نعيش اليوم فترة تقدم غير مسبوق للعلم والتكنولوجيا. وساهمت العلوم والتكنولوجيات باعتبارها قوة دفع مهمة في شكل كبير في رسم ملامح المجتمع المعاصر ولا تزال تطبيقات المعرفة العلمية والتكنولوجية تقدم لنا وسائل قوية لمجابهة الكثير من التحديات التي تواجه الإنسانية. وفي هذا السياق المنظور ينبغي الاعتداد بالاختلافات بين الشعوب، باعتبارها عنصراً مساعداً على إبداع قيم أكثر خصوبة. وكما قال الفيلسوف الإغريقي هرقليطس فإن"أجمل الأنغام هي تلك التي تولد من المفارقات". وعندما نشاهد قوس قزح مرات في السماء وأحياناً قوسين في وقت واحد، يكون المشهد جميلاً جداً. جميل لأن كل لون من ألوانه السبعة المختلفة يُشع في انسجام تام مع الإشعاعات الأخرى المتميزة. ولا وجود لقوس قزح من دون أحد تلك الألوان، فهي ضرورية لبعضها البعض. وينطبق ذلك أيضاً على المجتمع البشري. طبعاً لا يمكن أن تكون الأمور في العالم الواقعي أن الأشياء بالبساطة نفسها والسلاسة إياها، إذ يمكن للاختلافات أن تُحَمّل معاني أخرى أي أن تُعتبر مصدراً للتصادم والنزاع يمكن أن يقودنا إلى الدمار. لكن لا يجب أن نقع في مثل ذلك الفخ الذي يُحول الاختلافات إلى مبرر للتصادم والتنازع، ولنتذكر أننا إذا ما وضعنا أهدافاً مشتركة ستتضح أمامنا طرق تفادي الوقوع في مثل ذاك الفخ. حينما ندافع عن الفكرة القائلة بأن الاختلافات ينبغي أن تُعتبر مصدراً لإثراء القيم فإنه يترتب على ذلك التطرّق إلى ضرورة التفاعل أو الحوار بين الشعوب، على أن يكون حواراً أساسه التعلم والمعرفة المتبادلة. فبما أنّنا مختلفون جميعاً عن بعضنا البعض، يجب أن يكون هنالك تفاعل بيننا. وقد نجد أحياناً في الاختلافات نفسها نقاط تشابه وقواسِم مُشترَكة. وأعتقد في هذا السياق أن العالم العربي يمكنه أن يقدم مثالاً جيداً باعتباره لعب دوراً مهماً عبر تاريخه كملتقى للحضارات ورمز للتلاقح. إننا نعيش اليوم عولمة مُتسارعة، والعولمة تقتضي مُواطنَة كونية وشخصية مُستقلة ومُتكاملة، شخصية ذات رؤية كونية ولكنها قادرة على الفعل محلياً. ووجدت في العلاّمة عبدالرحمن بن خلدون خير مثال لذلك على رغم كونه عاش في فترة دقيقة ما بين نهاية القرن الرابع عشر وبداية القرن الخامس عشر، فقد كان أحد مواطني العالم في ذلك الزمن، إذ بعد ولادته ونشأته في تونس خدم العديد من الأسر المالكة وتنقل من مكان إلى آخر في منطقة حوض المتوسط ما أكسبه رؤية شمولية. وكانت كل حياته مليئة بالمعاناة جرّاء النميمة والاضطهاد. كما أن الوباء الذي تفشى في كامل المنطقة وأودى بحياة الملايين ترك أثراً كبيراً في حياته. والمذهل في مسيرته أنه لم ينجح فقط في تحمّل كل تلك المصاعب وتجشم ذاك العَناء، بل استطاع أيضاً عبر صموده إنتاج عدد من النظريات المهمة وبخاصة مفهوم التضامن أو"العصبية"، الذي يعني بحسب فهمي التضامن القائم على الوعي بأن الإنسان مدني بالطبع، مع التأكيد على الوحدة وذهنية المجموعة والتماسك الاجتماعي واستطراداً التآزر والعيش في انسجام. وتجدر الإشارة هنا إلى أن العصبية ليست