يصدر صباح اليوم الاثنين الديوان الأخير للشاعر محمود درويش وعنوانه"لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي"عن دار رياض الريس التي تملك حقوق نشر أعمال الشاعر الراحل. والديوان في 154 صفحة، وقد قسم الى ثلاثة أبواب:"لاعب النرد"،"لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي"وپ"ليس هذا الورق الذابل إلا كلمات". أما القصائد الموزّعة في هذه الأبواب فهي إحدى وثلاثون. وأرفق الديوان بكراس خاص للروائي الياس خوري عنوانه"محمود درويش وحكاية الديوان الأخير"وفيه يروي قصة هذا الديوان وكيف وجده وأعدّه وبوّب قصائده. هنا قراءة في الديوان. ديوان محمود درويش"لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي"، يصحّ فيه وصف الديوان الأخير، فالشاعر"طوى الجزيرة وجاءنا الخبر"في الصيف المنصرم قبل الصدور. في الديوان احدى وثلاثون قصيدة، تجمعها موهبة قلّ نظيرها في الشعر العربي، وتنفرد كلّ منها بخاصّة منقطعة القرين، فدرويش هو الشاعر الذي لا يستكين إلى منجزٍ مهما كان جميلاً وأصيلاً، ولا يرتاح إلى"شهرة"فيتكئ عليها، ولا يكرّر السير في دربٍ عبدّها وإن أضمرت نجاحاً وانتشاراً. فهذا الديوان لا يتصل بما سبقه إلا بقدر ما ينفصل عنه، ويستطيع القارئ الشغوف بشعر درويش أن يجد بنفسه بعض خيوط الاتصال مع دواوين سابقة، ف الجدارية، ولا تعتذر عمّا فعلت، وكزهر اللوز أو أبعد، وأثر الفراشة، حاضرة من خلال الخيارات الفنيّة الخاصّة بدرويش، التي أتاحت له أن يطوّر شبه منفرد تيار التفعيلة برّمته، من خلالِ ابتداعه لأشكال شعريّة جديدة، فضلاً عن زيارته للقصيد في ثلاث قصائد، تخصّ أولاها الشاعر وثانيتها الشعر أمّا ثالثتها فتضمّن بيتاً شهيراً للمتنبي، وليس في هذا الأمر مفاجأة، بل صلة وثيقة مع أثر الفراشة الذي تنقّل فيه درويش بين المعقود والمنثور، وكتب فيه القصيد أيضاً على قلبي مشيتُ، في صحبة الأشياء، ربيعٌ سريع. لكنّ حضور الأعمال السابقة على هذا النحو، لا يشغل المتن الأساس للديوان الجديد، الذي يظهرُ مفارقاً لها في غير ما أمرٍ. فمن أهمّها، أن معانيه تدور حول الغياب، لا باعتباره نتيجةً ملموسةً للموت الجسدي، بل من خلالِ توسيع معناه ليصبح موضوعاً شعرياً كبيراً، ينفذّ الشاعر منه إلى ما قبل الغياب أي الحياة، التي تعطيه معنىً شعريّاً يبدّد عبره نقيضها أي الموت، فيصحّ القول إن في غياب الشاعر حضوراً، من دون أن يقتصر الأمرُ عليه، ذلك أنّ درويش لم يكن صاحب أوهام شخصيّة تقول بالخلود أو أخته الشهرة، وهو لا يرى فيهما ما يميّزه، بل ما يسجنه في صورة رمزٍ أتعبته في الحياة، لذا جاءت قصيدته"لاعب النّرد"لكسر هذه الصورة النمطية، عبر سؤالٍ"من أنا لأقول لكم؟"