ثنائية السلفية والغرب: إذا كان الفكر الإصلاحي في بلاد المغرب الكبير في الفترة الممتدة من منتصف القرن التاسع عشر حتى نهاية الحرب العالمية الثانية استقطبه مشروع تحقيق النهضة التي اهتم بها الفكر الإصلاحي في المشرق فإن لإنتاج المغاربة العلمي ميزات خاصة تحتاج الى قدر من الاهتمام. وتعود هذه الخصائص الى عوامل ثلاثة: عامل محلي إقليمي والثاني أوروبي غربي والثالث مشرقي عربي. - في المجال الأول يلاحظ ان أقطار المغرب الثلاثة عرفت في الفترة الحديثة مجال بحثنا حالة من التفكك الاجتماعي مرده تباين المدينة عن البادية في شكل صدامي بين بنيتين اقتصاديتين واجتماعيتين وثقافيتين. هذا التفكك كان يعوض بوحدة موقتة تنشئها ظروف جهادية للدفاع عن الكيان الوطني أو لإنقاذ المسلمين. فالتوحد لا يحصل إلا عند تهديد الدخيل. - مع عام 1830 تأكد التوسع الأوروبي بعد ان أنهى طور صداماته الداخلية باستعمار الجزائروتونس عام 1881 ثم المغرب عام 1912. ولم يكن لهذا التوسع الاستعماري ان يتحقق لولا التدهور الشديد اقتصادياً واجتماعياً ولولا حالة الجمود الثقافي وتفشي الأمية والتقاليد الفاسدة في عموم الفئات الاجتماعية. وانبثقت من هذا الوضع الاستعماري حركة فكرية متدرجة وإقبال على التعلم واكبهما ظهور أحزاب سياسية وانتشار مهم للصحف ثم قيام بعض الجمعيات الثقافية التي ستتضافر جميعها لانطلاق حركة وطنية على المستوى المغاربي حركة الشباب التونسي 1908، الحزب الدستوري 1920، ثورة الأمير عبدالقادر 1832 الى 1847، ثورة الريف المغربي 1911. - في المجال الثالث يتبين بجلاء الارتباط مع الحركة السلفية المشرقية أولاً نتيجة التواصل بين النخب المتعلمة والتأثر بالتحولات الكبرى التي عرفتها المناطق التابعة للخلافة العثمانية والتفاعل مع ما كان ينشر في الصحف الكبرى مثل"العروة الوثقى"وپ"المنار"وما صاحب كل ذلك من حركة أدبية ومسرحية. وفي هذا المستوى يلاحظ ان درجة التفاعل مع التوجه السلفي لم تكن واحدة، ففي حين كان المغرب الأقصى أكثر البلدان تأثراً بالسلفية المشرقية ما جعل التوجه الإصلاحي يتميز بقدر خاص من التركيب بين خطاب الهوية والتحديث لا نجد مثيله في الجزائر على رغم قربها من السلفية. هذا في حين ظلت النخب التونسية الإصلاحية نائية عن التفاعل المباشر مع الخطاب الإحيائي المشرقي. إذا أردنا ان ننظر في المضامين التي يلتقي عليها الإصلاح في المغرب رأينا انه ينطلق من الوعي بالتخلف. ويتمثل تشخيص النخب الإصلاحية لهذا الواقع المتردّي للمسلمين بأن سببه هو تفريطهم في دينهم وأنه ليس هناك من حل إلا تثبيت أسس الإيمان القوي من اجل التصدي الى حملات الغزو والاستعمار والاستلاب الثقافي. وبذلك يكون العنوان العريض للفكر الإصلاحي المغاربي هو: الحل في العودة الى الإسلام. الحقيقة الأخرى التي لم يفتأ الفكر الإصلاحي ملتفتاً إليها هو خصوصية المنطقة المغاربية الحديثة في ارتباطها بالصراع مع الاستعمار الأوروبي في صيغته الفرنسية. لذلك فإن أولى موضوع الاستلاب الفكري والتغريب الثقافي عناية واضحة. من ثم اتجهت اهتمامات الفكر الإصلاحي الى إحداث تفاعل بين أبعاد ثلاثة: التحديات السياسية الملحة والإصلاح الديني وضرورة بلورة حركة فكرية تصلب الهوية وتدعم النضال السياسي وتوجهه. الآخر والنظرة الى الذات: يمكن ان نعدّ عنوان كتاب شكيب أرسلان 1869 ? 