انتهت الدورة الرابعة للبافتا العربية في لندن هذا العام بتميز ملحوظ عن السنوات السابقة إن لجهة الندوات الخاصة بالسينما العربية وتصوير الأفلام العربية في العالم العربي، أو لجهة الأفلام. وكانت تظاهرة الأفلام الوثائقية التي عرضت في اليوم الأخير، حجر المهرجان لهذا العام، فقد قُدمت صورة قريبة عن الأوضاع الداخلية في أربع مناطق عربية هي: العراق ولبنان وسورية وفلسطين. عرضت موضوعاً عن الصراع العربي - الإسرائيلي من خلال فيلم عمر أميرالاي"صحن السردين"، وهو اقدم الأفلام المعروضة. ثم فيلمين فلسطينيين قصيرين جداً، لم يكونا كافيين لإعطاء صورة عن السينما الوثائقية في فلسطين. الفيلمان هما:"ولعرب حيفا رسالة خاصة"لرازي نجار، ثم"عالم آخر على بعد 15 دقيقة"لإيناس مظفر. وقدمت الأفلام العراقية الوثائقية القصيرة رؤية للمشهد العراقي بعد حرب 2003 بأبعاده السياسية الأمنية والاجتماعية. في فيلم"شمعة لمقهى الشابندر"لعماد علي، احتفائية بمكان يعود تأسيسه الى فترة ما قبل استقلال العراق. ولأنه يقع بالقرب من رئاسة الوزراء ووزارة العدل والبرلمان، فقد شهد حضور كثير من الوجوه السياسية، حتى ان رئيس الوزراء السابق نوري السعيد كان ينزل من سيارته ويلتفت الى المقهى ليحيى بعض من يعرفهم فيه. كذلك مرت أمامه عشرات التظاهرات الطالبية والسياسية سنوات"ما قبل حكم البعث". صاحب المقهى المثقف شاهد عيان على تاريخ العراق وليس على بغداد فقط، ومرجع لبعض البرامج التلفزيونية والتحقيقات الصحافية، خصوصاً ان المقهى مزدحم بالصور الفوتوغرافية القديمة واللوحات الفنية المعلقة على جدرانه. لكن المقهى لم يكن بمنأى عما يدور في العراق من أحداث عنف، فهو يطل على شارع المتنبي حيث بسطات الكتب بقديمها وجديدها. انه عالم يضج بالحياة المدنية أو ما تبقى منها، استهدفه الإرهاب بانفجار سيارة أودت بحياة الكثيرين وليس بالأبنية فقط عام 2007. لقطات للشارع بعد الانفجار من خلال شريط بالأبيض والأسود، ومن بين الضحايا ابن صاحب المقهى، إضافة الى الأحفاد الأربعة ولقطات من العزاء. ويتابع فيلم"غريب في بلده"لحسنين الهاني، يوميات إحدى ضحايا التهجير القسري الذي مورس داخل العراق بسبب التعصب الطائفي. كان الرجل يعيش مع عائلته الصغيرة في كركوك قبل ان يستلم تهديداً من مجموعة إرهابية تطالبه بالمغادرة. هو يعرف ان الموضوع لا علاقة له بسنّة أو بشيعة، بل بجماعات إرهابية. ولأن لا بيت آخر لديه في العراق، فقد أقام في مخيم عشوائي على حواف مدينة كربلاء ضمن 38 عائلة أخرى مهجرة. ويمر الشريط على الحركة اليومية في هذه المدينة التي تعد مركزاً دينياً للشيعة: حركة الحجيج والأضرحة والتسوق. والمهجر يبيع من أغراضه الشخصية ليشتري دلة قهوة ويصير بائعاً متجولاً يبيع القهوة في مركز المدينة، بانتظار حل جذري لوضعه هو وغيره بعد مرور سنة وثلاثة اشهر على التهجير. أما فيلم"دكتور نبيل"لأحمد جبار فيلقي الضوء على معاناة الجسم الطبي في مواجهة الوضع الصحي المتردي في العراق، في ظل غياب الكادر الطبي الكافي لنزوح عدد كبير منهم خارج العراق، واستهداف الأطباء بالاغتيالات. هناك أيضاً الأدوات الطبية التقليدية وعدم توافر المال لشراء معدّات جديدة، ومحدودية سيارات الإسعاف:"واحدة لا تشتغل والثانية لا تخرج بأكثر من ثلاث مهمات بسبب ضغط نفقات البنزين". من دون ان ننسى الأوضاع الأمنية وصعوبة الوصول الى المستشفى، بل مخاطر الوصول أحياناً. الدكتور نبيل يقرأ الأدب في أوقات فراغه القليلة، فاز مرة بجائزة القصة القصيرة ثم أخذه تخصصه الجراحي الى عالم الواقع بعيداً من خيال الكتابة. وفي شهادته في الفيلم تصوير لمدى الإحباط الذي يمكن ان يتعرض له طبيب في هذه الظروف، انه يعمل في ظروف لا إنسانية، وهو شاهد على ما يحدث في بلاده ومكلف إنقاذ ضحايا الإرهاب والخطف والتعذيب. الخاص والعام المخرج برهم الزهيري وجد أقرب موضوع اليه في ظل الظروف الصعبة التي لا تساعده كثيراً على التحرك في بغداد، ان يوثق لقرار عائلته مغادرة العراق. الأب كان صائغاً استهدفه الإرهاب فأغلق المحل وعاد الى بيته. وبعد ان كان فناناً يصمم بيديه قطع الحلي ويشتغلها، تحول الى بائع بقالة في غرفة اقتطعها من مبنى المنزل. الكاميرا تتابع اختفاء قطع أثاث البيت وهي