كان لا مفر لمسؤول في شركة، من الاقتراب من كومبيوتر زميل جديد متدرّب، عندما استفسر هذا الأخير عن عملية دقيقة. ابتسم له المسؤول ورفع حاجبه الأيسر ثم"لكز"الأرض بكعب قدمه، فكرج كرسي المكتب ذو العجلات الصغيرة، سريعاً، نحو المتدرّب. وما إن توقّف الكرسي عند طاولة الزميل الجديد، حتى انقطعت أنفاس المسؤول، ولكنه أبقى على الابتسامة معلّقة على وجهه الذي أخذ في الاحمرار. ولم يستطع الإجابة قبل أن يزفر كل الهواء المحبوس في أحشائه دفعة واحدة. عندما اقترب أنف المسؤول من"الهالة"الخفية المحيطة بالمتدرّب، صاحب الوجه البريء، عصفت به رائحة فظيعة. هو شمّها من مسافة أبعد، ولكنه لم يستطع كبح"جماح"الكرسي، حتى ارتطم بپ"منبع العطر". أجاب على السؤال، سريعاً، من دون أن يشهق ثانية، وآب إلى طاولة عمله"كرجاً"أسرع من"كرج"الذهاب. تكوّنت لدى المسؤول فكرة"ملوّثة"عن الموظّف المتدرّب، وبدأ يتراجع عن قبوله في الوظيفة الشاغرة، مع أن سيرته المهنية حسنة، وتحمل ثناء أرباب عمل مرموقين. ثم صُعق، إذ رأى زميلة حسناء تقترب من المتدرّب لتساعده، وكأن"نتانة"لم تكن. حينئذٍ، راح يتفحّص أنفه ذا المنخرين الواسعين، لعلّه مصاب بحساسية مفرطة، أم أن تلك الحسناء مصابة بالزكام. مفهوم النظافة غير ثابت، ويتبدل بتغير المقاييس. ويُجمِع الناس في ما بينهم، على حدّ أدنى مقبول، ترسو عليه آداب المعاملة الاجتماعية والعامة. فالفضل في مقاييس النظافة، يعود إلى الاختلاط، وملامسة الآخرين أو الاحتكاك بهم، أو التعرض لنظرتهم إلى النظافة والوساخة، على قول فريديريكا تماروتزي، للپ"يبيراسيون"الفرنسية 16/7/2008، وهي عالمة إناسة، في وصفها العلاقة بالوساخة والقذارة. وللنظافة معانٍ متباينة، يتعلق بعضها بالخصوصية، فكل منا يحتفظ بسر يكتمه عن دورة المياه، مثلاً، ولا يبوح به، بل ولا يأتِ بحركة أو صوت، طالما"الآخر"في جوار الحمّام. وفي أثناء الغسل، ثمة أفعال أو حركات نجاهر بها، وأخرى نتكتّم عنها. وهذا حد من حدود الخصوصية الذاتية لا ينتهكه شريك العمر نفسه. فالزوجة التي لا يحرجها وجود زوجها في دورة المياه، تُحجم عن نزع شعر الساقين على مرأى منه. وهذا من باب أفعال تكاد تكون اجتماعية وعلنية في مجتمعات أو دوائر أخرى، كما ترى تماروتزي. والعلاقة بين النظيف والوسِخ متقلبة ونسبية. وتحكم فيها حاجات أو شروط أولية، بعضها ثقافي. ولكن ما لا معيار مشتركاً فيه هو المنزلة التي تنزلها الوساخة. فروث البقر في المزارع لا يقزز أحداً، على خلاف الامتعاض الذي تبعثه فضلات الكلاب على الأرصفة في المدن. والإعجاب بتسريحة أمام المرآة، يفسده إمرار اليد على الشعر وسقوط شعرة في المغسلة. وبينما نغيّر فوطة الطفل الصحية الحفاض بكل يسر، يثقل علينا تغيير الفوطة لرجل مسن. ومعروف أن كليهما عاجز عن القيام بالأمر وحده. وجوار الأجسام بعضها من بعض يضطلع بدور راجح في المسلك. فنحن نتحمّل رائحة العرق المتصبب من"شريك"نشاط رياضي، وترهقنا رائحة عرق"غريب"في الحافلة. وتلفت تماروتزي إلى أن هاجس النظافة الذي يصيب المترفين الذين يفرط بعضهم في النظافة. ولا ريب في أن أهل العسر والشح والفقراء يرون الوساخة على وجه آخر ليس الوجه الذي يراها عليه أهل اليسر. وهل حس النساء بالنظافة أرهف من حس الرجال؟ فنظافة الطفل والمنزل، كانت على عاتق النساء. ومصدر صورة المرأة الحسية هو الظن في روائحها الطبيعية، والنفور المادي والاجتماعي والثقافي منها. ولهذا، تقول تماروتزي، اعتادت النساء، باكراً، إجراءات النظافة. وألقي تعلمها عليهن. والوجه الآخر للصورة، يظهر هاجس الرجل بالنظافة، ولا مبالاة المرأة بها. والمدينة وتلوّثها يدخلان في باب الوساخة. وفي مواجهة ذلك، ترى بعض سكان المدن يتقوقعون داخل"فقاعة"نظافة محكمة، ضمن المنزل، تصد أوساخ الخارج. فالخرافات المتداولة في المدن عن الوساخة، تبث مخاوف العدوى من جراثيم يتعاظم خطرها على قدر ما هي خفية.