تتقاسم لندن وباريس أشد المعارض اثارة وغرابة هذا الموسم: تخرج حشود وجحافل تماثيله الفخارية للمرة الأولى من حدود الصين بسبب قيمتها الاستثنائية. فبعد أن انتهى المعرض الأول في المتحف البريطاني وعنوانه:"محاربو الفخار في خدمة الإمبراطور الأول"، بدأ الثاني منذ منتصف نيسان ابريل مستمراً حتى منتصف ايلول سبتمبر من العام 2008 في متحف بيناكوتيك في ساحة فاندوم الباريسية وتحت عنوان"جيش الأبدية". يمثل المعرض جزءاً كبيراً من كنوز مدينة المحاربين، وهي تماثيل الفخار المشوي التي تسكن باطن الأرض منذ أكثر من 2000 عام. اكتشفت متأخرة بالصدفة بواسطة محراث فلاح عام 1974، هي الحفرة الأساسية من مجموعة لا يعرف عددها تقارب 600 حفرة منتشرة على مساحة 50 كيلومتراً في منطقة شانسكي القريبة من مدينة"اكسي آن". المدينة أنشأها مؤسس امبراطورية الصين كين شهناو غندي وحملت اسمه، حكم ما بين 221 و210 قبل الميلاد، واضعاً تقاليد المؤسسات والنظم والقوانين التي عُمل بمعظمها على مر قرون. وبدأ بناء جدار الصين العظيم ليجابه هجمات البرابرة الرحّل من شعوب السهوب المتاخمة، والتي تتناسل عند أصولها قبائل المغول. وكلف أكثر من 20 ألفاً من الفنانين بالسخرة لسنوات مديدة من أجل نحتها. كان يعتقد بأن الصورة الفنية التي تعكس طبقات السلطة العسكرية الحاكمة تُحيل الواقع الى معنى قدسي أبدي. لذلك تعتبر ذات كمون سحري هائل لا يقل عن الفن الفرعوني، سميت بالمعجزة الثامنة التي أضيفت الى عجائب الأرض السبع. ويُعتبر أكبر مدفن نحتي في تاريخ الفن حتى الآن. مرور القرون دفن الأطلال تحت الأرض. يبلغ عدد تماثيل المحاربين بالقياس الطبيعي اكثر من تسعة آلاف، اضافة الى 360 حصاناً. تغور هذه الكنوز حتى عمق 150 متراً وتصل مساحة الموقع الأثري الى ما يقرب من 20 ألفاً من الأمتار المربعة. يرتدي كل محارب الزي الذي يناسب رتبته العسكرية، هناك مثلاً 6 آلاف من المشاة صُفّوا بطريقة العرض العسكري في 38 صفاً تفصل بينها جدران مسقوفة بالخشب، ثم فريق الفرسان مع 160 عربة، تجر كل واحدة منها أربعة أحصنة، يقابلهم 200 من رماة الأسهم بوضع القرفصاء والتأهب مع أسلحتهم، ثم غرفة القيادة في حفرة خاصة تعانق 68 ضابطاً مع مساعديهم بعضهم نُحت من البرونز، ثم القصر الملكي بما يحتويه من جنائن وحيوانات وغيرها. تحافظ هذه الجماهير على سكينة فنية سرمدية تجعل أصول عبقرية النحت موازية لتفوق تاريخ الصين في مجال"الرولوات"الحريرية التي تصوّر المناظر وفق العقيدة الطاوية. لا شك في أن المعرض يمثل اجتياحاً فنياً جديداً لسلطة الفلسفة الروحية المتفوقة في تقاليد صناعة الفخّار والبرونز وسواها، هي التي تتسم بواقعية سحرية تصل حساسيتها حتى اليوم في انتشار رواسب هذه الأساليب في مزادات وعروض"ما بعد الحداثة"، أو بالأحرى ما بعد التحول الاقتصادي الفني في مستوردات الصناعة الصينية الى اقتصاد السوق العالمي الحر، والتنافس الخطر مع أوروبا والولايات المتحدة في مجال تصدير هذا التفوّق، وشراكة الأغنياء الجدد في تطويع المزادات، ناهيك عن رخص اليد الفنية العاملة على رغم تفوقها وتفوق تقاليدها الفنية الواقعية. هو المعرض الثاني بعد معرض"رولوات"مناظر القرن الرابع عشر الذي يمثل خروج الفن الصيني من سُباته وازدهار صحته خصوصاً أمام منافسه الياباني، ليضع ذاكرة هذا التفوق الصناعي في مساحة الضوء، كواقع لم يعد في الإمكان تجاهل سطوته ونفوذه الثقافي العالمي والعولمي في آن واحد، وقد تتفوق فنية هذا النحت وروحانيته بانفجاره السكاني على أهميته الأثرية والتوثيقية.