يقف الناس حول التمثال وسط القاعة الكبرى في متحف "تيت غاليري" للفن الحديث في لندن… يدورون حوله، يرغبون في لمسه فيرون اشارة كبرى تنبه ان ذلك ممنوع. التمثال على شكل امرأة جالسة من حجر بني عليه علامات لمس سابقة. ثم يحوّلون نظرات حانية الى تمثال ضخم لامرأة جالسة. السطح ناتيء وخشن، جسم مستدير من البرونز اما الرأس فصغير كأنه لمخلوق غريب. المشاهدون كانوا وفداً في زيارة للمتحف في مئوية هنري مور التي يجري الاحتفال بها في بريطانيا هذا الاسبوع بمعارض وندوات وأنشطة للطلبة. وسط كل هذا، تواجه اعمال الفنان اعادة نظر، وتتعرض مكانته العالمية في النحت الى التقييم، وسمعته الفنية تحت المحك. لا خلاف ان اعماله تثير رد فعل بين الجمهور والمهتمين، قد يكون سريعاً قوياً في البداية، ثم لا يلبث ان يضيع تأثيره ويتلاشى. تماثيل مور تشعل النظر بهيئتها، وتظل محدودة في مواضيعها، منتظرة اكتشاف المزيد. هذا الانتظار مساحة قلما يعود اليها المشاهدون. قوة التمثال تنبعث من الداخل، وكأنها هي التي تحدد هيئته ومظهره. سعى مور منذ بدايته الى ان يعيد للنحت تربته الاصلية التي ضاعت في زمن الصفاء والمثالية. لقد حدد موقفه في الاربعينات عنمدا كتب يقول ان تماثيل الفن الساذج تحمل لغة عالمية مشتركة: "لقد اقتبس الفن الاغريقي والروماني من الفن الزنجي والفرعوني حيوية ضاعت في طريقها الى الكمال". اعمال هذا الفنان تقدم، على اختلاف احجالامها، درجات متفاوتة من الخشونة والليونة. هدف النحات ان يجعل الناس يلمسون القطعة بنظراتهم فيشعرون بالتناقضات فيها، يشعرون بالتباين من الصلابة الى النعومة، ثم العكس. في متحف "تيت غاليري" يتخيل الناس انهم يلمسون القطع ويمرون بأيديهم فوقها… كما يفعلون في معرض النحات الكبير في حديقة "هادهام" حيث كان يعيش حتى وفاته في العام 1986. درس مور الفن في معهد مدينة ليدز قبل ان يلتحق بالكلية الملكية للفن في لندن. ركز في الفترة التي عاش فيها في باريس على دراسة سيزان، وبعد عودته الى لندن تابع اهتمامه بفنون الحضارات القديمة. وهنا ترسخت رؤيته في المجتمع بين عناصر عدة مستقاة من مصر القديمة واميركا اللاتينية، اعتبرها اساس التعبير الحقيقي في النحت. ولم يكن ينقصه آنذاك غير الطريقة التي يتم بها التوصيل بين تلك الاساليب واقتباسها، وهذه جاءت من دراسته انتاج عصر النهضة في ايطاليا. ومع انه شارك في المعرض السوريالي الدولي في العام 1936، فانه لم يكن ينتمي الى مدرسة معينة. كان يتحدث او يكتب عن اعماله من دون ان يضعها في نطاق نظرية خاصة. تحول من الحفر الى صناعة القوالب بعد ان اشتد الطلب على تماثيله من طرف المؤسسات الكبرى، فجعل البرونز معدنه المفضل. كبرت التماثيل في احجامها، لكنها ظلت متصلة بالطبيعة، بالانسان، بالبيئة التي توجد فيها… ظل اهتمامه الشديد بالشكل البشري مرتبطاً بتجربته كفنان رسمي للحرب، حيث اشتهر برسوم اجسام الناس المتراكمة في انفاق القطار هرباً من غارات الطائرات النازية. جانب من اعماله يظل جزئياً، مأسوياً. على رغم الجمال الظاهر… ليست فيه طمأنينة على رغم رقته كما في مجموعة تماثيل العائلة والأم والطفل. لعل غموضها يأتي ايضاً من تماثيل الحضارات القديمة التي محت يد الزمن معالمها. في اعماله نوع من التوافق، لكن التشوه يظل له تأثير خاص. لقد ترك الفنان ما يزيد عن 11660 قطعة بين تمثال ورسم، تدير قسماً منها مؤسسة هنري مور التي اقامها في حياته لتشرف على انتاجه الضخم بعد ان وصلت مستحقات الضريبة عليه الى اكثر من مليون جنيه استرليني. وهي تقوم الآن بمساعدة الفنانين، وتنظيم المعارض، واعطاء المنح الدراسية. اما الانتقادات الموجهة الى فنه فهي ان نتاجه - خصوصاً في فترة شهرته - انقاد نحو التجارة، فنقص اهتمامه بالجودة، وحلت مكانها الضخامة، في حين ظلت افكار اعماله محدودة بين الشكل الجالس او المستلقي. وكره نقاد آخرون رؤية تماثيله أمام البنوك وشركات التأمين. يتحلق زوار المتحف حول تمثال المرأة الجالسة، يبدو كأنه على وشك الحركة… طاقة داخلية هي التي تشكل هيئة المرأة: منظرها كأنه مجمد في لحظة زمنية قصيرة، تلك التي تحدث قبل اتخاذ اي قرار.