الثوابت الراسخة التي بني عليها النظام السياسي الإيراني، لاسيما مبدأ ولاية الفقية، بكل ما ينطوي عليه من ملامح نظام الحكم الثيوقراطي المناهض للديموقراطية الليبرالية، التي تكرس قيم التعددية والتنافسية والتداول الحقيقي للسلطة في ظل سيادة القانون. وما برح الإيرانيون، بشتى أطيافهم السياسية والإثنية، يتفقون على توجهات السياسة الخارجية الإيرانية، التي وضعها المرشد الأعلى، خصوصاً حق بلادهم في تطوير التكنولوجيا النووية، وهو ما شكل قاسماً مشتركاً في برامج مرشحي الرئاسة الأربعة، علاوة على موضوع العلاقات مع الولاياتالمتحدة، حيث أجمعوا على الترحيب باستئناف تلك العلاقات شريطة أن تضطلع واشنطن بتغييرات أساسية في سياستها إزاء إيران. ومن غير الإنصاف اعتبار الاحتجاجات التي أعقبت الإعلان عن فوز نجاد بفترة رئاسية جديدة مؤشراً على توهج الحالة الثورية في إيران توطئة لتحولها إلى فعل ثوري، حيث تحتاج تلك الحالة إلى وقائع قائمة ومستمرة تشكل بدورها مقدمات ودوافع ومحفزات للفعل الثوري. كما يتطلب ذلك قوى ضاغطة منظمة وقيادة تخطط وتدير الأمور أثناء وبعد الفعل الثوري، وهو ما زالت الساحة الإيرانية تفتقر إليه في شكل كبير. و انحصرت الاحتجاجات والاضطرابات التي تمخض عنها فوز نجاد في بعض أحياء العاصمة طهران، التي لا يحظى فيها نجاد أصلاً بشعبية كبيرة، كونها تكن بعض المقت للمحافظين وتحتفظ بحنين كامن لعهد الشاه، وهو ما سهل مهمة قوات"الباسيدج"والحرس الثوري في إحكام قبضتها على مجرى الأحداث من دون عناء. هذا في الوقت الذي يحكم نظام ولاية الفقيه قبضته على مراكز السلطة والنفوذ في البلاد خصوصاً قوات"الباسيدج"والحرس الثوري، الذين حرص نجاد منذ توليه مهام منصبه قبل أربع سنوات على استمالتهم من خلال المنح الجامعية والقروض والعطايا والمناصب السياسية حيث تم تعيين العشرات من قياداتهم في إدارة الجامعات والمحافظات وغيرها من مؤسسات الدولة، ما جعل رئيس المكتب السياسي للحرس الثوري يد الله جواني يحذر الإصلاحيين من أنصار موسوي قبيل يومين من الانتخابات الرئاسية من مغبة الإقدام على ما أسماه"ثورة مخملية"ضد نجاد مؤكداً أنه سيتصدى لها بكل قوة. ومن جهة أخرى، يصعب الادعاء بأن إيران شهدت تبلوراً حقيقياً لما يمكن أن يسمى بالتيار الإصلاحي، الذي جنح بعض أنصار موسوي إلى نعته مبالغة خلال الاضطرابات الأخيرة ب"المعارضة". ففي داخل النخبة السياسية الإيرانية لا فوارق جوهرية بين أفرادها، الذين تم اختيارهم بعناية فائقة وبعد تدقيق مضن من الأجهزة غير المنتخبة الموالية للمرشد كمجلس تشخيص مصلحة النظام ومجلس صيانة الدستور ومجلس الخبراء، وبالتالي يعمل الجميع تحت مظلة المرشد الأعلى، الذي يمثل رأس الراديكالية والمحافظة، ووفقاً لمبادئ الثورة الإسلامية، على نحو ما لوحظ في مرشحي الرئاسة الأربعة، الذين لم تكن بينهم أية اختلافات حقيقية في الثوابت والاستراتيجيات وإنما فقط في الأساليب والتكتيكات، ليبقى وصف"إصلاحي"و"محافظ"مجرد مفردات يروجها الإعلام الموالي للمرشد في محاولة لإضفاء مسحة من التنافسية الزائفة أو الديموقراطية الوهمية على نظام سياسي مغلق على تيار بعينه. كذلك، لم تكن احتجاجات مناصري موسوي تعكس رفضاً حقيقياً لنظام"ولاية الفقيه"برمته أو حتى تعبر عن رغبة جادة وملحة في إصلاحات ديموقراطية تفسح المجال أمام تعددية وتنافسية حقيقيتين وتمهد السبيل لدوران فعلي للنخبة الحاكمة التي تكلست وتيبست إذ لم يطالها تغيير ملموس منذ ثلاثة عقود. وإلى ما سبق، يشكل القمع الصارم الذي تقابل به أية محاولة للخروج على نظام"ولاية الفقيه"أو النيل من الثوابت التي يقوم عليها، قوة ردع