أربعة رؤساء حكومات إسرائيلية سبقوا إيهود اولمرت الى مفاوضات سلام مع سورية انتهت جميعها بطي الملف من دون التوصل الى اتفاق، في حين برزت خلافات داخل المؤسسة الإسرائيلية، العسكرية والسياسية في مقابل تأكيد رؤساء الحكومات المفاوضين، بدءاً من اسحق رابين عام 1992 وحتى إيهود باراك مروراً بشمعون بيريس وبنيامين نتنياهو، ان إسرائيل ستكون مضطرة الى تقديم تنازلات مؤلمة. ومصطلح التنازلات المؤلمة يكرره اليوم إيهود اولمرت ليتحول الى عنوان مقارنة بين ما ينوي تقديمه للسوريين وبين عملية الانسحاب من قطاع غزة. قبل محاولة قراءة السيناريوات المطروحة أمام مفاوضات السلام لا بد من التأكيد على بعض نقاط شهدتها المفاوضات مع سورية في عهد رؤساء الحكومات السابقين، رابين وبيريس ونتنياهو وباراك. الجانب الأول وربما يكون الأكثر تأثيراً في حسم هذا الملف هو خلاف القيادات السياسية والعسكرية المتعاقبة بين مؤيدة للسلام، انطلاقاً من أن سلاماً مع سورية هو فرصة تاريخية لإسرائيل لها تبعاتها على الأوضاع السياسية والأمنية في المنطقة، وبين رافضة للسلام باعتبار أن الشرط الذي ترتكز عليه دمشق وترفض التنازل عنه يعتمد على انسحاب من الجولان السوري المحتل حتى حدود 1967. المعسكر الداعم للسلام يعتبر الاتفاق إنجازاً سيؤدي الى إضعاف ما يطلقون عليه"محور الشر"الذي يشمل إيران و"حزب الله"و"حماس"وسورية، ويشكل جبهة تهدد أمن إسرائيل. ولعل المؤشر الأول في هذا الجانب تمثل بالتصريح الذي نقلته صحيفة"جيروزاليم بوست"عن أحد قادة"حماس"في غزة أن قيادة الحركة تبحث في إمكان نقل مكاتبها من سورية الى طهران وبأنها ترى ان"حماس"ستكون المتضرر الأول من أي اتفاق سلام بين إسرائيل وسورية إذ ستضطر دمشق الى اتخاذ قرار يقضي بفض العلاقة مع قيادة الحركة. الأصوات الراغبة بسلام مع سورية تعالت مع الإعلان عن بدء المفاوضات الحالية، خصوصاً في أعقاب الأحداث الأخيرة التي شهدها لبنان وأجمع في شأنها الإسرائيليون ان المواجهات ومن ثم الاتفاق عكسا قوة"حزب الله"وقدراته العسكرية الحقيقية التي طالما حذرت منها إسرائيل. والحسابات الإسرائيلية حول سلام مع سورية على الجبهة الشمالية، تختلط في كل مرة تطرح فيها مسألة المفاوضات، فالإسرائيليون على قناعة بأن سورية تشكل معبراً تتدفق منه أسلحة"حزب الله"وصواريخه القصيرة والبعيدة المدى لاستخدامها في مواجهة إسرائيل. ومع الاتفاق على سلام مع سورية ستكون دمشق مضطرة لاحترام بنوده التي ستشمل شروطاً تتعلق ب"حزب الله"وتهدف منها إسرائيل الى تجفيف هذه العلاقة. وللملف الفلسطيني أيضاً حسابات لدى هذا المعسكر. فخلال المحاولات السابقة للاتفاق مع سورية كان داعمو السلام على قناعة بأن اتفاقاً كهذا سيشكل ضغطاً على الفلسطينيين، الذين سيصبحون وحيدين في المعركة، فيقدمون تنازلات الى إسرائيل في مجالات: القدس، اللاجئون والمناطق الاستيطانية وغيرها. أما المعسكر الرافض للسلام مع سورية فيرى ان اتفاقاً كهذا يعني التنازل عن الجولان، أي المنطقة التي يعتبرونها موقعا استراتيجياً واقتصادياً مهماً والتنازل عنها يعني التنازل عن أمن إسرائيل. وفي ظل هذه التجاذبات التي شهدتها محاولات الاتفاق مع سورية واستمرت منذ عام 1992 ولغاية 2001، توصل