بعد ان هدأت قليلا ضجة الاحتفاء بالاحذية واطلاق اغاني التمجيد لرمزياتها البطولية، وهي المرتبطة بالنجاسة والدنس، يُلاحَظ أن الصور تستمد الصور قدراتها الدلالية من عمليات الاحالة ومدى قوة هذه الاحالة في الذاكرة. ودون مرجعية رمزية معينة او اثارة ذاكراتية ما تتحول الصور يباباً دلالياً عقيماً غير قادر بالمرة على انتاج فكرة او قصة او حتى دلالة! وهنا يستمد الحذاء الذي تم رميه بوجه الرئيس الاميركي السابق وجوده الدلالي ليس مما يمثله من رمزية ضمن سياق المخيال الشعبي العراقي والعربي الذي يحاول حصره بالنجاسة بل، وهنا يكمن ضعفه بالتحديد، يحاول خلق وجوده الرمزي كلياً عبر احالته الى سلسلة أحذية اخرى ارتبطت بشكل او بآخر بالحرب الاميركية وكانت لها القدرة، وبشكل مثير للسخرية، ان تشغل العالم لفترات غير قصيرة! ربما بدأ الامر برمته مع حذاء ذلك الشاب ذي الشعر الطويل الذي دخل في 21 كانون الاول ديسمبر 2001، أي بعد ثلاثة أشهر فقط من أحداث أيلول سبتمبر 2001، مطار شارل ديغول الفرنسي وهو في هندام مضطرب. وبسبب منظره المشبوه وعدم حيازته اية حقيبة استوقفته الشرطة وبدأت التحقيق معه بحيث فاتته طائرته. يعود الشاب في اليوم التالي بشعره غير المصفف وهندامه الفوضوي ليصعد، بجواز سفر بريطاني، الطائرة المتوجهة من باريس الى مدينة ميامي الاميركية. وبعد وجبة غذاء على متن بوينغ 767 التي كانت تقل 197 مسافراً بالاضافة الى طاقمها ينحني الشاب على فردتي حذائه ويحاول اشعالهما في محاولة لتفجير الطائرة. لكنه يصاب بخيبة امل كبيرة حين تهجم عليه امراتان، مضيفتا طيران، وينتهي الامر به الى القاء القبض عليه واصدار حكم مؤبد بحقه بالرغم من ان القاضي وصفه ولأكثر من مرة بانه معتوه اكثر من كونه ارهابياً. لجأ ريشارد ريد الذي عرف عالمياً بمفخخ الحذاء، الى حذائه بعد الاجراءات الامنية المشددة التي تم فرضها على المطارات العالمية بعد 11 ايلول. وهكذا تحول حذاؤه الى واحدة من القصص الكبيرة في الاعلام العالمي، الى ان ظهر حذاء آخر وفي سياق مغاير تماماً. ففي بداية الاجتياح الاميركي للعراق في بدايات نيسان ابريل 2003 عرضت بعض القنوات التلفزيونية الاميركية رجلاً عراقياً وهو يمسك صورة مؤطرة لصدام حسين بيد بينما ينهال عليها ضرباً بحذائه باليد الاخرى حتى يهشم الزجاج ويكسر الاطار ومن ثم يفرش الصورة ارضاً ليقفز عليها وهو يضحك! وبعد فترة وجيزة ظهر نعال أبو تحسين الذي عرضت قنوات عراقية صورته وهو يمسك صورة كبيرة لصدام حسين بيد بينما يضربها بنعاله بيده الاخرى وهو واقف في منتصف الشارع ويخاطب السيارات والمارة حول مصير الظالمين! هذه عن بعض الاحذية والنعال وصورياتها التي تمثل مرجعية رمزية ارتبطت بالحرب الاميركية والتي منها يحاول الحذاء المرمي بوجه جورج بوش ان يستمد وجوده الدلالي. إذن للصور قوة سرد الاحداث واستنطاق الوقائع. وفي الوقت ذاته لها القدرة على اعادة خلق الواقع واستنطاق منطقه كما على تشويه او طمس حقائقه. وبالتالي لها قوة رواية التاريخ أو اعادة بناء أحداثه وتركيب شخصياته وأفعالهم! ولو حاولنا اختزال وقراءة حرب 2003 صوريا، لربما احتلت صورة الديكتاتور العراقي يوم القاء القبض عليه في 13 كانون الاول 2003 بلحيته الكثة وشعره الطويل المجعد، المفصل الدلالي الأكثر مركزية للمشاهد الصورية الغريزة التي أنتجتها هذه الحرب. وقد ولّدت الحرب كما هائلا من الصور التي تحولت بسبب قدراتها الدلالية، التي تعددت من المستوى الآيديولوجي الى الحقل الاجتماعي، الى نوع من هوية تعريفية لازمت مفاصل اساسية للمراحل التي مرت بها الحرب ومعها الدولة العراقية. فمثلا تندرج الصورة الشهيرة لسقوط التمثال الكونكريتي الصلب للديكتاتور ومن ثم اندفاع بضعة عراقيين وهم ينهالون