تطبع الحروب تاريخ الشرق الأوسط. وتشهد المنطقة حالياً نزاعين دوليّين كبيرين النزاع العربي - الإسرائيلي والحرب في العراق وخمسة نزاعات داخليّة على الأقل الجزائر، الصومال، السودان، الصحراء الغربية / المغرب، اليمن. وعانى لبنان من حرب قصيرة ولكن كبيرة في صيف 2006، وهو لا يزال مذ ذاك في حالة من الغليان. وتعاني عدّة بلدان مزيجاً من النزاعات الدوليّة والمدنيّة، بما فيها العراق والأراضي الفلسطينيّةوالصومال. علاوةً على ذلك، عصفت بالمنطقة موجة من الارهاب الدوليّ. وفي حين أنّ وسائل الإعلام تنقل إلى حدّ ما الفظائع والمآسي الإنسانيّة التي تخلّفها الحرب، فإنّ نتائجها البيئيّة أو ما يعرف ب"النتائج الملازمة"لا تحظى إلاّ بتغطية محدودة أو انتقائيّة، أو لا تحظى بأيّ تغطيّة. كما أنّ صانعي سياسات البلدان العربيّة وأصحاب القرار فيها لم يحرزوا إلاّ تقدماً محدوداً في الاعتراف بالأبعاد والآثار البيئيّة المعقّدة للأزمات وفي معالجتها. لعنة الموارد النفط هو المورد الطبيعيّ الأوّل والأثمن في الحضارة العصريّة. ويضمّ العالم العربيّ، بفعل الجغرافيا، نصف احتياطي النفط العالميّ المثبت وجوده على الأقلّ. وعلى رغم أنّ الثروة النفطيّة يُفترض أن تكون نعمةً، فقد ثبت في بعض البلدان أنها عائق. إنّ لعنة النفط عبارة عن مأزق متعدّد الأوجه. ووفقاً لهذه النظريّة، فمن شأن الثروة المفاجئة التي تدرّها عائدات النفط أن تقوّض الحكم الرشيد من خلال إثارة الفساد والمجازفات والنزاعات العنيفة. أضف أنّ الاقتصاد الذي يسيطر عليه النفط يضرّ بقطاعات أخرى ولا سيّما قطاع الزراعة إذ يقلّص من أهميتها ويكبت النشاطات الإبداعية الكامنة التي كان من الممكن أن تكون أفضل الوسائل لتحقيق التقدّم التكنولوجي وتأمين طريق أكثر استدامة نحو التنمية. لكن دول الخليج، بعدد سكّانها الضئيل، تشكّل استثناء، إذ إنها قادرة على أن تضمن لمواطنيها معايير عيش عالية وثروة استهلاكيّة وفيرة. بالتالي فإنّ الحكم بشكله المعتدل المتمثّل بالحكم"الأبوي"هو القاعدة بصورة عامّة. غير أنّ البلدان المتوسطة الدخل الأكبر والأكثر اكتظاظاً، كالعراق، هي التي تكون أكثر عرضة للوقوع في شرك لعنة النفط. ذلك أنّ أرجحيّة تحويل الثروة النفطيّة لمصلحة تدابير أمنيّة، من أجل أهداف عسكريّة وكبت الاضطراب الاجتماعي، عالية نسبياً. إلى جانب تضخيم خطر النزاع العنيف، يقوّض الحكم السيئ الإدارة المستدامة للبيئة، لا سيّما أنّ هذه الأدارة تتمحور حول مبادئ النفاذ إلى المعلومات، ومشاركة الجمهور، وعملية صنع القرار الشفّافة المبنيّة على تحليل نسبة الكلفة إلى الفائدة، وعلى المساءلة. ويصعب تحقيق هذه التوازنات في ظلّ حكم ضعيف، وبالتالي، فإنّ العمليات النفطية الكبيرة عرضة لتخليف وقع بيئيّ سلبيّ في حال لم توضع لها قيود. مثال على ذلك السودان، حيث أنّه على رغم إلزاميّة إجراء تقييم للأثر البيئي بموجب القوانين