يشهد مسرح دار الأوبرا في القاهرة مساء اليوم وغداً، حدثاً في عالم الرقص المسرحي المعاصر حيث سيُقدّم أعضاء فرقة المصممة الألمانية الراحلة بينا باوش عرضين من أشهر أعمالها، هما"بامبو بلو"و"طقوس الربيع"، مساء غد وبعد غد. وكان من المقرّر استضافة هذين العرضين اللذين يُقدمان للمرة الأولى في أفريقيا والعالم العربي، قبل وفاة مصممة الرقص الأقوى أثراً في النصف الثاني من القرن العشرين، وذلك بجهد من صديقها مصمّم الرقص وليد عوني، بالتعاون مع معهد غوته ودار الأوبرا في القاهرة. صمّمت باوش أكثر من 40 عملاً مسرحياً راقصاً، حازت إعجاب الجمهور. وهي ابتكرت ما يُسمى بمصطلح"الرقص - المسرح"، ورسمت ديكوراً سحرياً ملأته بأشياء يومية، ومشاهد قصيرة وقائمة بنفسها، وخاطبت الجمهور، ومزجت المشاهد والمخاطبة بلوحات راقصة عالية الاحتراف. وتروي أعمالها الحياة وترفعها الى مرتبة العمل الفني. ونهج بينا باوش قوامه الارتجال واختبارات الراقصين. يتحرك الممثلون على خشبة المسرح في حميمية وفي أجواء كالحلم، وما هي سوى لحظات حتى ينقلب المشهد، ويزداد الموقف حدة حين يقبع الراقصون على الأرض، بينما يتفحص كشاف إضاءة خشبة المسرح وهو يتحرك بلا هوادة مثلما هي الحال في الحروب، ويمرّ رجل حاملاً فوق ظهره سيدة وهي تصرخ، بينما يهرول ثلاثة أشخاص كما لو كانوا يحاولون الهرب من الموت. وثمة رجل يجري محاولاً عبثاً أن يرتدي ملابسه ويتعثر بينما يحاول رجلان آخران اللحاق به. وفجأة يختفي التوتر ويتوارى الراقصون استعداداً لمشهد جديد. هذا أحد المَشاهد من عرض"بامبو بلو"الذي استوحته باوش من مدينة مومباي الهندية، حيث يشعر المُتابع للعرض أنه يستطيع أن يشمّ رائحة الهند من خلال التفاصيل التي ركّزت عليها باوش. بدأت باوش مسيرتها الفنية في منتصف الخمسينات من القرن الماضي إذ تتلمذت على يد"كورت يووس"وهو من أشهر مصممي الرقصات في بداية القرن العشرين والذي يرجع إليه الفضل في بلورة مصطلح المسرح الراقص. ووضعت أول تصميماتها عام 1968، وتولت إدارة ستوديو"فالكفانغ"الراقص عام 1969، ثم مسرح"فوبرتال"الراقص عام 1973. وتطور أسلوبها مع مرور الأعوام من الرقص الحديث إلى المسرح الراقص وحصلت على أرفع الجوائز الدولية. عام 1979 سافرت باوش مع فرقتها إلى جنوب شرق آسيا لأول مرة بناء على دعوة من معهد غوته. وبعد ذلك ظل عمل تلك الفنانة وثيق الصلة بمعهد غوته حيث طورت، منذ الثمانينات بالتعاون مع شركاء المسرح الراقص ومعاهد غوته في كثير من الدول، نوعاً من المسرحيات كان من شأنها تحديد مسارها الفني اللاحق. وتذرعت بعروضها في عواصم العالم الى النزول بها أوقاتاً طويلة، ثم الى صوغ المدن أخيلة وهوامات. فنصبت مدينة الجنوب الإيطالي باليرمو في قلب عملها"باليرمو، بالدمو"1989، واسطنبول في"نَفَس"2003، وسيول في"راف كات"2005. وشيئاً فشيئاً، صارت رقصات الراقصين المنفردة في قلب أعمالها، وتوقيعها الخاص. وكانت تُخطّط قبل وفاتها أن تزور مصر لتُصمّم عرضاً من روح الحياة الفرعونية والصحراء الإفريقية. غير أن القدر لم يمهلها لتحقيق مشاريعها تلك إذ توفيت قبل زيارتها المقررة إلى القاهرة بأسابيع قليلة. ويعد عرض أعمالها في دار الأوبرا المصرية بمثابة تكريم لهذه الفنانة التي استطاعت أن تخلق عبر مشوارها شكلاً ثورياً للرقص لا يقتصر على الربط بين الرقص والمشاهد التمثيلية فقط بل يعتمد في المقام الأول على التجربة. إذ تبدو الأحداث في عروض بينا باوش وكأنها تدور داخل معمل تقام فيه تجارب على الحياة بما فيها من عناصر الخوف والأمل والمحاولة والخطأ. وتعد مسرحية"بامبو بلو"ختاماً لمجمل أعمالها وتجسيداً معبّراً لرؤيتها الفنية وهي تصور فيه تداعيات خواطرها عن شبه الجزيرة الهندية.