1946"لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟"مفتاحاً يضع امامنا بجلاء طبيعة الفكر الإصلاحي بعامة والنخب المغاربية بخاصة في مواجهتها للتحدي الحضاري الغربي. فإذا كان ظاهر الخطاب الإصلاحي يبين مدى الارتباط بعناصر الهوية التاريخية ومدى التمسك بالأهداف العامة للشريعة فإنه من دون شك يكشف حقيقة لا تكاد تخفى وهي ان الفكر الإصلاحي مسكون بالغرب. اتضح ذلك منذ ان كتب رواد الإصلاح في تونس بأن"التيار الأوروبي تدفق سيله في الأرض فلا يعارضه شيء إلا استأصلته قوة تياره المتتابع فيخشى على الممالك المجاورة لأوروبا من ذلك التيار إلا إذا حاذوه وجروا مجراه في التنظيمات الدنيوية فيمكن نجاتهم من الغرق". حين نربط بين هذا وبين النص النموذجي للفكر الإصلاحي للشيخ سالم بوحاجب التونسي الذي يقول فيه:"إنني بعد ان تأملت تأملاً طويلاً في أسباب تقدم الأمم وتأخرها جيلاً بعد جيل بما تصفحته من التواريخ الإسلامية والإفرنجية... التجأت الى الجزم بما لا أظن عاقلاً من رجال الإسلام يناقضه من أنّنا إذا اعتبرنا تسابق الأمم في ميادين التمدن وتحزب عزائمهم على فعل ما هو أعوَد نفعاً لا يتهيأ لنا ان نميز ما يليق بنا إلا بمعرفة أحوال من ليس من حزبنا... فإن الأمر إن كان صادراً من غيرنا وكان صواباً موافقاً للأدلة، فلا وجه لإنكاره وإهماله". هذا الاعتراف بالآخر قاسم مشترك لرجال الفكر الإصلاحي في المغرب على رغم الصراع الحضاري ومخاطر الاستلاب الثقافي. السياسة والشريعة - المد والجزر: المؤكد ان التقاليد العلمية والأوضاع الاجتماعية بالمغرب العربي الحديث مكّنت عدداً من رجال الإصلاح من خوض الشأن السياسي. وتقلّب البعض في المناصب السياسية واختلطوا بكبار رجال الدولة وكان للبعض الآخر اطلاع كاف على مجريات الأمور السياسية مما مكّن رجال الإصلاح من نضج فكري ومن استعداد واع لدعم كل توجه إصلاحي عقلاني. وندرك هذا بوضوح في الجهود الوطنية للنخبة الإصلاحية المغربية من امثال أبي شعيب الدكالي ت. 1937 المعروف بعبده المغربي وتلميذه محمد بن العربي العلوي ت. 1965 أستاذ علاّل الفاسي. في الجزائر كانت جمعية علماء الجزائر ومنشوراتها الإصلاحية لا تتردد في معالجة الأوضاع السياسية والاجتماعية مما كان يثير حفيظة الطرقيين ورجال الاستعمار الفرنسي. وكان هذا شأن الشيوخ عبدالحليم بن سماية وحمدان الونيسي والطيب العقبي ت. 1962 ومحمد البشير الإبراهيمي ت. 1965 ومبارك الميلي ت. 1945. اما في تونس فإضافة الى ابن عاشور وسالم بوحاجب فإنه ينبغي ان نذكّر بالشيوخ بيرم الخامس 1840 - 1889 ومحمد النخلي والخضر بن حسين ومحمد شاكر. ينبغي في خصوص هذا المبحث السياسي التذكير بأمر أساسي نستوحيه من قضية التنظيمات التي كان لها أثر كبير في السياق المغاربي. ويقول صاحب أقوم المسالك:"ولا سبب لما ذكرناه إلا تقدم الإفرنج في المعارف الناتجة عن التنظيمات المؤسسة على العدل والحرية". وإذا كان هناك نوع من الاتفاق بين الإصلاحيين على ان سر تفوق الغرب هو طبيعة نظام الحكم فيه واعتماده على مؤسسات دستورية فإن هذا لا يجعلنا نظفر في خصوص الشأن السياسي على أي جهد تنظيري يذكر. وما نجده هو في الأساس مقالات وبيانات واهتمام بالجوانب العملية كأهمية التنظيم الحركي والحزبي من اجل استقطاب الجماهير، مع صوغ هذا المطلب بالاهتمام بالجوانب الإجرائية الشكلية. تمكن الفكر الإصلاحي بفضل معايشته للأحداث من التعبير عن مطالب سياسية منهياً العزلة التي كانت تعيشها القيادة الفكرية والدينية بعيداً من القيادة السياسية. حدث هذا لكن من دون ان يتجاوز المشروع السياسي طابع الموعظة والتوصيات الأخلاقية مع بوادر نجدها عند الفاسي وابن عاشور في اعتماد عبارات لم تكن معروفة من قبل مثل: المجتمع الإسلامي والتعليم الإسلامي والاقتصاد الإسلامي. وقع ذلك في سياق سجالي يؤكد ان القرآن أعطى كل مبادئ النظام الديموقراطي الحديث. وهذا المعنى يوحي بأن للفكر الإصلاحي راياً في الإسلام والمسيحية وأنه لا ينبغي المقارنة بينهما بل ينبغي مقارنة الإسلام بالمؤسسات المدنية الغربية. إذا تجاونا هذا فإننا لا نجد أي جهد تنظيري يغيّر الصورة التاريخية للحكم مع ما يلزم لذلك من فكر سياسي واجتماعي ملائم أو يسوّغ مرجعية الشرعي وضرورة توجيهه للحياة العامة. نشر في العدد: 16738 ت.م: 31-01-2009 ص: 29 ط: الرياض