لم يكن تشكيل الجمعية العامة للأمم المتحدة في 8 كانون الأول ديسمبر 1949، وبناء على القرار 302 وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين وتشغيلهم أونروا، من المتوقع أن يستمر على مدى 60 عاماً. وما لم يكن متوقعاً أيضاً أن تبقى معالجة القضية الفلسطينية على مدى 60 عاماً محط أنظار العالم أجمع. ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين التي أحييت هذا العام، وعلى هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة، الذكرى ال 60 على انطلاق عملها، ولو أنها ما كانت منذها في هيكليتها المترامية الادارات والاهتمامات الاغاثية والتنموية والخدماتية، تستمر الشاهد الأبرز على حق اللاجئين الفسطينيين، أينما وجدوا، بالحياة الكريمة حتى عودتهم، بحسب قرارات الشرعية الدولية والمبادرة العربية للسلام. حتماً إحياء الذكرى لتبيان استمرار مأساة كتلة انسانية اغتصبت أرضها، وانتهكت حرمة هويتها، يرتّب مسؤوليات جساماً على الوكالة التي أنيط بها، ولم يزل، الابقاء على جاهزية، عالية للاستجابة لمتطلبات آنية ومرحلية واستراتيجية فرضها واقع التشتيت المنهجي والحصار غير الانساني الذي ما انفكت اسرائيل، تمارسه وبعربدة استبدادية على مرأى من المجتمع الدولي الذي يوفّر في الوقت عينه للأونروا مقومات الصمود. لا سيما هذه الأخيرة، والتي بدأت الاضطلاع بمهماتها في الأول من أيار مايو 1950، تستجيب لاحتياجات 4.67 مليون لاجئ، ويتجاوز عدد الموظفين العاملين فيها 30.000 موظف، ما يضعها بإزاء تحديات كبيرة على المستويين الاداري والمالي من ناحية، وأيضاً على مستوى الرؤية المستقبلية لدورها من خلال علاقتها مع الدول المانحة والمضيفة. فهل سيقتصر هذا الدور، وبسبب من تردي الوضع الاجتماعي والاقتصادي للاجئين الفلسطينيين كما انعكاسات الأزمة المالية العالمية على الدول المانحة، هل سيقتصر دورها على السعي لسد عجزها في الموازنة العامة كما في موازنة"الأقاليم"بحسب المصطلح الذي تستخدمه للدول المضيفة، أم هي مدعوة الى اعادة هيكلة فاعلة ليس فقط في السياق الاداري بقدر ما هي مدعوة الى اعادة صوغ هوية تواصلها مع كل من الأطراف المعنية باستمرارها، بما يؤكد شهادة المجتمع الدولي على احدى أبشع جرائم العصر. وبين اعادة الهيكلة الادارية واعادة صوغ الهوية ثمة ترابطات عضوية لا بد من استنتاجها بعد الاضاءة، على كل من الحاجتين الضروريتين السالفتي الذكر. 1-"أونروا"واعادة الهيكلة الادارية لا يعنينا في هذا السياق، وليس من شأننا، البحث في تقنية التطوير الاداري أكان على المستوى التوظيفي أو ذلك المتعلق بالتفاعل مع الحاجات اليومية للاجئين. بل الأهم يبقى في فلسفة اعادة الهيكلة الادارية انطلاقاً من تساؤلين أساسيين مفادهما أن هل سيبقى البُعد التوظيفي رهناً باختيار تتداخل فيه عوامل من يموّل الكفاءات المطلوبة، ولأي مدة، ما يستدعي أحياناً تغييراً في الكوادر، وفي مشروع واحد، أكثر من مرة، ما قد يقلص من بعض فاعلية العمل، فيمسي التمويل ومصدره أحياناً عائقاً في انجاز المرتجى؟ ثم هل سيبقى التفاعل مع الحاجات اليومية للاجئين، والى حد كبير كما هو اليوم، مستنداً الى المنطق الاغاثي الطوارئي التقليدي، أم سينتقل الى براغماتية ذات أهداف بعيدة المدى؟ ليس من شأن التساؤلين اللذين عَرَضنا التدخل في دينامية التزامات أونروا الآنية، والتي يبدو أنها باتت تستنزف قدرات هذه المؤسسة - الحاجة، إنما تثبت من خلالها الأخيرة قدرتها على مواكبة ما تفرزه من تداعيات كارثية بكفاءة عالية رغم ضآلة الامكانات المتاحة، بل من شأن هذين التساؤلين لفت نظر اللاجئين الفلسطينيين أنفسهم، وهم الكتلة الأكثر تواجداً وفاعلية في هكيلية أونروا، الى أنه من المطلوب وضع خبراتهم الى جانب الكفاءات الدولية للذهاب بالاتجاه التمكيني للناس ليس في التربية وتقنياتها، بل في دور ما بعد التربية من حيث القدرة على حماية هويتهم النضالية، عبر التأكيد على أن لتمكينهم من أداء دور ما تحديين. الأول قائم في تعميم مبدأ رفض الستاتيكو الاعتياشي المرحلي بما يعني التموضع في موقع القدرة على الابداع. والثاني مستند الى أن التفاعل مع الخبرات الدولية في أونروا جزء مكوّن من الشهادة للقضية. وهنا يكمن بيت القصيد الواجب أن تعيه الأسرة الدولية والمتمثل بحقيقة أن الهيكلة الادارية لا يمكن أن تنجح إلا في العودة للبحث في هوية أونروا ورسالتها. 2-"أونروا"واعادة صوغ الهوية حتماً لا مؤسسة تستطيع القيام بمهمتها إن لم تتوافر الموارد البشرية والمالية لها. إنما ما يغيب أحياناً، عن بالنا، وتحديداً في عالمنا التكنولوجي أن توفّر العنصرين البشري والمالي لا يكفيان لتمكين أي مؤسسة من الاضطلاع بالمهمات الملقاة على عاتقها، وكم بالأحرى حين تكون هذه المهمات شائكة على غرار الابقاء على قضية اللاجئين الفلسطينيين في سلم أولويات المجتمع الدولي. الكل يعلم أن أونروا هيئة انسانية أممية لا علاقة لها بالسياسة والأمن. لكن الكل يعلم أيضاً أن أونروا هيئة انسانية مؤتمنة على قضية سياسية بامتياز من حيث ارتباطها بالعدالة الدولية، كما أنها هيئة انسانية معنية مباشرة بالأمن من حيث تلازم مسؤوليتها بحماية أمان الناس الجغرافي والديموغرافي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي والبيئي. إن السياسة والأمن يجب أن يستعيدا رونقهما في القلب النابض لتطلع أونروا المستقبلي على قاعدة اللجوء الى المحاكم الدولية والاسرائيلية حتى، لتسجيل دعاوى الانتهاكات المنهجية ضد الانسانية. وقد يكون هذا النهج مدخلاً لتصويب بعض أداء مجلس الأمن من باب الاستناد الى دعاوى هنا وثمة موثقة مع تكليف من يتابعها. ثم إن الاعضاء في الهيئة الاستشارية العليا للاونروا، والذين يشكلون جسماً مصغراً عن الأعضاء في مجلس الأمن، لا بد أن لا يقتصر دورهم على تأمين التمويل، بل هم مدعوون الى ممارسة سلطة المحاسبة المستمرة لمن يصر على اعتبار دولهم مصدراً مالياً أكثر منه شهوداً على العدالة المرتجاة. وقد يكون تسلم مصر لرئاسة الهيئة والمملكة العربية السعودية نيابة الرئاسة فرصة في هذا الاتجاه. لا ريب في أن من الصعوبة بمكان أن تبلغ مقاربتا اعادة الهيكلة الادارية للأونروا كما اعادة صوغ هويتها، آذاناً صاغية في ظل تكسر متراكم لقضية اللاجئين الفلسطينيين منذ 60 عاماً، لكنّ للحق صوتاً، ولا صوت يعلو عليه، تحية ل"أونروا". * كاتب لبناني مخيم للاجئين الفلسطينيين