رؤساء الحكومات الى اتفاقات في مجالات عدة. رابين توصل الى شبه اتفاق مع سورية لكنه جمّد الموضوع السوري بسبب اتفاقات أوسلو. نتانياهو عاد وفتح الملف السوري مفضّلاً إياه على الملف الفلسطيني، وتوصل الى مسودة اتفاق مع دمشق بواسطة رجل الأعمال الأميركي رون لاودر في شهر آب أغسطس 1998. وتراجع نتانياهو في اللحظة الأخيرة بسبب خوفه من ردود الفعل. فجاء باراك وحاول هو أيضاً فتح الملف السوري والتقدم به. لكنه تراجع في اللحظة الأخيرة وعاد الى الملف الفلسطيني. وجاء شارون ليغلق هذا الملف تماماً معلناً رفض كل الدعوات السورية في هذا الاتجاه. إغلاق الملف لم يلغ المبادئ التي تفاهم عليها الطرفان السوري والإسرائيلي وابرزها: 1- الانسحاب من هضبة الجولان وإعادتها الى السيادة السورية. 2- ضمانات أمنية متبادلة بين إسرائيل وسورية. وعليه تقرر أن يتم نزع السلاح في المنطقة الممتدة من غرب دمشق الى شرق صفد، لتعادل المنطقة السورية المنزوعة السلاح مرة ونصف المرة مثيلتها في إسرائيل ومن ضمنها منطقة طالبت إسرائيل بها لأنها احتلت على أيدي القوات السورية عام 1949، لكن، أيضاً حول هذه القضية، بدا هناك إمكان تفاهم. 3- المنطقة الثالثة شمال شرقي بحيرة طبريا، وهي الأصعب. فبحسب الحدود الدولية التي رسمت عام 1923، لا توجد لسورية أية صلة بالبحيرة، لكن، بحسب حدود 1967، فإن لسورية حقاً في نحو 18 في المئة من البحيرة. وهي تطالب ليس فقط بأن تكون لها صلة بها، بل أيضاً أن يكون لها حق في المياه التي تستغلها إسرائيل كمصدر أساس للشرب والزراعة. وطرحت حلول سميت ب"الإبداعية"لتسوية هذه النزاعات، مثل التعامل مع منطقة الشاطئ الشرقي من بحيرة طبريا مثلما يتم التعامل مع طابا المصرية، أي أن تكون خاضعة للسيادة السورية ولكن من دون جيش. ويحق للإسرائيليين دخولها من دون تأشيرة دخول. اسبوعان فترة كافية للاتفاق "كل شيء بات متفقاً عليه"هكذا يرى الرئيس السابق لحزب"ميرتس"يوسي بيلين. ووجهة النظر هذه يؤكد عليها أكثر من طرف مطلع على ملف المفاوضات، وربما ينطلق البعض أيضاً من أن اولمرت سيوافق على أن تبدأ المفاوضات من النقطة التي انتهت إليها عام 2001. كما أن الأصوات التي تحدثت عن"وديعة رابين"التي كان قد قدمها الأخير الى الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، عبر وزير الخارجية الأميركي، وارن كريستوفر، تدرك ان القضايا التي بحثت سابقاً باتت جاهزة في مسودة الاتفاق. من وجهة نظر يوسي بيلين، الذي كان نائب وزير في حكومة رابين وشريكاً أساسياً في ملفات التفاوض فإن اسبوعين من المفاوضات فترة كافية للتوصل الى اتفاق. ويفسر بيلين إعلان ايهود اولمرت بضرورة سرية المفاوضات وإدارتها بعيداً من الإعلام بالقول:"إن السر الأكثر كتماناً هو حقيقة أنه لا توجد عملياً حاجة الى المفاوضات، بل الى فتح ملف شبردستاون والى شجاعة سياسية". وبيلين كالكثير من المحللين والخبراء على قناعة أن النسبة العالية من الإسرائيليين المعارضين للانسحاب من الجولان سرعان ما ستتراجع مع الإعلان عن التوصل الى اتفاق يبعث الطمانينة لدى الإسرائيليين. وفي هذا المجال يقول بيلين:"العواطف تجاه الجولان ستنقلب في اللحظة التي سيحصل فيها اتفاق مع سورية تماماً كما كان