العلاقة بين الشعر الغنائي واللغة علاقة وثيقة لا تخلو من جدل نوعي، فهي تعبير مباشر عن عواطف الشعر وإحساسه، وتسهم في تحديد هذه العواطف وتجسيد منحنيات الإحساس، فهي ليست وسيلة أو أداة جاهزة لنقل الأفكار العقلية كما هي الحال في النثر، حيث تقتصر وظيفتها على التوصيل، وإنما تجاوز ذلك إلى الإسهام في التحديد والتجسيد والكشف عما يظل في حاجة إلى الكشف وتبدأ المشكلة عندما تكون اللغة منفصلة عن مشاعر الشاعر، أو تكون شبه أجنبية في أحوال استخدامه لها، فيجاوز الأمر المعاناة في الاستخدام، إلى العجز عن أداء التعبير في صورته الكاملة، ويبطل سحرها، بصفتها لغة، في نفس الشاعر، ويسقط التجاوب الوجداني، والتفاعل المجازي بينه وبينها، فيغدو غريباً عنها بقدر ما هي غريبة عليه، وتفقد وظيفتها الشعرية في التعبير والتحديد والكشف. والواقع أن هذا الحال هو ما وصل إليه شعراء العصرين الأيوبي والمملوكي في وجه عام، وابن سناء الملك في وجه خاص، فظهرت مظاهر الضعف في شعره ممثلة في الركاكة أحياناً، وفي الخطأ اللغوي والنحوي أحياناً ثانية، وفي العامية التي تمتزج بالفصحى أحياناً أخيرة. وبقدر ما تشير المشكلة اللغوية إلى تغير العلاقة بين الشاعر العربي واللغة في العصور المتأخرة، حيث كان الشاعر يتوجه بشعره إلى طبقة حاكمة أجنبية، لا تتذوق الشعر ولا تفهم خفاياه، على نحو ما كان يفعل الخلفاء والحكام في القرون المتقدمة، كانت غربة الشاعر عن لغته تعني عزلته عن الحياة التي يحياها الجمهور الذي كان عليه أن يبتدع فنه الشعري القريب منه، وأنواع الإبداع التي هي ألصق بحياته. هكذا ظهرت الفنون الشعبية، والشعر الشعبي بأنواعه ليؤدي الحاجات الوجدانية التي كان يؤديها الشعر الفصيح، فظهرت الملاحم والسير الشعبية التي تستعيد أمجاد الأبطال العرب الذين صعد بهم الخيال الشعري إلى النموذج الذي ظل متعلقاً به، مسترجعاً إياه، محتفياً به احتفاءه بالمثل الأعلى للبطل الذي ظل يتطلع إليه، كأنه المخلّص المنتظر، فكانت الهلالية، وسيرة عنترة، وسيف بن ذي يزن، والأميرة ذات الهمّة، تحتل المكانة التي احتلتها سيرة الظاهر بيبرس الذي خلَّد الشعب دوره في تحرير الأوطان المغتصبة وهزيمة أعداء العروبة والإسلام. ولا ينسى الأهواني ما كان يقال من أن شعر العصرين الأيوبي والمملوكي كان يمتلئ بالإشارات إلى أحداث عصره، خصوصاً ما اتصل بأعمال الملوك والأمراء وحروبهم، ولكنه يؤكد، في المقابل، أن هذا الجانب لا يعتبره كبير القيمة من الناحية الشعرية، مهما أطال الشاعر وأسرف، فالشعر الحق ليس ذكراً للحوادث، ووصفاً للوقائع الخارجية، كي تكون مهمة الباحث مقصورة على تصنيف تلك الحوادث وترتيبها بحسب ما وردت في شعر الشاعر. إن مهمة الشاعر في الحياة أخطر من تسجيل وقائعها في ما يقول الأهواني، فذلك عمل المؤرخ أو كاتب الحوليات، أما عمل الشاعر فهو الكشف عن الصدى العميق