لقد أدى الاحتكاك بالحضارة العربية والتعامل معها منذ قرنين الى نقل كثير من المصطلحات السياسية الدينية والعلمية والاجتماعية الى تراثنا الفكري، وهو أمر طبيعي. لكن هذا النقل أحدث بلبلة واضطراباً في فضائنا الثقافي والعملي في كثير من الأحيان، والسبب في ذلك هو نقل هذه المصطلحات الى مناخنا الفكري بدلالاتها المختلفة دون مراجعة خصوصيتها الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية أو الفكرية الخ...، ويمكن أن نمثل على ذلك بعدة مصطلحات منها مصطلح الطبقة البرجوازية التي تحدث عنها كارل ماركس في كتاب رأس المال، وهي طبقة جاءت بعد المرحلة الإقطاعية، وارتبطت بنشوئها الصناعات الحديثة، وجاء ثراؤها من استغلال الطبقة العاملة. والحقيقة أن تعريف ماركس لهذه الطبقة جاء مرتبطاً بالتاريخ الأوروبي بكل ما يحمله من تطورات. وقد نُقل هذا المصطلح الى فضائنا الاقتصادي، وأُنزل تماماً على واقعنا مع كل وجود المباينات المسبقة، فليس هناك تطابق بين المرحلة الإقطاعية في أوروبا وفي منطقتنا، وهذه الطبقة البرجوازية في منطقتنا غير مرتبطة بتراكم رأس مالي حقيقي، بل كانت تقوم بدور الوسيط بين الاقتصاد الرأسمالي الأوروبي وبين السوق المحلي، والأهم من ذلك أن نتائج ذلك النقل الحرفي لمصطلح الطبقة البرجوازية كان كارثياً في مرحلة التطبيق الاشتراكي في الستينات من القرن الماضي في كل من مصر وسورية والعراق والجزائر واليمن الخ...، اذا استتبع هذا المصطلح ممارسة العنف الثوري نحو هذه الطبقة التي لا وجود حقيقياً لها، واستتبع تدميرها من أجل تحقيق مجتمع الكفاية والعدل، واستتبع العزل السياسي لها من أجل حماية المجتمع من شرورها الخ...، وتلك الإجراءات أعاقت النمو الاقتصادي لمنطقتنا، ودمرت الطبقة الوسطى، ومرد ذلك كله لاستخدام المصطلحات الماركسية دون النظر الى مدى خصوصية التطور الاقتصادي للمنطقة، مع أن كارل ماركس عندما درس الاقتصاد الآسيوي أفرز له حيزاً خاصاً، واعترف بخصوصية تطوره وتميزه عن الاقتصاد الأوروبي، وأفرز مصطلحاً خاصاً له سماه"النموذج الآسيوي". ومن هذه المصطلحات المنقولة أيضاً مصطلح الانحطاط والنهضة، فقد عرف الغرب في قرونه الوسطى انحطاطاً نتيجة سيطرة الكنيسة على الأمور العلمية، ونتيجة اصطدام رجال الدين مع رجال العلم حول حقائق مثل دوران الأرض وثباتها، وحول مركز الكون أهو الأرض أم الشمس؟ الخ...، ثم جاءت مرحلة النهضة التي اعتمدت على العقل، وأطلقته من أسره، واستتبع ذلك اكتشافات واختراعات في مختلف المجالات العلمية والجغرافية والاقتصادية والصحية والعسكرية الخ...، ثم نُقل هذان المصطلحان الى ثقافتنا الفكرية، وقد استتبع ذلك ضرورة تحقيب تاريخنا الحضاري بصورة مطابقة لما عند الغرب، وضرورة وجود انحطاط حضاري ومرحلة تنوير عقلي، ثم مرحلة نهضة، وقد اعتبر الناقلون لهذه المصطلحات ان العصر المملوكي والعثماني هي فترة الانحطاط، وان فترة التحديث التي بدأها محمد علي باشا في مصر هي بداية النهضة. وعند التدقيق في هذا نجد أن مواصفات عصر الانحطاط عند الغرب لا تتطابق مع مواصفات العصر الذي أطلقوا عليه الانحطاط عندنا من حيث الانغلاق وموات العقل، وقد فند ذلك الدكتور جورج صليبا في كتاب"الفكر العلمي العربي: نشأته وتطوره"الذي درس فيه علم الفلك في الفترة المسماة بپ"عصر الانحطاط"، فلم يجد انحطاطاً، بل وجد ابداعاً واضافات واكتشافات وفاعلية فكرية تدل على حيوية العقل العربي