حينما أعلن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية لويس مورينو أوكامبو تقريره الاتهامي ضد الرئيس السوداني عمر البشير ودعا إلى القبض عليه كان يدرك تماماً خطورة هذه السابقة. سابقة اتهام واعتقال ومحاكمة رئيس دولة خلال وجوده في السلطة. المدعي العام لا يرى في الأمر مفاجأة إذ إنه صرح تالياً بأنه قام في شهر حزيران يونيو الماضي بإخطار مجلس الأمن الدولي في نيويورك بعزمه توجيه الاتهام إلى الرئيس السوداني خلال شهر. في تلك الفترة كانت أميركا وبريطانيا تصعدان من حملتهما ضد روبرت موغابي رئيس زيمبابوي باعتباره المسؤول عن تزوير الانتخابات وتقدمتا إلى مجلس الأمن بمشروع قرار هو الأول من نوعه يقضي بفرض عقوبات على موغابي ومنعه من السفر مع تجميد أرصدته المالية. في جلسة التصويت واجهت أميركا وبريطانيا استخداما مزدوجا لحق النقض من روسيا والصين لأن كلاً منهما رأت أن القرار انتهاكاً لحصانة رئيس دولة ذات سيادة وتدخلا في شؤونها الداخلية. المحكمة الجنائية الدولية نشأت أصلاً خروجاً على هذا المبدأ المستقر في الحياة الدولية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية على الأقل. لقد نشأت بموجب نظام أساسي هو نظام روما للمحكمة الجنائية الدولية اعتمدته ستون دولة في 17/7/1998 ووصلت عضويتها أخيراً إلى 107 دول بعد انضمام سورينام. طوال مراحل التفاوض لإنشاء المحكمة كانت أميركا صاحبة الجهد الأكبر ثم شاركت في التوقيع على ميثاق المحكمة لإقناع الجميع بأنها ستخضع لهذا النظام المستجد كباقي الدول رغم تشكك الجميع بأن الكونغرس قد لا يصادق أبداً على انضمام بلاده إلى تلك المعاهدة. مع مجيء إدارة جورج بوش إلى السلطة في كانون الثاني يناير 2001 بادر الى سحب توقيع بلاده على معاهدة روما تلك وكذلك على معاهدات دولية أخرى وزيادة في الاحتياط أبرم اتفاقات ثنائية مع نحو تسعين دولة تلتزم فيها كل منها بعدم تسليم أي مواطن أميركي قد تطلبه المحكمة. كان هذا حرصاً من أميركا على الاحتفاظ لنفسها بحرية الحركة واستبعاداً لأي قيود أو ملاحقات قانونية من الآخرين ضد مواطنيها في أي مكان من العالم. مع ذلك امتنعت أميركا عن التصويت على قرار لمجلس الأمن في 31/3/2005 بإحالة ملف الأزمة في إقليم دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي للتحقيق في ما جرى هناك. وكانت تلك الخطوة نذيراً بما هو مقبل, لأن السودان لم ينضم أصلاً إلى معاهدة روما المنشئة للمحكمة، بينما نظام المحكمة لا يلزم سوى الدول الأعضاء. الأزمة في إقليم دارفور لها من الأصل جذورها المحلية, ثم تفاقمت بفعل تنافس القبائل المحلية مع بعضها بعضاً - وكلهم مسلمون - على الموارد الطبيعية وأسباب الحياة إلى أن بدأت تخرج عن إطارها المحلي والإقليمي سنة 2003 لتبدأ دورة من العنف والعنف المضاد الذي تزايد مع تدفق السلاح. كان لافتاً هنا أن أصواتاً أميركية تحديداً هي التي أعطت مبكراً توصيفاً لما يجري بأنه"حرب إبادة جماعية". ولم يكن هذا صحيحاً في رأي من ذهبوا إلى دارفور لتقصي الحقائق. الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر مثلا زار دارفور مع شخصيات دولية أخرى وأعلن حينها:"هناك تعريف قانوني للإبادة الجماعية وهذا التعريف لا ينطبق على ما يجري في دارفور". هناك عنف وانتهاك لحقوق الإنسان وترويع للسكان وربما جرائم ضد الإنسانية واخطاء فادحة من قبل السلطة. لكن كل هذا شيء والإبادة الجماعية شيء آخر. بالقفز إلى ما أعلنه المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية في 14 الجاري نجده يوجه إلى الرئيس السوداني عمر البشير اتهامات صريحة وقاطعة بارتكاب ثلاث جرائم إبادة جماعية وخمس جرائم ضد الإنسانية وجريمتي اغتيال، ويضيف قائلا:"إنها جرائم ارتكبت عن عمد"ويجب ألا ننتظر موت مليونين ونصف مليون مواطن آخرين في هذا الإقليم, مؤكداً أن جريمة الإبادة مستمرة, ومطالباً المحكمة بإصدار أمر بالقبض على الرئيس السوداني لمحاكمته جنائياً. المعلومات التي استند إليها المدعي العام ربما تتضمن بيانات من دول معنية أو معارضين أصحاب مصلحة، ولكن المؤكد هو أن المدعي