للأحداث في نفسه وانفعاله بها، حيث يلتقط بحسه وحدسه ما استقر في أعماق الجماعة التي يعيش معها من مشاعر خفية غامضة، فيبرزها أمامهم مجسمة في صور تروّعهم وتشعرهم أنه ينطق بما في قلوبهم. وقد كان ذلك بعيد المنال على شعراء تلك العصور في ما يقول الأهواني، مؤكداً عزلتهم عن الناس وعن لغتهم في الوقت نفسه، ولكي يدلل الأهوانى على صدق ما انتهى إليه، يضرب مثلاً بمطلع قصيدة كتبها ابن سناء الملك في رثاء أمه، وذلك موقف لا يفارق صدق العاطفة، ودواعى الإجادة فيه قائمة، وتبدأ القصيدة على النحو الآتي: "صحَّ من دهرنا وفاة الحياءِ/ فليطل منكما بكاء الوفاء وليبن ما عقدتماه من الصبر/ بأن تحللا وكاء البكاء وأهينا الدموع سكبا وهطلا/ وهبا أنهن مثل الهباء وامنحا النوم كل صب ينادي/ من يعير الكرى ولو بالكراء ليست العين منكما لي بعين/ أو تعاني حملاً لبعض عنائي". ويرد الأهواني العقم، في هذه الأبيات، إلى أن من يقرأها يحس أنها في ألفاظها وجملها أشبه بالنثر المنظوم منها بلغة الشعر، ذلك أن الشاعر التزم في جملها، وفي روابط هذه الجمل المنطق النحوي الشكلي، فصارت راكدة، مستوية الأطراف، خالية من الحركة ومن التوتر الذي يهب الشعر حيويته. ودليل ذلك تكرار كلمتين من مضاف ومضاف إليه ثلاث مرات متتالية:"وفاء الحياء، بكاء الوفاء، وكاء البكاء"بما أحدث الركود في الإيقاع. وهناك تكرار في قوله"فليطل منكما"وفي قوله"العين منكما"بما يدل إلى الافتقار الى حسن التصرف في التراكيب فخرجت"منكما"كالحشو الذي يكمل الوزن، ويدخل في ما يسميه الأهواني"المنطق النحوي"تركيب هذه الجملة"وليبن ما بأن تحللا"وتبدو الركاكة واضحة لغة ونغماً في قوله"وهبا أنهن مثل الهباء"وفي قوله"ولو بالكراء". ويبدو التكلف في إقامة الوزن في"سكبا وهطلا"وكل ما في الأبيات من اقتدار نحوي، يقول الأهواني، هو استعماله لفظ"أو"في البيت الأخير بمعنى"إلا"في الاستثناء، ومع ذلك فالفعل بعد"أو"هذه يكون منصوباً، والشاعر لم ينصبه لضرورة الوزن. ويمكن أن نضيف إلى ما قاله الأهواني من تحليل لغوي عميق، خصوصاً في علاقات التراكيب، أن معظم الاستعارات المستخدمة من النوع الذي يطلق عليه النقد الحديث تسمية"الاستعارات الميتة"أعني الاستعارة التي تجمدت علاقة التفاعل المتوثب بالحياة بين طرفيها، والدعاء بالسقيا لا معنى له في بيئة يغمرها النيل بالمياه، و"تحليل وكاء البكاء"مجاز لا يقل جموداً عن"إعارة الكرى ولا بالكراء"إلخ. ويمكن أن نضيف إلى أمثلة الأهواني ما يؤكد النتيجة التي يريد الوصول إليها من أن المنطق النحوي الشكلي في تأليف الجمل هو سبب من أسباب ركاكة منظومات المتأخرين، بعيداً من الأخطاء اللغوية أو الصرفية أو الإعرابية التي تقع في أشعارهم. إن هذا المنطق جاءهم، فيما يذهب الأهواني، من أن اللغة ليست سليقة لديهم، ومن طول ما ألفوه من قراءة الكتابات النثرية التي كانت