السودانيّة، فإنّ هذا التقييم لا يجرى عملياً. لذلك فأن إخفاق صناعة النفط في دمج الاعتبارات البيئيّة مع مشاريعها أثار استياء المجتمعات المحليّة، لا سيّما سكّان جنوب السودان غير العرب وذلك بسبب أثر المياه المنتجة غير المعالجة على المراعي بصورة أساسيّة. وقد أدّى سوء الأداء البيئيّ لصناعة النفط، مقروناً بتزايد الخلافات حول تشاطر العائدات، إلى تفاقم الصراع حول النفط في السودان. وقد وضع التنافس الدوليّ على موارد النفط العالمَ العربيّ على مفترق نزاع عالميّ حول الموارد. ويمكن القول إنّ الدافع وراء حرب الخليج الأخيرة عام 2003 هو جزئياً الرغبة في ضمان تدفّق النفط من المنطقة بأمان. كما تدور الشكوك حول كون الصراع الدوليّ على دارفور يعود إلى حدّ ما إلى التنافس على مصادر الطاقة. وعلى الصعيد الوطنيّ، فإنّ التنافس على عائدات النفط، إن جاء على شكل مخصّصات الميزانيّة وتوزيعها على الوزارات أو بصورة قتال بين الميليشيات، يغذّي النزاع ويطيله. ومع أنّ النزاع بين الشمال والجنوب في السودان يسبق تاريخ اكتشاف النفط، فإنّ التنافس على امتلاك احتياطي هذا البلد من النفط كان قوّة دافعة عزّزت الصراع. كما أنّ الخصام حول تقاسم الثروة النفطيّة ساهم في تفاقم العنف الطائفيّ في العراق. وما الصراع القائم حالياً في البصرة للسيطرة على صناعات النفط الكبرى فيها وعلى تجارة التهريب إلاّ مثال على ذلك. الندرة والتدهور الوجه الآخر للنقاش، مع أنه ليس على تعارض تامّ مع مقولة"لعنة الموارد"، يركّز على كون ندرة الموارد البيئيّة وتدهور البيئة سبباً من أسباب النزاع. وهو يستند إلى أن ندرة الموارد قادرة على إشعال شرارة الانهيار الاجتماعيّ والنزاعات العنيفة. والمثال الأبرز على ذلك هو الصراع القديم العهد بين الرعاة والمزارعين، الذي يُرمَز إليه دينيّاً بقتل قايين المزارع لأخيه هابيل الراعي. أمّا بعبارات بيئيّة، فتدعى هذه أحياناً ظاهرة"الصحراء في مقابل الواحة". وفي العالم العربيّ ذي البيئة شبه القاحلة عموماً، تبقى الدوافع البيئيّة الأبرز للنزاعات المحليّة هي التنافس بين الرعاة والحَضَر على الأراضي الزراعيّة والمراعي ومصادر المياه. لكنْ تجدر الإشارة إلى أنّ النزاع على هذه الموارد في العالم العربيّ محدود غالباً بخلفيّة بيئيّة معيّنة، ولا يتّصل عامّة بالنزاعات إلاّ في ما ندر من الحالات. فالصدامات بين الرعاة والمزارعين في الأودية المكتظّة التي يرويها النيل ودجلة والفرات نادرة نسبياً، نظراً إلى انتظام تدفّق المياه والتداخل المحدود بين المراعي والأراضي المرويّة. والنزاع بين الفئتين لا يتعلّق بندرة الموارد بقدر ما هو ناتج تاريخياً من التنافس بين الرعاة والدولة على السيطرة السياسيّة والاقتصاديّة، وهو تنافس توقّف عملياً في الشرق الأوسط الحديث. ومن العوامل التي تؤدّي إلى الحدّ من هذا الخلاف التواجد القويّ للحكومات المركزيّة، والانخفاض الكبير في عدد