تنقل قطعة بعد الأخرى بسبب بيعها للجيران استعداداً للسفر. وتتابع تحميل السيارة وخروجها عبر الحدود السورية والأخطار التي تعرضت لها العائلة على أيدي مسلحين مقنّعين اعترضوا طريقها مستفسرين بخشونة عن سبب السفر ومحاسبة الأم على عدم ارتدائها الحجاب غير معترفين بغطاء رأسها الحالي. هذا الجزء تحكيه العائلة بعد تخطيها مرحلة الخطر ووصولها الى سورية. الأفلام التي عرضت هي من إنتاج معهد السينما للفيلم والتلفزيون في بغداد، وقد اختتمت العروض العراقية بشريط آخر يحكي تجربة هذه المجموعة من الشباب الذين التحقوا بالدورة بإشراف قاسم عبد المخرج المقيم في بريطانيا منذ سنوات وخريج موسكو. روى كل منهم كيف بدأت فكرة شريطه والإزعاجات التي تعرض لها بسبب الأوضاع غير المستقرة والخطرة في اغلب الأحيان، وأدت الى تغيير الخطة أو إبدالها بغيرها. البعض تلقى تهديدات تحولت الى أفعال بسبب النبش في بعض القضايا. المبنى الذي يقع فيه المعهد انفجرت قربه سيارة مفخخة، كذلك خطف اكثر من شخص من العاملين فيه. بهذا قرر المعهد وقف الدراسة والبحث عن مكان في سورية لاستقبال الطلبة. نتغاضى عن حقيقة ان الدراسة الأكاديمية بإشراف اثنين من المخرجين العراقيين المقيمين أساساً في بريطانيا، ساعدت على تجاوز العقبات على ارض الواقع، واستحق الجميع تحية للبانوراما الفيلمية التي تحققت للجمهور خارج العراق. ضمن سياق المشهد العراقي، كان هناك اختراق أكثر تفاؤلاً من جانب المخرجة الوثائقية اللبنانية كاتيا صالح في شريطها المعنون"حلاق الموصل"الذي تتابع فيه أحلام شاب يعمل حلاقاً في مدينة الموصل شمال العراق ويحلم بالغناء، فيتقدم للاشتراك ببرنامج السوبر ستار. يتابع الفيلم سفر الشاب ووصوله الى بيروت فتفاجئه المدينة الصاخبة التي تعيش على إيقاع العالم الحديث، هو الذي يحلم بالسهر ليلاً بعد ان حرمته ظروف العراق من هذه البهجة. ولكاتيا صالح فيلم آخر في المهرجان عنوانه"عاشوراء: دماء وجمالية"، صورت فيه المخرجة على مدى سنوات مشاهد من الطقوس الشيعية إحياءً لذكرى مقتل الحسين في مدينة النبطية في الجنوب اللبناني. والفكرة الجميلة التي قدمتها المخرجة، هي ان الوجه الآخر لتلك الدماء التي نُزفت جرّاء طقوس تستعيد ألم الحسين الشهيد، طقوس اجتماعية نشأت عبر السنين حولت المناسبة الى فرصة للقاء الشبان والفتيات للتعارف والزواج. يتم ذلك في مدينة لا توجد فيها دور سينما أو مقاهٍ أو أماكن ترفيه. فتكون تلك الذكرى الدينية التي تستذكر الموت متنفساً اجتماعياً يحمل معه فرص حياة جديدة. الفيلم فيه بعض التكرار في الفكرة والمشاهد، تشفع له مقاربة غير تقليدية للحدث. حارسة الماء الفيلم الإماراتي"حارسة الماء"لوليد الشحي الفائز بجائزة المهر الفضي في مهرجان دبي الأخير، عرض في المهرجان وهو نتيجة تعاون مع كاتب السيناريو أحمد سالمين، بعد سلسلة أفلام أخرى قصيرة أنجزاها معاً. الفيلم مدته 11 دقيقة ويتناول قضية رمزية هي شح الماء في قرية نائية بعيدة من الحضارة الحديثة. الفيلم بحسب مخرجه"كتب اعتماداً على الطقوس المصاحبة لولادة الإنسان أينما كان، ثم تطورت الفكرة نحو استخدام ثيمة الماء كونه إحدى الثيمات المقدسة عند الشعوب، والمرتبطة بالشعائر الدينية المختلفة". غير ان غواية الفكرة وبحثها عن الحضور الشعري والميثولوجي للماء، وربطها في الفيلم بحالة استعداد أم الطفلة للولادة، حولت الفيلم الى مجموعة اسقاطات رمزية، بدا فيها الجانب البصري المنفذ بالكاميرا اقرب الى لوحات فنية عالية المستوى، لكنها ضاعت وسط تشوش الفكرة. كما ان إعطاء صوت السرد لطفلة صغيرة وهي تحكي كلام الكبار المحمّل بالحكم عن دلالات الماء والحياة بدا غير متسق مع طفولتها، خصوصاً مع صمت بقية الشخصيات تماماً. إضافة الى ذلك، كانت الموسيقى المصاحبة غريبة عن أجواء مكان العمل الذي هو قرية ما في الخليج بحسب ملابس شخوص العمل، لكن الموسيقى بدت كأنها من تراث شعوب بعيدة. كنا نتمنى لو ان الفيلم ركز على خيط محدد يقود الى الواقع، كشح المياه في قرية محلية لتبدو مقولة الفيلم اكثر وضوحاً، حتى لو تم ربطها بتداعيات حضور الماء في الحياة. على أي حال يبدو من تنفيذ الفيلم اننا أمام مخرج شاب مهموم بالناحية البصرية لفيلمه وهو عنصر أساس في السرد السينمائي.