تُدرَّس في عصرهم، وتتصل بعلوم الدين واللغة وغيرها، وأكثرها مختصرات ذات شروح، وقد انتقل هذا الأسلوب إلى الشعر لأن أكثر الشعراء، يقول الأهواني، كانوا ممن انتظموا في سلك هذه التقاليد وانطووا عليها، واشتغلوا بالكتابة النثرية والتأليف. ولا حاجة بنا إلى إضافة المزيد من الأسئلة، فهي متاحة بوفرة في كتاب الأهواني. أما القضية الثانية فهي قضية التقليد التي تجلت في موقف الشعراء المتأخرين من التراث، خصوصاً بعدما ارتبطوا بالماضي أكثر من ارتباطهم بحاضرهم، وظلوا ينظرون إلى التراث القديم نظرة إكبار وتقديس إلى حد جعل هؤلاء الشعراء أسرى هذا التراث، لا يرون إلا بأعينه، فلم يستطيعوا الفكاك منه، ولا الخروج عليه، وإن ادعوا غير ذلك أحياناً. وسر هذا الارتباط هو ما اعتقده هؤلاء الشعراء من أن اللغة التي يتعلمونها تعلماً، ويتكلفون التعبير بها، كانت عند أصحاب التراث الأول سليقة وطبيعة، خصوصاً حين كان الشعراء السابقون أمراء الكلام يُقاس بهم ولا يُقاس عليهم، فهم الأئمة المقتدى بهم في الشعر. ويمتد هذا الاقتداء من مفردات اللغة وقواعدها إلى تراكيبها وأمثالها، ثم إلى تشبيهاتها واستعاراتها، وأخيراً إلى الأوزان والموضوعات والأخيلة والمعاني، وقد زاد من تمكن هذا الإيمان، وزاد من آثاره السلبية، ما كان يتجاوب معه في الفكر السلفي، خصوصاً الزعم بفضل السلف على الخلف، والتأويلات الدينية التي كانت تؤكد أن حركة التاريخ في انحدار، وأن التاريخ، في انحداره الدائري، يتطلع دائماً الى ما كان في العصر الذهبي، وذلك على نحو يقيس المتأخر فيه، دائماً، على المتقدم، ابتداء من الشعر، وليس انتهاء بعلوم الشريعة. وترتب على ذلك أن شاعر العصور المتأخرة عاش في دواوين الشعراء القدامى أكثر مما عاش حياته، فكان إذا تغزل نظر إلى الغزلين العذريين، وإذا تماجن نظر إلى أمثال أبي نواس، وإذا دخل في وصف المعارك نظر إلى أمثال المتنبي. وقس على ذلك أغراض الشعر التي مضت على ما هي عليه، لجناية الشعر الجاهلي في ما يقول أحمد أمين، أو لجناية التقليد في ما يذهب عبدالعزيز الأهواني عن حق. وهو يستعين في توضيح ما ذهب إليه بما وصف به ابن سناء الملك شعر ابن رشيق القيرواني، في القرن السابق عليه، بقوله إن ابن رشيق أخذ شعره عن القدماء، وبخاصة ابن المعتز والمتنبي. قال ابن المعتز في فرس:"يمضي بموج ويجيء ببدر". فقال ابن رشيق:"يذهب موجاً ويجيء بدراً". قال المتنبي:"يهز الجيشُ حولك جانبيه/ كما نفضت جناحيها العقاب". فقال ابن رشيق:"والجيش ينفض حوليه أسنّته/ نفض العقاب جناحيها من البلل". قال المتنبي:"سترتك الحجال عنها ولكن/ بك منها من اللمى تقبيل". فقال ابن رشيق:"وكأنه من حوة ولمى/ قد قبلته الشمس في فمه". والواقع أن ما وصف به ابن سناء الملك ابن رشيق قبله ينطبق على شعره بالقدر نفسه، ذلك أنه لم يكن أقل من ابن رشيق استغراقاً في دواوين السابقين