ليست مائدة الطعام مكاناً تجتمع حوله العائلة مرة أو مرتين أو ثلاثاً في اليوم في طقس روتيني يتكرر مدى الحياة فحسب، ولا هي زاوية في مطعم تتحلق حول طاولة فيها مجموعة من الأصدقاء أو زملاء العمل للقيام بواجب الجسد فقط، وهي ليست كذلك مجموعة من المدعوين الى مناسبة لا رابط بينهم الا ما يجمعهم بصاحب الدعوة... انها كل ذلك في الشكل، وأكثر منه في الجوهر. من البديهي ان للمائدة دوراً اجتماعياً وانسانياً وتواصلياً مهماً، سواء داخل الأسرة الواحدة، أم بين الأفراد والأسر. ومن هذا الدور تتفرع وظائف أخرى. والمائدة في هذا السياق دليل خير وبركة وكرم وتبادل عواطف وألفة وخبز وملح. لكن المائدة في أحيان كثيرة هي مكان للصمت حيث ثقافة احترام الطعام وحيث لا كلام على طعام، وهي مناسبة لممارسة سلطة أبوية قد تكون صارمة وقاسية يمارسها رب الأسرة من مكانة الى رأس المائدة، وقد تمارسها الأم من خلال تحكمها في ادارة الأطباق وأصناف الطعام، أو من خلال تقسيم الطعام اذا كانت الموارد شحيحة والتنويعات معدومة. والأم التي تعرف كيف تدير مائدتها هي الأم التي تدير بيتها كله بجدارة ونجاح. فإشباع البطون هو مؤشر الى الموقع القيادي للأم في"حكم"منزلها. ولا فرق بين ربة أسرة ميسورة وربة أسرة فقيرة، فالمائدة في العمق هي نفسها، سواء ضاقت بأنواع الطعام أم اقتصرت على واحد أو اثنين، وسواء ضمت أفخر الأطباق أم أكثرها تواضعاً، فالوظيفة واحدة. الطعام متعة، متعة كبيرة، بعضهم يضعها في المرتبة الأولى عملاً بمبدأ"يعيش ليأكل"، وبعضهم يضعها في المرتبة الثانية أو الثالثة بعد متع أخرى، والحديث عن الطعام يستدعي الحديث عن الشهية، والشهية تختلف من فرد الى آخر من حيث قوتها وذوقها، والشهية تشبه الشهوة، ومن هنا ربما كان الرابط بين الشهية والشهوة، وبين لذة الطعام واللذات الأخرى. والشهية تقوي الشهوة، وبعض أنواع الطعام تستخدم لزيادة الشهوة. إنها عملية جسدية متشابهة ومتكاملة. فالجسد يعمل كله في نظام دقيق معقد ومتشابك. واذا كان الطعام متعة كبيرة، فإن للناس في ما يأكلون، وكيف يأكلون ومع من يأكلون مذاهب وأذواقاً. هناك من لا يأكل إلا من يد أمه بحكم العادة، وهناك من لا يأكل إلا من يد زوجته، تودداً أو رهبة، وهناك من يفضل الأكل في المطاعم بسبب العمل أو نفوراً من طعام لا يحبه في المنزل، وهناك من يهرب من زوجة مقيتة الى رفقة الأصدقاء والصديقات الأكثر حرارة وبشاشة، وهناك من يبحث عن طعام غريب لا تتقنه ربة البيت، أماً أو أختاً أو زوجة أو خادمة أحياناً. وكم من رجل هرب من طعام البيت الى السندويش لأن انشغالات الزوجة الأساسية من ماكياج وأزياء وصبحيات وزيارات لم تترك لها مجالاً للتفكير في طبخة اليوم. وللطعام طقوس. فهناك من يعقد حياته وحياة من حوله باتباعه الاتيكيت التي لا يتقنها في أحيان كثيرة، وهناك من يحاول تقليد أصحاب الاتيكيت، وهناك من يأكل على سجينه وبحسب ما يرتاح لا همّ له إلا التمتع بالمائدة لأن طريقة الأكل هي بحد ذاتها متعة. ويبالغ البعض في اختيار أدوات تناول الطعام من قدور وأوعية وصحون وملاعق وشوك وكؤوس، وهناك من يقنع بالضروري والكافي بغض النظر عن الشكل. والارستقراطيون لا يأكلون إلا بأوان من فضة، وكبار الأثرياء يستعملون الذهب، ولله في خلقه شؤون. إلا أن المحصلة هي نفسها. ورفيق الطعام خارج المنزل انواع، فقد يكون زميل عمله، أو صديقاً، وقد تشارك واياه فاتورة الحساب، وقد لا يمد يده الى جيبه، وقد تدعوه، وقد يدعو نفسه، وقد تختار له طعاماً بحسب موازنتك، وقد يختار لنفسه فيحرجك. وأطيب رفيق في هذه الحال هو من تسعى الى قبلها فتكرمها بلا حساب، على أن تفتح لك ذراعيها بعدما ملأت معدتها. واذا كان الأكل متعة، إلا أنه في بعض الأحيان قد يصبح عبئاً، عند البخيل المعتر الذي يتبع اثر بخلاء الجاحظ في الشح وحرمان النفس على رغم القدرة، ويتجنب معاشرة الكرماء والأسخياء على النفس وعلى الآخرين تجنباً للاحراج واخراج الفلوس من خزائنها، وعند البطران، الذي لا يشبع ولا تمتلئ له عين، فكثرة الطعام كقلته، مضرة. وهي في الحال الثانية عبء كبير، تسبب التخمة والاصابة بأمراض كثيرة تبدأ بعسر الهضم والبدانة ولا تنتهي بزيادة نسب الدهون والسكري وما شابه من أمراض العصر. والأكول الذي ينقاد لشهوة الأكل من دون ضوابط لا بد من ان يصل الى يوم يجد نفسه فيه محروماً من كثير من متع الأكل خاضعاً لنظام حمية قاس يقتصر طعامه فيه على المسلوق من اللحم والخضر، الخالي من الملح والسكر والدهن ومن كل المطيبات المائدة قد تكون كسرة خبز ومرقاً، وقد تكون من قصص ألف ليلة وليلة، وهي في النتيجة حاجة تتطور، وبالتأكيد ليست موضوع تباهٍ وتفاخر ودليل انتماء الى طبقة اجتماعية معينة. وتبقى القناعة، والرغبة، والرفقة العناصر الأكثر أهمية في المائدة، وكل ما عداها مظاهر لا تقدم ولا تؤخر.