ماذا بعد انتصار اليمين واليمين المتشدّد في إسرائيل بما يعكس التطرف المتصاعد في مجتمعها؟ ثمة بالطبع الردود المستعجلة، لكن هل فكرنا في خطة المواجهة لا للأزمة القادمة وإنما لكل ما سيتبعها في ظرف زمني ليس زمن الأفراد وإنما زمن الشعوب؟. يتطلب منا شيء كهذا تشخيصا دقيقا لذهنية من يشكلون، بعد المغول والصليبيين والمستعمرين الغربيين، التحدي المصيري الرابع في تاريخنا، فلا تعامل صحيح إلا وهو نتيجة فهم دقيق للخصم. والخاصية الأولى التي تفسّر في جزء كبير انتصار اليمين الإسرائيلي أننا أمام بشر يتخبطون في هوس أساطير تجعل هؤلاء المدعين" الحداثة"و"العقلانية"أكبر ممثلين للاعقلانية وللبدائية في منطقتنا. أحسن من فكّك هذه الذهنية ليس للأسف مفكرا عربيا وإنما شلومو صاند أستاذ التاريخ بجامعة تل أبيب في كتاب ترجم من العبرية إلى الفرنسية تحت عنوان"كيف تمّ اختراع الشعب اليهودي؟"دار فايار، 2008. وليس للمؤلّف، ولا لكاتب هذه السطور، نيّة التعرض لليهودية أو لحق اليهود ككل الشعوب في أساطيرهم. ما يرفضه صاند استيلاء مجموعة على المقدسات والتاريخ لصنع الأيدولوجيا التي يعربد أصحابها - بل قل ضحاياها- اليوم في غزة. الكتاب كشف للكيفية التي فبرك بها مؤرخون صهاينة، في غرب القرن التاسع عشر أيديولوجيا تظهر الدراسة العلمية للتاريخ أنها تفويض لقصص صنعها في جزء كبير الخيال الأدبي لواضعي التوراة، والباقي تزييف محض لأغراض دعوة سياسية جاءت في القرن التاسع عشر في ركاب دعوات أخرى بتعلات أخرى من قبل شعوب أوروبا لاستعمار أراضينا. بخصوص انطلاق"الملحمة"، يقول صاند:"إذا استندنا للتوراة، فإن موسى قاد في الصحراء ستمائة ألف محارب، ومن ثمة قرابة الثلاثة ملايين نسمة لمدة أربعين سنة. عدا استحالة تيه هذا العدد في الصحراء لكل هذه المدة، فبديهي أن حدثا كهذا لا بد أن يترك آثارا ما، مكتوبة أو على الأرض، حيث كان من المعمول به في مملكة مصر تسجيل كل الأحداث بدقة أعطتنا وثائق عديدة منها تفاصيل توغّل رعاة بدو في أرض المملكة. لكننا لا نجد أي ذكر أو تلميح ل"بني إسرائيل"عاشوا و تمردوا ثم خرجوا في أي فترة من الزمان". وبخصوص الطرد الجماعي الذي"أفرغ"الأرض من سكانها وهو حجر الزاوية في الأسطورة:"حتى قراتزمؤرخ صهيوني متشدد لا يقول بوضوح أن كل الشعب طرد"، بل يقرّ بأن أغلبية العبرانيين لم تهجّر وإنما بقيت في أرضها، ووحدها أقلية هاجرت كما هاجر قبلها وبعدها الإغريق والفينيقيون والرومان. هذا يؤكد ما يقرّ به كل المؤرخين النزيهين من أن الشعب الفلسطيني تمازج بين العبرانيين القدامى والفاتحين العرب، شأنه في هذا شأن كل شعوبنا التي تولدت في المغرب عن تمازجهم بالأمازيغ وفي مصر بقدامى المصريين وفي المشرق بقدامى الآشوريين وفي السودان بالأفارقة. وبخصوص النقاء العرقي الذي يجعل من الإسرائيليين أحفاد العبرانيين، وهو ما يتطلب من جهة عدم تزاوج"المهجّرين"بالشعوب الأخرى، وعدم دخول هذه الشعوب في ديانتهم، يقول:"يظهر اعتناق اليهودية عند المؤرخين ما قبل الصهيونيين وحتى الصهيونيين، كواحد من أهم الأسباب للتطور المهم لعدد أتباع الديانة في العالم القديم قبل تدمير الهيكل الثاني. لكن هذا العامل الرئيسي في انتشار اليهودية قلّل من أهميته، حتى هكذا تُقدم قضية الشعب تحت إضاءة أثنية أفضل. كلما اقتربنا من الكتابات الأكثر صهيونية تركت الظاهرة جنبا، وعندما ننقلب لكتب التاريخ للعموم وخاصة الكتب المدرسية فإنها تختفي كلياً. هنا نصل لقمة السريالية في الأيدولوجيا الصهيونية حيث ستشكل هذه المغالطة الكبرى قاعدة حق أفارقة الحبشة وأمازيغ المغرب وخزر آسيا الوسطى والروس الأصليين، وحتى العرب اليمانية، في"العودة"لأرض الأجداد ليطردوا منها ... هؤلاء الأجداد الذين لم يغادروها يوما، وكل ما في الأمر أنهم اعتنقوا الإسلام وقبله المسيحية. نحن إذاً أمام انخراط كلي في تصورات خيالية تضع على البصر والبصيرة غشاء سميكا من الأوهام وتؤدي إلى المواقف والتصرفات الأكثر انغلاقا على الذات والأكثر عدوانية تجاه الآخر. مثل هذه الظاهرة لها اسم في طب الأمراض العقلية: الهذيان، وهو نواة كثير من الأمراض مثل الشيزوفرينيا. ومن تبعات قناعتهم أنهم محاصرون اليوم مثل"أجدادهم"في قلعة مصعدا، وعلى ضوء التجربة المأسوية للمحرقة، تغذية المكوّن الثاني لجنونهم أي عقدة الاضطهاد البارانويا.