حقيقية. شهدت إيران أولى محاولاتها في هذا المضمار مطلع ثمانينات القرن الماضي في عهد أول رئيس منتخب بعد الثورة وهو أبو الحسن بني صدر، الذي وصف بأنه ليبرالي حاول أن يضفي على مبادئ الثورة الإسلامية مسحة ليبرالية ديموقراطية على الصعيدين الداخلي والخارجي، لكنه سرعان ما اتهم بالخيانة وتمت إقالته ليفر إلى فرنسا حيث كان الخميني منفياً قبل الثورة. وإلى مآل مشابه لآية الله منتظري، الذي كان نائباً للخميني وكان مرشحاً لخلافته، حيث تعرض لضغوط جمة من المحافظين والمتشددين وتم عزله بعد أن غيّر رأيه لاحقاً في قضية سمو الولي الفقيه وعصمته وطالب بتعديلات في الدستور تمس سلطاته. فقد روّج منتظري بعد عزله لنظرية جديدة سماها"الولاية المشرفة"بمعنى ألا تكون ولاية الفقيه ملزمة وألا يتاح للولي، حال السماح بوجوده، التدخل في شؤون الحكم والسياسة، وألا يكون فوق القانون أو المساءلة. وفي نهايات الحرب العراقية - الإيرانية عارض منتظري الكثير من ممارسات السلطة الدينية داخل إيران واعتبرها عاراً على الثورة، ومنها عمليات الإعدام الجماعية التي شملت ما لا يقل عن 3000 سجين سياسي والتي نفذت بتأييد من الخميني في خريف عام 1988 بعيد وقف إطلاق النار مع العراق بغرض إفراغ السجون من النشطاء السياسيين المناهضين للثورة، وهي المواقف التي دفع منتظري ثمنها غالياً بعد أن أثارت غضب الخميني الذي أرغمه على الاستقالة في آذار مارس 1989. يبقى المتغير الأميركي في المعادلة، وفي هذا السياق، يمكن القول إنه لا يزال أي تدخل أميركي محتمل من أي نوع أو حتى على غرار ذلك الذي جرى أيام مصدق مطلع خمسينات القرن الماضي، محفوفاً بمخاطر شتى لأن الأمر جد مختلف هذه المرة لاسيما وأن إدارة أوباما تدرك أنه لا يوجد بديل حقيقي للنظام القائم في إيران يمكن التعويل عليه، كما أن الموقف من العلاقة مع واشنطن والبرنامج النووي إنما هي ثوابت في السياسة الإيرانية يحددها المرشد الأعلى لا تختلف استراتيجيات التعاطي معها باختلاف الرؤساء الإيرانيين. وبناء عليه جاء الموقف الأميركي واضحاً وحاسماً بإعلان الخارجية الأميركية عقب فوز نجاد وما استتبعه ذلك من اضطرابات داخلية إثر تشكيك موسوي وأنصاره في نزاهة العملية الانتخابية، أن هذا الأمر شأن داخلي إيراني وأن واشنطن عازمة على المضي قدماً في التفاهم مع إيران واستئناف المفاوضات معها حول برنامجها النووي أياً كان رئيسها. انطلاقاً مما سبق، تظل فرص حدوث أي تغيير حقيقي أو جوهري في بنية النظام السياسي الإيراني على المدى القريب محدودة، وإن بقي بصيص من الأمل مرتهناً باكتمال تبلور ما يمكن أن نعتبره نواة لنخبة إيرانية ليبرالية مستنيرة لاحت إرهاصاتها في أعقاب الانتخابات الرئاسية الأخيرة، تلك التي يمكن أن تشكل قاطرة أو قوة دفع مهمة لتغيير حقيقي في إيران مستقبلاً، خصوصاً إذا ما وعت أهمية دورها وأدركت مكامن قوتها وعرجت باستراتيجياتها من مجرد الزج برجالاتها إلى مواقع السلطة والحكم إلى آفاق النضال والعمل الدؤوب من أجل إحداث تغيير جذري في طريقة تفكير الشعب الإيراني عبر توعيته وتنويره بأهمية تغيير الواقع السياسي والاجتماعي الراهن في بلاده بغية تحريرها من السمت التيوقراطي الذي يطبق على نظامها السياسي ويفرض تلك الهالة من التقديس على سلطة الزعيم الأعلى المفروض من السماء. وحينئذ، يمكن لإيران الخروج من النفق المظلم لثورتها الإسلامية وجمهوريتها المقيدة عبر ثورة إصلاحية مستنيرة تعرج بها إلى جمهورية ثانية أكثر جاهزية لتدشين ديموقراطية حقيقية في الداخل وبناء علاقات سوية مع العالم الخارجي. * كاتب مصري نشر في العدد: 16875 ت.م: 17-06-2009 ص: 27 ط: الرياض