صفعاً بأحذيتهم ونعالهم على رأسه الضخم وكأنهم ينتقمون بشكل رمزي من ماضيهم المشحون بالخوف والقمع، ضمن هذا الألبوم الصوري الضخم. واذا كانت هذه الصورة تملك قوة الاحالة الى صور وأحداث تاريخية اخرى ترابط فيها فعل سقوط التماثيل الكونكريتية الضخمة بمفهوم الحرية، امتلكت صورة الديكتاتور الملتحي الرث بشكله المزري يوم القاء القبض عليه، عنصر الصدمة في سياق عملية تبادل الادوار والمعاني. استطاعت هذه الصورة بناء سردية رمزية للتحولات التي مرت بها الدولة العراقية ورئيسها اثناء الحرب وما بعدها. فالرئيس الذي عرف نفسه بالعالم صورياً منذ بداية الثمانينات بزي الجنرال الممسك دوماً بالسلاح، والذي أطلق وعوده النارية بشر هزيمة للمحتل الأميركي ومن ثم تحقيق نصر ساحق، يظهر على التلفزيون في صورة أقرب الى المتسول بدشداشته ولحيته منه الى الجندي المحارب في ساحة المعركة أو"المقاومة". يساهم عنصران أساسيان في بناء الدلالات الرمزية لهذه الصورة: الاول يمثله عجز ومرض وانهيار الوضع الجسدي الذي كان يعيشه الديكتاتور في مقابل هيمنة جسد الممرض الاميركي و"الايحاء بالشفاء"الذي تبثه ملابسه الطبية البيضاء وهو يدخل أصابعه بل نصف يده في فم الديكتاتور الذي لا يبدي أية مقاومة، بل يشير له كمَن يرجو الأمل، بحركة من يده الى آلام يعانيها في اسنانه راجياً بعض علاج!! وفي الكثير من الاحيان تعيد الصورة تشكيل الواقع ليس بحسب مجريات ومنطق الواقع ذاته بل بحسب ما تشتهيه عناصر الصورة ذاتها. وهنا تبدأ الديماغوجية التي لها القدرة على جعل الحقيقة في غاية التشويش، والواقع الحقيقي لا مرئياً بالمطلق! وهذا تحديدا ما حاولت ان تفعله الصورة الشهيرة للرئيس الاميركي جورج بوش الذي هبط بطائرته الحربية، التي كان يقودها بنفسه وهو في زي الطيار العسكري، في الاول من ايار مايو 2003 على حاملة الطائرات"ابراهام لنكولن"مطلقاً تصريحه الشهير امام قوات البحرية بان العمليات الحربية الرئيسية قد انتهت، وفي الخلفية يافطة ضخمة تقول"المهمة أنجزت". وبالرغم من ان اليافطة كانت تعود الى حاملة الطائرات ذاتها والمهمة التي كانت قد أنجزتها، إلا انها تحولت منذ هذه اللحظة رمزا لسياسات بوش الخارجية وأخطاء حرب العراق! والدلالة الكارثية لهذة الصورة انها مثلت واقعاً معكوساً تماماً، حيث ان الحرب التي حاول الرئيس الاعلان عن انجازها كانت في بداياتها الأولى. وارتبط المكنون الدلالي لهذا العبارة بغباء بوش أكثر من ارتباطه ب"القوى الخارقة للممثل الاميركي توم كروز الذي مثل في فيلم بالعنوان ذاته قبل ذلك الخطاب بحوالي سبع سنوات. وهنا يكمن بؤس الصور التي تحاول استجداء بناء فكرة وسرد قصة لكنها تنتهي الى ان تولد رمزية مغايرة تماماً. وبالعودة الى الحذاء النجس الذي احتُفل به عربياً رمزاً للنصر، فجعله عند البعض بديلاً عن العقل والحوار، يندرج ضمن هذا التصنيف الصوري ما ينتج الدلالات النقيضة. فبالرغم من انه يصوغ رمزيات صورته وسرديتها بناءً على ما سبقه من الاحذية، فالصورة الدلالية لحذاء المراسل العراقي أنتجت رمزية مغايرة تمثلت في نفي العقل وقمع دور اللغة والعودة الى العنف الرخيص. وعبر اجراء مقارنة بسيطة بين صورة حذائين عراقيين في سياق تحولات حرب 2003، ومن خلال الاحالة الذاكرتية التي أثارها المشهد برمته، تظل صورة حذاء ذلك الكهل الذي كان مقموعاً من استخدام اللغة، وبالتالي لم يكن قد تعلم الكلام كوسيلة لايصال الرأي، وهو يضرب صورة مؤطرة لصدام حسين حتى يمزقها من شدة حسرته، أكثر صدمة وشهرة في رمزية رفضها من"قندرة"تخطئ مرتين وهي تستجدي قليلا من التاريخ، عبر رفضها اتقان فن الكلام واللجوء الى رمزية"النجاسة"المنتمية الى الذهنية الدينية والقبلية التي تشمئز من المدينة وقيمها! * كاتب عراقي