هذا ا يفسّر شراستهم في ردّ الفعل. لهذا لم يخطئ الأوروبيون في استطلاع رأي اعتبروا فيه أن إسرائيل أكبر خطر يتهدد السلم العالمي. هم خطرون على أطفالهم وهم لا يعدون لهم إلا الحرب الأزلية. هم خطرون علينا لأنهم يكدسون أسلحة الدمار الشامل ناهيك عن تبرير الاستبداد واستنزاف خيراتنا في تسلح عقيم ومنع التنمية التي نحتاج. نأتي للخاصية الثالثة لهذا الشعب أنه أيضا مكوّن من... مساكين.أليس من المأساة أن يعيد الضحايا إنتاج كل ما كانوا ضحيته في أوروبا القرن الماضي: التمييز العنصري، السعي لامتلاك الفضاء الحيوي للشعب المختار، الإيمان بالحروب الخاطفة لفرض الواقع، خلق الغيتوات التي وضعوا فيها أنفسهم والآخرين. أما لمواجهتهم، فالخيار الأول، بين الخيارات المطروحة، ترك المبادرة للخصم والاكتفاء بردّ الفعل وذلك لعجز في التصور والتخطيط وغياب القوى الفكرية والسياسية الفاعلة، ومن تبعاته عبثية تضحيات أمس واليوم. وقد ينتهي الصراع بالاستسلام للمخطط الاستراتيجي للصهيونية وهو إدماج دويلات تمّ فرقعتها لتدور في فلك إسرائيل قاهرة تعمل كوكيل في المنطقة للامبريالية الأميركية. ومن حسن الحظ أن المعطيات الموضوعية للأمة تجعل من إدماجهم لنا عملية في استحالة ابتلاع حية - ولو رقطاء - لثور هائج. الخيار الثاني تجنيد طاقات الأمة ولمدة كامل القرن لاستئصال ورم خبيث نقضي عليه أو يقضي علينا. لأصحاب هذا الخيار نقول: لا يجب أن يكون الأمر نتيجة مزايدات وحسابات خاطئة وإنما نتيجة قرار بارد وحسابات دقيقة للتكلفة المرعبة ومنها استبدال النظم التابعة الحالية بتيوقراطيات عسكرية، الأغلب إسلامية، والتضحية بالديموقراطية والتنمية، وخوض مواجهة متواصلة مع الغرب وحروب كلاسيكية تتوج بحرب نووية تدمر إسرائيل لكنها تمحو من الخريطة أغلب مدننا. الخيار الثالث هو الوصول يوما لإدماجنا نحن لهم بجعلنا الإسرائيليين، من هنا لقرن، أقلية دينية من بقايا تاريخ مضطرب، يعيشون في دولة مقلمة الأظافر وحتى عضو شريك في الإتحاد العربي بجانب فلسطين كعضو كامل. قد يبدو هذا قمة المستحيل، لكن كم من أحقاد بدت يوما غير قابلة للحل بين كم من شعوب ذبحت بعضها البعض مثل الألمان والفرنسيين وانتهت بالسلام والتعاون. لنتذكّر أن ثلث سكان إسرائيل في العشرية المقبلة سيكونون العرب وهؤلاء لن يسكتوا عن حقوقهم في دولة تدعي الديموقراطية، وقد يلعبون مع اليهود العقلاء دورا في إنهاء الصهيونية كما أنهى عقلاء السود والبيض الأبارتايد في جنوب أفريقيا فاندمجت المجموعات العرقية في نفس البلد واندمج هذا الأخير في أفريقيا بكل سهولة. تحقق مثل هذا الهدف سيكون نتيجة عوامل كثيرة منها: 1- إعادة تنظيم رؤيتنا للطرف الآخر أي أنه مكوّن من - الصهاينة كالجزء المجنون والخطير من الإسرائيليين ورمزهم المستوطنون الروس وزعيمهم العنصري ليبرمان. - الإسرائيليين كالجزء المسكين من اليهود الذين ورّطوا في مغامرة مجهولة العواقب ومنهم من يهاجر هربا من الفخّ الكبير. - اليهود كبشر مثلنا خرج منهم المؤرخ الإسرائيلي الشجاع، وتشومسكي، وهاليفي مستشار الراحل عرفات، وجورج عدة أحد آباء الحركة الوطنية التونسية، وابراهام سرفاتي أحد آباء التحرر الوطني في المغرب. 2- تحوّل جبهة الصراع الأولى للداخل لتحقيق الاستقلال الثاني بالديموقراطية وبعدها الاتحاد العربي، وهو ما سيغير كل موازين القوة السياسية التي تشكل الترسانة العسكرية أضعف حلقاتها. 3- سياسة الحذر من المجانين الخطرين الذين يحكمون حاليا إسرائيل بالتطويق السياسي والاقتصادي والديبلوماسي. 4- تنظيم قوة ردع كافية للدفاع عن أنفسنا، والتخلي عن الخيار النووي وترك الترسانة النووية الإسرائيلية تواجه مصير الترسانة السوفياتية. رغم آلام الوضع الحالي، تبني الخيار الأخير هو الأسلم، لا لشيء إلا لكي لا يصدق علينا قانون فرويد"لا تحارب عدوا مدة طويلة إلا وشابهته". * سياسي وكاتب تونسي.