الرحّل، والاعتماد على مصادر مياه اصطناعيّة. من جهة أخرى، تتكرّر الصدامات بين الرعاة والمزارعين أكثر في البيئات التي تعتمد فيها المراعي والزراعة على حدّ سواء على المطر، وحيث تُجَرّ المياه بصورة أساسيّة من ينابيع طبيعيّة موضعيّة. بالتالي، فإنّ العامل الحاسم هنا هو كميّة المطر. والتقلّب الشديد في نظام التساقطات الذي يميّز المناطق القاحلة وشبه القاحلة يجعل المزارعين، ولكن بصورة أخصّ الرعاة، أكثر عرضة لندرة المياه حيث أنهم يواجهون خطر فقدان قطعان ماشيتهم بكاملها. ويسعى الرعاة إلى التكّيف مع انعدام التوازن البيئيّ هذا من خلال التنقّل. وتبدأ العلاقة بين الرعاة والمزارعين بالتأزّم خاصّة خلال فترات الجفاف، وتتّجه إلى التدهور. وتسود هذه المعادلة في منطقة جنوب الصحراء على تخوم العالم العربيّ ولا سيّما في الصومال والسودان. وقد تفاقم الوضع بشكل خاصّ في مناطق الساحل والسافانا نظراً لكونها ملائمة للمراعي وللزراعة البعليّة. أما المثال الأشهر على نزاع ينشأ في مثل هذه الظروف فالأزمة الحاصلة حالياً في دارفور. من الواضح أنّه لا يمكن أن تُختزَل الحرب في دارفور بحرب على الموارد الطبيعيّة، ولا بدّ من الاعتراف الكامل بطابعها السياسيّ والاقتصاديّ والإثنيّ البارز، إلى جانب النواحي الأخرى. وتظهر الدراسات الأخيرة حول النزاع في دارفور أنّ التنافس على حقوق الرعي والمياه كانت سبب وقوع 30 صداماً من أصل 41 صداماً سجل حدوثها في الفترة بين 1930 و2000. وإذا ما أردنا وصف النزاع ببساطة، فإنّ القبائل العربيّة وكذلك الزغاوة غير العربيّة حاولت النجاة طمن الجفاف الطويل الأمد من خلال اللجوء إلى مناطق الفور والمساليت الغنيّة بالمياه والمرعى، على غرار أعالي جبل مرّة. وبدأت الاتفاقات التي كانت معقودة بين الرعاة والمزارعين بالتزعزع نظراً إلى أنّ الرعاة أخذوا يتوافدون قبل الفترات المعهودة قبل أو خلال فترات الحصاد ويبقون في المراعي لفترات طويلة غير محدّدة. بالتالي باتت المواجهات بين الفريقين محتّمة. وتصاعد العنف إلى حدّ ارتفع فيه عدد الخسائر البشريّة إلى ما يقدّر بين 200,000 و500,000 قتيل، إضافة إلى مليوني مهجّر. وليس إقليم دارفور وحده الذي يعاني هذا المأزق البيئي، بل هناك أوجه تشابه كثيرة مع نزاعات أخرى بين الرعاة والمزارعين في منطقة وسط السودان الجافّة كإقليم كردفان الجنوبي، وإن كان للزراعة الآلية في هذا الإقليم دور أكبر في إثارة الأزمات من تقلّبات المطر والجفاف. فالتوسّع الأفقي للزراعة الآلية في السهول الصلصالية في حزام السافانا ذي معدل التساقطات العالي والمراعي الشتائيّة التقليديّة في حوازمة البقّارة مربّو الماشية، وبدو شنبلة، دفع الرعاة إلى التوغّل أكثر في جبال النوبة بحثاً عن الماء والمرعى لمواشيهم. كما اندلع نزاع مسلّح واسع النطاق بين الرعاة ومزارعي النوبة من السكان الأصليين. ولا تزال الزراعة البعليّة غير