ونشاطه في تلك المرحلة، وندد بتسمية ذلك العصر"عصر الانحطاط"واعتبرها خاطئة، واعتبارها مسمى دون محتوى. أما في ما يتعلق بعصر النهضة فاعتبر الباحثون عصر محمد علي باشا في مصر بداية لهذه النهضة، وذلك لأن محمد علي باشا أدخل كثيراً من التحديثات العصرية في مصر التي بدأت أثناء فترة حكمه عام 1805. ولا شك ان هذه الإصلاحات أحدثت تغييراً في النواحي الاقتصادية والزراعية والاجتماعية والسياسية الخ... لكنها لم تحدث نهضة، لأن النهضة تبدأ أولاً من رؤية فكرية نحو الواقع الغربي والثقافي والديني والاجتماعي والاقتصادي والسياسي، تقبل بعض حقائقه وترفض بعضها الآخر، وتصوغه بالتالي بحسب تفصيلات منهجية لتصبح الأمة أكثر عافية وأكثر انطلاقاً، وهو ما لم يفعله محمد علي باشا في أية صورة من الصور، وقد نقل كثيراً من التحديثات الغربية لكنه لم يفعل ذلك بناءً على رؤية منهجية للواقع، لكنه فعل ذلك تلبية لطموحات فردية يريد بها أن يرسخ ملكه، ويريد أن يوسع رقعة سيطرته، ويتأكد ذلك عندما ننظر الى اليابان التي أحدثت نهضة وفعل مايجي أي الإمبراطور المصلح 1868 - 1912 ما لم يفعله محمد علي باشا، وهو أنه رسم رؤية فكرية لنهضته، وقد بدأ حكمه بإعلان مبادئ الإصلاح الخمسة في 4 آذار مارس 1868 وتناولت التأكيد على أولوية المصلحة العامة، وعلى المساواة بين اليابانيين، وعلى ضرورة توحد السلطتين العسكرية والمدنية، وعلى البعث لاكتساب الثقافة والتعليم العصريين في أي مكان في العالم واستخدامهما في بناء ركائز الإمبراطورية اليابانية. ومن المصطلحات التي برزت أخيراً مصطلح المواطنة، وراج هذا المصطلح بعد انتهاء الحرب الباردة بين القطبين كمصطلح يمكن أن يستوعب جانباً من الاضطراب الجماعي الذي تعانيه المنطقة، ومع أن مصطلح المواطنة في الغرب جاء أولاً نتيجة وجود الوطن، ولو أخذنا الوطن الفرنسي، فقد جاء هذا المصطلح مرتبطاً بالأمة الفرنسية التي تشكلت بعد مسيرة تاريخية خاصة لعبة فيها العوامل الجغرافية دوراً كبيراً في تكوينها، وفي صياغة مصطلح"الوطن"، ويرتبط اسم الوطن الفرنسي أيضاً بحقوق الإنسان، وبالمجتمع المدني. فالمؤكد أن الذي تكوّن أولاً هو"الوطن الفرنسي"كحقيقة موضوعية، وقيمة واقعية، وحوى كل تلك المضامين من التجانس الثقافي والاجتماعي والوجداني والاقتصادي الخ...، وحوى مضامين حقوق الإنسان والمجتمع المدني والأمة الفرنسية والقومية الفرنسية الخ...، ثم جاء مصطلح"المواطنة الفرنسية"التي تعني الارتباط بتلك القيمة، والتي أفرزت التساوي بين كل أفراد الوطن الفرنسي في الحقوق والواجبات. ولكن الذي حدث أننا عندما أنزلنا مصطلح"المواطنة"على واقعنا، نسينا أنه لم يتشكل"الوطن"كحقيقة واقعية وكقيمة موضوعية، وانما تشكل"الوطن"كمسمى سياسي ونتيجة ظروف سياسية معينة، وخير مثال على ذلك العراق الذي تشكل بعد الحرب العالمية الأولى بقرار سياسي من الحلفاء، فضم الموصل بعد أن كانت الموصل أقرب الى تركيا، وسلخ منه دير الزور وألحقها بسورية مع أنها أقرب الى البيئة العراقية، لذلك برز العراق كياناً سياسياً ولم يتكون"الوطن العراقي"كحقيقة موضوعية، لذلك نخطئ عندما نطلب الثمرة قبل أن نزرع البذرة، فعلينا أن ندعم في أوطاننا عناصر الوحدة الثقافية والاقتصادية والاجتماعية الخ...، لنكون"وطناً واحداً"، ثم ندقق في وجود"المواطنة"، فذلك أجدى قبل أن نتحدث عن"المواطنة"ونحن نمزق ما هو موحد، ونفرق ما هو مؤتلف. * كاتب فلسطيني.