الوضع في الاتفاق حول شبه جزيرة سيناء قبل اتفاقات كامب ديفيد إذ عارض الاتفاق قبل التوصل إليه سبعون في المئة من الإسرائيليين ولكن سبعين في المئة أيدوه بعد نشر تفاصيله". وبرأي بيلين فإن الإسرائيليين المعارضين لهذا الاتفاق حالياً سيغيرون موقفهم في اللحظة التي يفهمون أن مثل هذا الاتفاق سينهي الإحساس بالحصار على إسرائيل، وأنه سيكون بوسعهم السفر بسياراتهم شمالاً عبر سورية وتركيا الى قلب أوروبا، وهم سيفهمون أن الحديث يدور هنا عن تغيير إقليمي، وليس فقط عن تنازل عن مكان جميل في مقابل قطعة ورق. ويرى بيلين أن تخوف الإسرائيليين من وصول السوريين الى بحيرة طبريا للسباحة هو تفكير صبياني ويقول:"الميزة الاستراتيجية الهائلة للسلام مع سورية لا يمكن قياسها بالإحساس غير المريح بأن السوريين يمكنهم أن يصلوا الى البحيرة، مثلما فعلوا قبل حرب الأيام الستة". ومن بين ما يطرحه المطلعون على الملف السوري منذ أكثر من خمسة عشر عاماً أن الاتفاق الذي قد يتوصل إليه طرفا التفاوض سيوجد وضعية لبحيرة طبريا شبيهة بوضعية طابا اليوم، إذ يمكن للإسرائيليين التجول حولها من دون تأشيرة دخول، على رغم أن السيادة عليها ستكون لسورية. أما المستوطنات في الهضبة فستخلى، فيما الاتفاق على توزيع المياه سيضمن عدم المس بمياه إسرائيل. ويدرك الإسرائيليون تماماً أن سورية لن تقبل بسلام من دون الجولان، وأبرز هؤلاء، ايتان هابر المدير السابق لمكتب اسحق رابين والذي شارك في المفاوضات مع سورية، ويقول:"الرئيس السوري لن يقبل التوقيع على سلام مع إسرائيل من دون الانسحاب حتى آخر سنتمتر من ارض الجولان. وبرأيه فإن هذه المفاوضات ستحرز إنجازات كبيرة يكون تطبيق الانسحاب فيها شبيهاً بما حدث في سيناء وقطاع غزة". ويقول:"صباح يوم قريب سينهض الإسرائيليون، وعلى رأسهم مستوطنو الجولان، على وقع بيان دراماتيكي يبشرهم بما قد يحصل تماماً، كما حصل مع بيغن ومع رابين وشارون في فك الارتباط عن غزة". وينطلق هابر بتوقعاته هذه من حديث كان شاهداً عليه بين قائد مصري واسحق رابين عندما أوضح المصري انه لا يمكن للأسد أن يتنازل عن سنتمتر واحد في الجولان لأنه سيسأل حينئذ من الملايين وعن حق: لماذا انتظرتم 30 سنة بعد السلام مع مصر حتى تحصلوا على أقل مما حصل عليه المصريون؟ ويرد هابر على هذه التساؤلات بالقول:"أي قائد عربي اليوم لا يستطيع أن يسمح لنفسه بالحصول على ما هو أقل من الكل. لا يمكن لأي قائد عربي أن يقبل بأقل من متر واحد مما حصل عليه أنور السادات في 1979". والإسرائيليون من مؤيدين ومعارضين على قناعة بأن سلاماً مع سورية من دون فك الشراكة مع"حزب الله"وإيران سيضر بإسرائيل. وبرأي مدير المفاوضات مع سورية عام 1991، يوسي بن اهرون، فإن الرئيس بشار الأسد سيكمل طريق والده، ويقول:"بفضل مدريد والمفاوضات مع إسرائيل، نجح حافظ الأسد في الحفاظ على مكانته في الغرب، على رغم سيطرته على لبنان وتأييده"الإرهاب"الفلسطيني، والحلف الذي كان له مع الاتحاد السوفياتي"، على حد تعبير بن اهرون، الذي يضيف:"منذ ذلك الوقت تعمقت جداً علاقات سورية مع إيران، التي حلت محل الاتحاد السوفياتي، وبالتوازي تعاظمت عزلة سورية بسبب الدور السلبي الذي تقوم به في لبنان وفي العراق". ومن