المنظّمة والسيّئة الإدارة، التي تغطّي حوالى 6,5 مليون هكتار تضمّ 45 إلى 66% منها مزارع غير شرعية، سبباً رئيساً في الصدامات العنيفة بين الرعاة والمزارعين في منطقة السودان الوسطى. ومن أشكال النزاعات الأخرى بين الرعاة والمزارعين قيام كلّ من المجموعتين بالتعدّي على الغابات والمحميّات البريّة بسبب ندرة الأراضي الزراعيّة والمراعي، مثل حديقة دندر الوطنية، أكبر محميات السودان، التي تعادل مساحتها مساحة لبنان. وفي هذه الحالات، فإنّ النزاع، الذي غالباً ما يتحوّل إلى صدامات عنيفة، يقع بين الرعاة والمزارعين من جهة والمسؤولين الحكوميّين من جهة أخرى حرّاس الغابات الذين هم جزء من قوّات الشرطة الموحّدة السودانيّة. وبما أنّ حديقة دندر الوطنية متاخمة لإثيوبيا، فإنّ حرس الحدود وجدوا أنفسهم في خضمّ المعركة أحياناً بسبب توغّل الرعاة من الجانبين. ويؤدّي تدهور البيئة أيضاً إلى تغذية نار التنافس بين الرعاة والمزارعين. فقد شهد السودان مثلاً، الذي يضمّ ثاني أكبر قطيع في القارّة، ازدياد عدد الماشية بأكثر من ستة أضعاف في أقلّ من خمسين سنة، حيث ارتفع العدد من 22 مليون رأس عام 1959 إلى 135 مليون رأس عام 2004. وفي الوقت عينه، انخفضت مساحة المراعي على الصعيد الوطني بما يتراوح بين 20 و50 في المئة، والسبب في ذلك يعود بشكل كبير إلى التحوّل إلى الزراعة البعليّة الآلية. أمّا النتيجة فدخول الصراع بين الرعاة والمزارعين في دوّامة مفرغة يغذّي نارها تفاقم الندرة وتؤدّي في نهاية المطاف إلى زيادة إمكانيّة وقوع نزاعات عنيفة والحدّ من فرص التسوية. في الإطار نفسه، يتيح تحليل ندرة الثروات البيئيّة فهماً أعمق للنزاع العربي - الإسرائيلي. فترسيم الحدود في هذه المنطقة كان نابعاً جزئياً على الأقلّ من هدف ضمان السيطرة على الأراضي الهيدرو - استراتيجيّة. فإنّ توسيع حدود الانتداب على فلسطين إلى الشمال مثلاً مردّه جزئياً إلى إرادة ضمّ بحيرتَي طبريا والحولة وجزء من أعالي نهر الأردن. ذلك أنّ ضمان السيطرة على مستجمعات أمطار نهر الأردن العليا يعتبر أحد العوامل الأساسيّة وراء احتلال إسرائيل لمرتفعات الجولان السورية وضمّها. وهناك صلة كذلك بين توسيع رقعة المستوطنات والمسار المعتمد في بناء الجدار الفاصل من جهة، واهتمام إسرائيل بالحفاظ على سيطرتها على مناطق التغذية بالمياه ومخزون الطبقات الصخريّة المائيّة الاستراتيجيّة في الضفة الغربيّة. أمّا في غزّة، التي تعتمد اعتماداً كبيراً على الآبار، فالمشكلة تكمن في تسرّب مياه البحر بسبب الإفراط في ضخّ المياه الجوفيّة. كما أنّ الشكوك في نيّات إسرائيل باستغلال مياه الليطاني هي مصدر نزاع إضافيّ. وعلى رغم أنّ ندرة المياه والسيطرة على المناطق المنتجة للماء ليست بالضرورة المحفّز الوحيد أو الأساسي للحرب، لكنّها جزء لا يتجزأ من النزاع العربي - الإسرائيلي. نشر في العدد: 16742 ت.م: 04-02-2009 ص: 10 ط: الرياض