بالضرورة قبلية أو قائمة على الروابط الدموية. فهي تعني في مصطلحاتنا الحديثة ذلك الميثاق الجوهري للمجتمع البشري أو الموروث رأس المال الاجتماعي الناتج من شبكات العلاقات الاجتماعية. وتقصدت التذكير بهذا المفهوم لأنه بمقدار ما يزداد العالم عولمة تزداد مبادئ التضامن ملاءمة ووجاهة، ففيما نحن نستمتع بثمار العولمة يُترك الكثير من الشعوب في مؤخرة الركب ويشعر بالتهميش ما أدى إلى تنامي الشعور بعدم الأمان والغبن، وكذلك الشأن في المجتمع بخاصة في أوساط الشباب وكِبار السن. لذا فما نحتاجه هو تضامن بعيد المدى، تضامن قوامه الروابط الإنسانية والتقدير المتبادل، لأن العيش مع الآخرين والشعور بالانتماء إلى المجموعة هما في الحقيقة ما يبعث في النفس الاطمئنان والشعور بالأمان. وإذ أتساءل أي مفهوم للعصبية أو التضامن كان يمكن لابن خلدون أن يبلور لو عاش في زمننا هذا، فأنا متأكد من كونه كان سيُنظر لعصبية متسامحة تعترف بالتعدد وتثمنه لأنه كان رجل تسامح قبل أن يكون رجل تعصب. وأعتقد أنه بإمكاننا تعلم الكثير من حكمته لرفع التحديات التي نواجهها اليوم. بمقدار ما يزداد العالم عولمة تكبر الحاجة إلى إيلاء الأفراد اهتماماً أكبر. وأود في هذا السياق أن أستحضر قصة مجازية من حكمة الشرق وهي قصة أربع أزهار: الكرز والخوخ والمشمش والبرقوق. و يُعرف عن زهرة الكرز جمالها إذ يُحب الكثير من الناس مشاهدتها تتفتح في الربيع. أمّا شجرة البرقوق فهي لا تقل جمالاً وهي تزهر في آخر الشتاء وليس في الربيع مثل بقية الأزهار عادة. ويقال عن شجرة الخوخ إنها تجلب طول العمر وتبعد الأذى، في حين يقال عن"برقوق دمشق"بالإنكليزية Damson إنه رمز المثابرة والمواظبة. والمغزى من هذه الصورة المجازية هو أن كل واحدة تزهر بالجمال لكن على طريقتها الخاصة. فإذا أرادت زهرة الكرز أن تصبح كزهرة البرقوق فهي لن تستطيع. ولكن ما يميز زهرة الكرز هو قدرتها على الانفتاح في جمال على طريقتها الخاصة، والتي لا يمكن لأحد تقليدها. والعكس صحيح أيضاً، فمهما أرادت شجرة البرقوق أن تزهر كشجرة الكرز فذلك مستحيل، إذ أن قدراتها تتجسد كلياً في شكل أزهار تميزها. ينطبق ذلك أيضاً علينا نحن البشر، لأن لكل منا هويته الخاصة تماماً كما الأزهار، ولكل مناطقه الخاصة والمميزة. فالشخص"أ"لا يستطيع أن يصبح الشخص"ب"حتى لو كان غيوراً منه ومن إمكاناته وحاول جاهداً أن يصبح مثله. لكن الشخص"أ"لديه هو أيضاً قدراته وإمكاناته الخاصة لتحقيق ذاته. بعد قول ذلك، هنالك سؤال يطرح نفسه: أي زهرة، أي شجرة، أي عشب أنا؟ كيف أزهر؟ ما هي قدراتي؟ وفي النهاية، من أنا؟ قال باسكال"إن الإنسان ليس سوى قصب، وهو الأضعف في الطبيعة، لكنه قصب مفكر". كما قال ريني ديكارت"أنا أفكر إذاً أنا موجود". وتُعلمنا حكمة الشرق أنه في وسعك أن تجد ذاتك الحقيقية إذا ما كنت في تفاعل متواصل مع الآخرين، تماماً مثلما أنت قادر على رؤية نفسك وأنت تقف أمام المرآة. وتقتضي هذه العملية ارتباطاً وثيقاً والتزاماً إيجابياً مع الآخرين. ومثل ذلك الالتزام قد يقتضي بدوره المثابرة وبذل جهد كبير حتى نرتقي إلى درجة الشعور بالآخرين ونجد في أنفسنا الشجاعة الكافية لنشاركهم آلامهم. إن طاقتنا تزداد فعلياً وتكون في أوجها حينما نسعى إلى تلك السعادة التي لا تقتصر على أنفسنا بل تشمل أيضاً سعادة الآخرين. وإن أمكن القول، فإن المقدرة على مثل تلك"الغيرية"هي شيء بداخل كل نفس بشرية. إن السعي من أجل الآخرين أمر يمكن لأي شخص أن يقوم به بغض الطرف عن الظروف ومن دون حاجة إلى أية صفة أو مهارة خاصة. وأعتقد أن الالتزام بمصلحة الآخرين هو مفتاح تحقيق الانسجام والتضامن بين الشعوب وبين الإنسان والطبيعة. وأقول الانسجام والتضامن لأن التضامن لا يعني النمطية وتوحيد المقاييس بل الانسجام، فالانسجام يفترض بالضرورة التنوع، والتنوع وليد الاختلافات. لذلك فإن الاختلافات بين الشعوب هي في الواقع مصدر إبداع قيم عظيمة. وما أعنيه من خلال ثنائية الانسجام والتضامن هو ذلك الفهم للطبيعة البشرية الذي يعتبر الارتباط والتقارب مع الآخرين أرضية لتحقيق الذات. تلك الثنائية تُغلب التعاون على العداوة والوحدة على التشتت وال"نحن"التعددية على"الأنا"العزلاء. لا يجب أن ننساق مع تيار التنميط الهائل الذي تحركه العولمة على صعيد كوني، فلا أحد يتطلع إلى عالم ملؤه الرتابة والروتين، هل نحن نريد ذلك؟ إن المجتمع الذي نطمح إلى تحقيقه هو مجتمع أوركسترا يضم كل أنواع الآلات الموسيقية. فأينما وجدنا ومهما كانت الظروف فإن السؤال نفسه والتحدي نفسه: كيف نحقق ذاتنا؟ ربما قد تجدون هذه الرؤية مغالية في التفاؤل أو بسيطة وأنا أقبل مثل هذا الرأي برحابة صدر، لكن أود التأكيد على الأقل أننا في هذا القرن الحادي والعشرين وبعد أن عشنا في الماضي العديد من الحروب والأزمات التي أودت بحياة الملايين، لا يسعنا اليوم إلا أن نحض المثقفين وصناع القرار وأهل العلم على إبراز حكمتهم وجعلها تقود العالم إلى إيجاد نقاط التلاقي والتشابه والقواسم المشتركة بين الثقافات والحضارات. إن اليابان والعالم العربي من المناطق القليلة في العالم التي يعود تاريخها إلى آلاف السنين. وفي اعتقادي أننا إذا نجحنا سوياً في الجمع بين خصائص حضارتينا وجعلناها متكاملة، فسنكون قادرين على تقديم مساهمة قيمة ومهمة لما فيه خير العالم. تحدثت آنفاً عن قوس القزح الجميل. وصحيح أن المسافة الجغرافية بين اليابان والعالم العربي تفوق عشرة آلاف كيلومتر، وأن المسافة قد تعني الاختلاف على رغم وجود نقاط التشابه. لكن انطلاقاً من إيماني بأن الاختلافات يمكن أن تكون مصدراً لإيجاد قيم أكثر خصوبة، أحلم بأن أرى الحكمة العربية تتفاعل وتتكامل مع الحكمة اليابانية فيقودنا ذلك إلى تشييد جسر في شكل قوس قزح يربط بين حضارتينا... جسر من قوس قزح يمتد على عشرة آلاف كيلومتر. * سفير اليابان لدى تونس، والنص ملخص لمحاضرة بالأنكليزية في المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون هي رأي شخصي لا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر حكومة اليابان. نشر في العدد: 16778 ت.م: 12-03-2009 ص: 23 ط: الرياض