وجهة نظر بن اهرون فإن الأسد نجح حتى الآن بتحقيق إنجازات كبيرة في مقابل خسارة إسرائيل، إذ ان المفاوضات مع إسرائيل تساعده على إعادة بناء شرعية في بلاده ومن دون دفع أي ثمن، وفي المقابل دفعت إسرائيل ثمناً مزدوجاً، إذ وافقت على مفاوضات غير مباشرة بينما في مدريد أجرت مفاوضات مباشرة، وفي مقابل دخولها الى مفاوضات مع سورية لم تنفذ الأخيرة أية خطوات تبعدها عن دورها المركزي في"محور الشر". وإذا كان بن اهرون يعتبر هذه النقاط إنجازات لسورية فإن الباحث في معهد الأمن القومي في جامعة حيفا، دان شيفتان، يرى أن مفاوضات سلام مع سورية تساعد دمشق على القيام بخطوات اكثر تطرفاً من اليوم إذ يمكنها القيام بخطوات علنية نفذتها على مدار سنوات طويلة في شكل سري وفي مقدمها دعم"حزب الله"وتزويده بالأسلحة وتطوير برنامجها النووي. وأما على الصعيد الإقليمي فيرى شيفتان أن مفاوضات سلام مع سورية ستساهم في عرقلة عملية استقلال لبنان إذ أن الاحتمال بأن تبتعد سورية عن إيران و"حزب الله"و"حماس"ضئيل جداً. ومن وجهة نظر شيفتان فإن سورية رغبت في المفاوضات مع إسرائيل لتحقيق أهداف كبيرة لها، مع إدراكها ان مثل هذه المفاوضات قد لا تحرز نتائج. وبرأيه أن سورية تنظر الى سيطرتها على لبنان كخطوة حيوية لأمنها القومي، ولضمان هذا الأمن تسعى الى أيجاد توازن داخلي في لبنان بين"حزب الله"والموالاة من سنة ومسيحيين ودروز وبالتالي سيكون من الصعب رؤية لبنان في المستقبل، دولة مستقلة وبناءة". ويحذر شيفتان إسرائيل ورئيس الحكومة ايهود اولمرت، من المقارنة بين المفاوضات التي حصلت مع الأردن ومصر والمفاوضات التي تجري اليوم مع سورية ويقول:"الأسد ليس الملك حسين ولا ابنه عبدالله وليس أيضاً مصر أنور السادات ولا حسني مبارك. الأسد هو ياسر عرفات وخالد مشعل والأسد هو إيران الخميني وأحمدي نجاد وهو عراق صدام حسين". تؤثر هذه الأصوات، المؤيدة والمعارضة للسلام مع سورية في الرأي العام لكن الأساس يبقى وضعية اولمرت. فهل هو قادر على إدارة مفاوضات مصيرية في الوقت الذي تتسع المطالبة بإسقاطه بسبب التحقيقات حول قضايا الرشوة والفساد؟ يحاول اولمرت التظاهر بالصمود والقوة. ويوحي للخارج انه مستعد اكثر من أي وقت مضى للتفاوض توصلاً الى اتفاق سلام. ليس مع سورية فحسب، بل أيضاً مع السلطة الفلسطينية وحتى مع"حماس"حول التهدئة وتبادل الأسرى و"حزب الله"حول الأسرى. ولكن أي إنجاز يحققه في اي جبهة من هذه الجبهات، سيكون بمثابة مكسب كبير له في معركته مع خصومه الساعين الى إسقاطه. فاولمرت يبني حساباته على النحو التالي: إذا حققت السلام، سيكون صعباً إسقاطي. ولكن، إذا نجحوا في إسقاطي، فسأخرج من مكتبي ليس بورقة لائحة اتهام بل بورقة مدون عليها اتفاق سلام. وصحيح أن اتفاق سلام كهذا، سيكون بمثابة حبر على ورق، يصعب تنفيذه، ولكن، ورقة كهذه، ستكون في كل الأحوال وثيقة تاريخية يصعب تجاهلها. فإذا كانت وديعة رابين عبارة عن وعد شفهي لم يكتب على ورق، ومع ذلك فهي مطروحة على جدول كل مفاوضات، فإن ورقة اولمرت ستكون أقوى من وديعة رابين، حتى لو لم تنفذ في زمنه. وهذا بالضبط ما يخشاه خصوم اولمرت. لذلك، يسعون اليوم الى إسقاطه في أسرع وقت، قبل أن يحرز أي مكسب في المفاوضات.