أسرع الجميع - كباراً وصغاراً - نحو ذلك الصندوق، وأخذ كل منهم مكانه، فقد آن أوان تناول الجرْعة الجديدة من ذلك السم الغريب، سم لا يشرب ولا يؤكل ولا يحقن في الوريد، إنما يتسرب بهدوء إلى قنوات الفكر والوجدان، فيسمم الأفكار ويلوث المشاعر! تغلغله الهادئ حماه من مقاومة أو انتباهة غافل، وتكرار تناول الجرعة بانتظام جعل طعمه المر مستساغاً بل ومطلوباً! "المسلسلات المدبلجة"حلة جديدة أكثر قرباً وحميمية، فاللهجة معروفة محببة، والملامح مألوفة، والأسماء عربية أصيلة، وشيء من المعاني الدينية غلف زجاجة السم ببريق خادع! ساد صمت يشبه صمتنا العربي، فالكل مشغول بمتابعة أحداث المسلسل، وما آلت إليه أحوال القلوب المتعبة التي أضناها الهجر وأرقها الحنين. والويل كل الويل لمن يحدث إزعاجاً، أو يصدر أصواتاً تعلو فوق تلك الأصوات المنبعثة من ذلك الصندوق، فالأحداث غاية في الأهمية، والمشهد إن فات لا يعوض، لذا فليصمت الجميع، وليتابع الجميع بهيام ونشوة. الغريب في الأمر أن أولئك القوم لم يكونوا من المدمنين المنحرفين، ولا ممن اعتادوا اللهو والعبث، بل هم من الأسوياء العقلاء الذين يحرصون على تربية أبنائهم تربية صالحة. ما الأمر إذاً؟! ماذا أصابهم؟! كيف غفلوا عما تنطوي عليه تلك المسلسلات - طويلة الأمد - من فساد؟! أننا في زمن طغت فيه المادة على كل شيء حتى وصلت إلى قلوبنا، فصيرت القلب عضلة جوفاء تضخ الدماء من دون ماء الإحساس إلى أن تحجر وقسى! مشاعرنا تحتضر، وأرواحنا تئن من فرط ما أصابها من جفاء، والفراغ العاطفي يفغر فاه يريد ابتلاعنا، فنفر هاربين من قبضة فكيْه إلى مثل هذه المسلسلات لنعيش"الرومانسية"ولو وهماً! عجباً...! منذ متى كان الوهم بلسماً، ومنذ متى كان رزق الله يستجلب بمعصيته؟! رجاء محمد الجاهوش - بريد الكتروني