لن يتأخر جوابه"أنا مثلكم أو أقلُّ قليلاً"، ويتبعه سردٌ لحياة شخصيّة، من الولادة الفردية التي ليست إلا مجموعةً من الحوادث الشخصيّة الهرب من الذئاب، محاولة انتحار والمصادفات، مروراً بشغفين : الحبّ"أدرّب قلبي/ على الحبّ كي يسعَ الورد والشوك"، والشّعر"لولا وقوفي على جبلٍ/ لفرحتُ بصومعة النسر: لا ضوء أعلى!"، وصولاً إلى سؤال ما قبل النهاية"من أنا لأخيّب ظنّ العدم؟"، حيثُ تتكفّل المصادفات بإعطاء"أنا الشاعر"بعداً شخصيّاً نافيّاً عنها بذلك صفةً أَسَرَته، الأنا الناطقة باسم الجماعة، بينما يؤدّي تجاور ضميري أنا ونحن في جملة واحدة، إلى توسيع حدودها لتغدو الأنا التي تحمل الجماعة في وجدانها :"من سوء حظّي أن الصليب/ هو السلّم الأزلي إلى غدنا"، وتتقنُ إصابة الشخصّي والمشترك:"كان يمكنُ ألا أكون مُصاباً/ بجنّ المعلقة الجاهليّة/... لو أن دورية الجيش لم ترَ نار القرى/ تخبز الليل/ لو أن خمسة عشر شهيداً/ أعادوا بناء المتاريس/ لو أن ذاك المكان الزراعي لم ينكسر"أو"شمألتُ شرّقتُ غرّبتُ/ أما الجنوب فكان قصيّاً عصيّاً عليّ/ لأن الجنوب بلادي". الاستعارة البعيدة للغياب مراتبه الخاصّة في الديوان، فهو الاستعارة البعيدة، إذ يغدو قريناً للمكان في قصيدتين تستلهمان الوقوف على الأطلال"على محطة قطار سقط عن الخريطة"وپ"طلليّة البروة"، فالأولى تخصّ فلسطين كلّها، إذ إن القطار الذي كانَ يمرّ بين بلاد الشام ومصر، واقعٌ بين المجاز والحقيقة، فالأرض التي يسيرُ فيها خاليةٌ من البشر، فيها عناصر حيّاديّة"عشبٌ، هواءٌ يابسٌ شوكٌ وصبّارٌ"، تشيرُ إلى مكانٍ محدّد ما أن تجاور مفردات أخرى تُبطن انكسار المكان عبر المجاز تارةً :"عدمٌ هناك موثّقٌ... ومطوّقٌ بنقيضه"، وعبر الحقيقة تارةً أخرى:"وقفتُ على المحطة لا لأنتظر القطار... بل لأعرف كيفَ جُنّ البحر وانكسر المكان"أو"قلنا البلاد بلادُنا/ قلبُ الخريطة لن تصاب بأيّ داءٍ خارجي...فلم نرَ الغد يسرقُ الماضي - طريدته ويرحل". وليس القبول بانكسار المكان ذريعةً للوقوف في أطلاله، بل العكس هو الصحيح، فالأرضُ التي تُعرّف بالغياب ترسم طريق استعارة كبرى للمكان:"أهذا كلّ هذا للغياب؟ وما تبقى من فتات الغيب لي؟"، وليس الغياب كاملاً سوى قرين المكان الكامل غير المكسور:"أرى مكاني كله حولي... الجمال الكامل المتكامل الكلّي في أبدِ التلال ولا أرى قناصتي"، فمن خلالِ مزجٍ متقنٍ للضعف الغياب بالقوة المكان يتعطل القبول بالانكسار. فالكلام عن الغياب هو الكلام عن المكان، يقول في القصيدة الثانية الخاصّة بقريته"طلليّة البروة":"أختار من هذا المكان الريح/ أختار الغياب لوصفه"، إذ من خلال هذه الاستعارة الكبرى، يغدو الغياب أقوى حضوراً وأكثرَ ثباتاً، مُبطناً في الآن نفسه زوال الموقت الطارئ على المكان:"هل ترى خلف الصنوبرة القوية مصنع الألبان ذاك؟ أقول كلا لا أرى إلا الغزالة في الشباك. يقول: والطرق الحديثة هل تراها فوق أنقاض البيوت؟ أقول: كلا لا أراها لا أرى إلا الحديقة تحتها". وإن كان الوقوف على الأطلال يفتحُ باباً للغياب، ويعطّل الحاضر الذي لا يمحو الحديقة أو الغزالة من الذاكرة، فإن هذه الأخيرة لا تطوي تحت جناحها الأمسَ البعيد الذي يبُطن استعارة الغياب/ المكان فحسب، بل تطوي كذلك الأمس القريب، الذي يبطن الاستعارة ذاتها، فقصيدة"في رام الله"هي أخت قصيدة"رجل وخشف في الحديقة"من ديوان لا تعتذر عمّا فعلت، وفيها يدّقق درويش قوله عن العودة الناقصة التي لم تكن إلا لجزءٍ من المكان، من خلال سؤالٍ جارحٍ عن الخشف:"هل صارَ يألفُ بيتك؟"، إذ احتاج غالبية الفلسطينيين القاطنين اليوم في رام الله، إلى وقتٍ للألفة معها، فقلّة منهم تملك ذكريات فيها، وكأنّها صورة الفرق بين الذكرى والذاكرة أو بين المنزل والبيت، لذا يهدي درويش، سليمان النجاب قصيدة ثانيةً تشيرُ إلى الأمسِ القصير"الذكرى":"لا أمس لي فيها سواك/ فما خرجتُ وما دخلتُ، وإنّما/ تتشابه الأوصاف كالصفصاف"، لكن هذه الإشارة اللماحة ستحملُ في طياتها صورة المكان: لي أمس فيها/ لي غيابُ!". للحبّ والشعر نصيبٌ وافرٌ في الديوان، يفترقان في قصائد ويلتئمان في أكثر من واحدة، كصنوين متلازمين كما في القصيدة الجميلة"بالزنبق امتلأ الهواء"، التي تجمع بين لحظتين تُفضيان إلى الفرح: لحظة الإلهام"بالزنبق امتلأ الهواء كأنّ موسيقى ستصدح"وانتظار موعد عاطفي"وكرسيّ يرحّب بالتي تختار إيقاعاً خصوصياً/ لساقيها. ومرآةً أمام الباب تعرفني وتألف/ وجه زائرها"، وتضمران الحياة كولادة ثانية:"أنا المعافى الآن، سيد فرصتي/ في الحبّ. لا أنسى ولا أتذّكر الماضي،/ لأني الآن أولد، هكذا من كل شيء"، فپ"كل شيء يصطفي معنى لحادثة الحياة"التي تبعدُ الموت إذ تمزج أوّل الحب بأوّل الإلهام:"بلا سبب يفيض النهر بي، وأفيض حول عواطفي: بالزنبق امتلأ الهواء كأنّ/ موسيقى ستصدح!". وإذ يتجاور الحبّ والشعر، يحضر شاعر الحبّ الشهير نزار قباني،"في بيت نزار قبّاني"الذي أنشأ لدمشق استعارة الياسمين وأدخل البيت الدمشقي جنّة الخلود الشعري:"بيتٌ من الشّعر - بيتُ الدمشقيّ/ من جرسِ الباب حتّى غطاء السرير/ كأن القصيدة سُكنى وهندسةٌ للغمام"، وإن كان درويش سيصف بيت نزار من خلال لون عينيه، فلكي نراه من خلالهما :" ليلهُ/ أزرقٌ مثل عينيه. آنية الزهور زرقاء... دمعه حين يبكي رحيل ابنه في الممرات أزرق... لم تعد الأرض في حاجة لسماء، فإن قليلاً/ من البحر في الشعر يكفي لينتشر الأزرق/ الأبدّي على الأبجديّة"، فالعينُ مرآة القلب وباب الروح كما قالت العربُ، ولعلّ هذا ما ألهم درويش إحدى أجمل غزلياته"عينان":"عينان تائهتان في الألوان، خضراوان قبل/ العشب، زرقاوان قبل الفجر. تقتبسان/ لون الماء، ثم تصّوبان إلى البحيرة نظرةً/ عسليّة، فيصيرُ لون الماء الأخضر". وإن كانَ ظاهرُ القصيدة يصفُ تبدّل لون عيني الحبيبة بين تدرّجات الأخضر والأزرق، فإن باطنها يصفُ المزاج المرافق لكل درجةٍ لونيّة، على نحوٍ يتحدّ فيه جمال عينيها بروحها، لذا يبدو السؤال الذي يختتتم القصيدة:"عينان صافيتان، غائمتان/ صادقتان، كاذبتان عيناها. ولكن من هي؟"