في كل مجال من مجالات شعره. ويستفيض الأهواني في بيان ذلك، كاشفاً عن وسائل ابن سناء الملك في إعادة صوغ أشعار السابقين، وصولاً إلى ما تصوره ابتكاراً، وكيف لجأ في ذلك إلى"التوليد"بالدرجة الأولى، وما ارتبط به من حسن تعليل، أو تحويل للمعنى من غرض إلى الغرض، مروراً بالمفارقة والتضاد والاستطراف والغرابة والمبالغة، فضلاً عن تركيب التشبيه البسيط، أو العكس، وتحويل حسن التعليل إلى نوع من الألغاز، وتخييل التورية، أو تورية التخييل، وغير ذلك من وسائل ما توهمه ابن سناء الملك وشعراء عصره ابتكاراً، وهو محض تنويعات لنزعة التقليد والاتِّباع التي سادت عصور الاتّباع التي كتب فيها أمثال ابن رجب الحنبلي 736-795ه رسالته الشهيرة"فضل السلف على الخلف". ويضرب الأهواني مثالاً يمكن أن يلخص الموقف كله، وهو قول ابن سناء الملك: "في مجلس مطر الكؤوس بربعه/ وبلٌ وغيمُ الند فيه صفيقُ وكأنما الند الذكي غلالة/ فيها بروق البابلي خروق". فشبه دخان الند البخور المتصاعد في المجلس بالغيم، وشبه لون الخمر في البيت الثاني بالبرق وهما تشبيهان كررهما الشعراء قبله، فابن المعتز يصف كأس الخمر قائلاً:"كأن غمامة بيضاء بيني/ وبين الراح تحرقها البروق". وقال السريّ:"وقد نشأت بين الكبوس غمامة/ من الند إلا أنها ليس تهطل". وأخذ ذلك أبو هلال العسكري فقال: "وعلا دخان الند أبيض ساطعاً/ مثل الغمامة غير أن لم يهطل فكأنما الكاسات في حافاته/ شقر الخيول تجول تحت القسطل". وقال أبو الرقعمق في ما نقله صاحب اليتيمة: "حميا كأن سنا نورها/ سنا بارق لاح في حندس". "فالركنان الأساسيان في صورة ابن سناء الملك، وهما تشبيه الخمر بالبرق، وتشبيه دخان الند بالغمام، منقولان عن غيره ممن سبقه من الشعراء، فإذا أضاف إليهما بأن جرّه ذكر الغيم إلى المطر، وما جعل مع الغمام صورة أخرى هي الغلالة يحدثها البرق، وصنيع الشاعر في هذا كله"توليد"بلغة القدماء، و"تلفيق"بلغة الأهواني، أي مزج بين صور سابقة التجهيز لاستخراج ما تصوره ابن سناء الملك، متابعاً شعر عصره، ابتكاراً واختراعاً. وينتقل عبدالعزيز الأهواني إلى الموشحات، فلا يختلف منهج نقض النظرية الإقليمية جذرياً، خصوصاً أن الموشحات أندلسية الأصل، نتجت من تلاقح الثقافات، وامتزاج العامية بالفصحى، والأداء النظمي بالإيقاع الموسيقي، ولا يُفلت الأهواني، خلال ذلك كله، ما أضافه ابن سناء الملك إلى فن الموشح في وجه عام، و"الخرجة"التي أفحش فيها في وجه خاص. لكن ظل ابن سناء الملك، في النهاية، ومع تميزه بالقياس إلى غيره من أمثال ابن قلاقس السكندري، والأسعد بن مماتي، وابن المنجم وغيرهم من وشاحي الشام والمغرب، فإن المبدأ الأساسي ظل باقياً، وهو أن المنافسة مع الوشاحين الأصليين في الأندلس، كانت ميداناً"ثمرته التكلف وصد شاعرية عن حقها في التعبير". نشر في العدد: 17050 ت.م: 09-12-2009 ص: 32 ط: الرياض