العام لم يذهب بشخصه أو بمكلفين غيره لتقصي الحقائق في دارفور، كما فعلت منظمات إقليمية ودولية كثيرة في مقدمتها الاتحاد الأفريقي. بل إن الناطق باسم وزارة الخارجية الأميركية أعلن أنه على رغم أن أميركا ليست عضواً في المحكمة، فإن"الولاياتالمتحدة قادت عملية تحديد مسؤولية الأشخاص الذين مارسوا الإبادة أو الممارسات ضد المدنيين في دارفور". وبينما أعلن رئيس وزراء بريطانيا من اللحظة الأولى تأييده لإجراءات المحكمة ضد الرئيس السوداني, زادت فرنسا بأن دعت الخرطوم إلى القيام بمبادرة تقضي بتسليم الوزير أحمد هارون وعلي قشيب أحد قادة الميليشيات الموالية للحكومة إلى المحكمة الجنائية الدولية. أما الرئيس الأميركي جورج بوش فقد حذر الرئيس السوداني من تعريض نفسه لمزيد من العقوبات إذا لم يبد نيات طيبة بشأن دارفور. مستوى آخر من ردود الفعل على طلب المدعي العام نجده في تصريح لاندرو ناتسويس المبعوث الخاص السابق للرئيس جورج بوش إلى السودان:"هذا الإجراء يعد بمثابة كارثة. ما ذكره الادعاء قد يغلق آخر باب أمام الأمل في تحقيق سلام في هذا البلد. من دون تسوية سلمية فإن السودان قد يصبح صومالاً آخر. إن اتهام البشير سيجعل من العسير على أي دولة أو منظمة دولية أن تساعد في عملية التفاوض للتوصل إلى تسوية سياسية مع الحكومة السودانية". هذا هو بالضبط صلب ردّ الفعل الأول من الاتحاد الأفريقي الذي عبّر من اللحظة الأولى عن خشيته من تقويض عملية السلام في السودان بعد مطالبة المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية باعتقال الرئيس السوداني. فبدلاً من الدفع نحو التسوية السلمية يجيئ الدفع نحو المزيد من التمرد والمزيد من حمامات الدم. وهذا يقطع الطريق أمام التسوية ويجعل المتمردين أكثر استقواء بالأطراف الخارجية. لهذا السبب تحديداً كان الاتحاد الأفريقي الأسرع والأقوى في رد فعله سواء في رفض الضغوط الأميركية المعلنة لمقاطعة وعزل رئيس زيمبابوي روبرت موغابي أو في توجسه الصريح من هذه السابقة الخطيرة في الحالة السودانية. لقد تقدم الاتحاد إلى مجلس الأمن رسمياً يطلب إرجاء إجراءات المحكمة الجنائية الدولية لتجنب المساس بعملية السلام في السودان، كاشفاً أن لمجلس الأمن صلاحية إرجاء أي تحقيق أو ملاحقة من قبل المحكمة لمدة 12 شهراً. وردت ناطقة باسم الأممالمتحدة أن المنظمة لا تستطيع التدخل في قرار المحكمة الجنائية الدولية الذي يستهدف الرئيس السوداني. لكن هذا غير صحيح. فالمادة 16 من معاهدة إنشاء المحكمة تعطي مجلس الأمن سلطة تأجيل أي اتهام أو ملاحقة من المحكمة لمدة 12 شهراً قابلة للتجديد مرات مفتوحة. ثم إن المفارقة الكبرى هي أن على السودان أن يخضع لنظام محكمة دولية لم ينضم إليها بينما المحكمة بمعلوماتها المستمدة من أميركا تجعل واشنطن طرفاً فاعلاً في نظام محكمة هي ليست عضواً فيها. والمسألة هذه المرة تتجاوز حتى النصوص القانونية ذاتها. المسألة هي العلاقة بين العدالة والسياسة. فالذين يرفعون راية العدالة يدعون إلى تطبيق هذه السابقة على الحياة الدولية إلى نهايتها, أياً كانت كلفة ذلك بشرياً على الأرض، سواء لإعطاء العبرة أو لردع الآخرين. المشكلة هنا هي أنه لكي يصبح السودان عبرة لغيره يجب أولا أن يستمر كسودان. في السودان 14 حالة توتر وإذا قدر لأزمة دارفور أن تصبح أم التوترات التي تؤدي إلى تفكيك السودان ذاته إلى شظايا نصبح كمن يقول: نجحت العملية وتوفي المريض. ان الذين وضعوا قواعد القانون الدولي المعاصر، وأميركا تحديداً كانت في مقدمة هؤلاء منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، قرروا من بينها مبادئ سيادة الدولة وحصانة رئيسها وحقها في رفض تدخل الآخرين في شؤونها الداخلية، ولم يفعلوا ذلك لأن كل دولة هي فاعلة خير أو لأن رؤساء الدول ملائكة منزهون. بل أدركوا أنه من دون ذلك يتحول المجتمع الدولي إلى غابة وتصبح القوة فوق الحق. كل هذا من دون أن نتناول المسؤولية الفادحة للسلطة السودانية عن كثير مما جرى. ومن دون أن نتحدث أيضا عن أطماع الوحوش الكاسرة دولياً في بترول هنا ومياه هناك وموارد طبيعية هنا وهناك. * كاتب مصري