كمفتاحها لا قفلها. فهو سؤال فخّ، يجرّ القارئ إلى القراءة ثانيةً أو أكثر، ليكتشف أن الشاعر يعرفها بدّقة، لأن العين مرآة القلب. وتحيلُ إعادة القراءة على إطالة المتعة في قصيدة"لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي"، التي تخصّ اللقاء بين حبيبين يعاندان الفراق، ويتذكران قصّتهما، ويتحاوران في سرديّةٍ غنائيةٍ، فكلّما طال الحوار/ القصيدة طال اللقاء، وطال الاحتفاء بالحبّ صنو الحياة. لذا جاء مطلع القصيدة طارداً للموت تارةً على لسان الحبيب:"اقترب الموتُ مني قليلاً/ فقلت له: كان ليلي طويلاً/ فلا تحجب الشمس عنّي!"، وتارةً أخرى على لسان الحبيبة:"وقالت: أفي مثل هذا النهار الفتّي الوسيم/ تفكّر في تبعات القيامة؟". فالحبّ احتفاء بالحياة على صورة نهرٍ :" قالت: سيأتي إلى ليلك النهر/ حين أضمّك/ يأتي إلى ليلك النهر"، والحبّ يوّسعُ المدى، ويجعل المحبين أمراء عند اللقاء:"وأنا في ضيافة هذا النهار، أميرٌ على حصّتي/ من رصيف الخريف. وأنسى من المتكلم / فينا لفرط التشابه بين الغياب وبين/ الإياب إذا اجتمعا في نواحي الكمنجات". تتجاور في القصيدة ثلاثة معانٍ كبرى: الحبّ والحياة والشعر، وتتداخل في ما بينها:"لو لم أرَ الشمس/ شمسين بين يديك، لصدّقتُ/ أنك إحدى صفات الخيّال المروّض"، أو"ههنا يولد الحب/ والرغبة التوأمان، ونولد"أو"تقول: كأنك تكتبُ شعراً/ يقول: أتابع دورتي الدموية في لغة الشعراء"، وتستعير من الأجواء الإغريقية مشهداً هومرياً للانتظار فاللقاء بين صورتيّ أوليس وبينيلوب:"أنام وتستيقظين، فلا أنت ملتفّةٌ/ بذراعي، ولا أنا زنّار خصرك/ لن تعرفيني/ لأن الزّمان يُشيخ الصدى/ ومازلت أمشي... وأمشي/ وما زلت تنتظرين بريد المدى"، إذ يوّسع درويش من فضاء قصيدته السردية - الغنائية، عبر سرد الذكريات المشتركة لحبيبين يطول اللقاء بينهما كلّما امتدّت القصيدة، وتكون خاتمتها نفيّاً للفراق:"لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي/ لا أريد لهذا النهار الخريفي أن ينتهي"، ودافعاً لإعادة القراءة. وبعد، فهذا الديوان وإن أعطى الغياب مكانةً شعريّة رفيعةً من خلال بهاء القصائد فيه وجمالها ورفعتها، فقد أعطى درويش مكانةً أعلى من الغياب الذي"طوى الجزيرة"، فهو الشاعر الذي يصحّ فيه القول: غابَ عن العيون وبقي محصّلاً في القلوب. نشر في العدد: 16789 ت.م: 23-03-2009 ص: 33 ط: الرياض