القرار الذي اتخذه الرئيس الأميركي جورج بوش بترشيح الجنرال ديفيد بيتريوس قائد القوات الأميركية في العراق قائداً للقيادة المركزية هو نقلة أخيرة للرئيس على رقعة الشطرنج الخاصة بالحرب على العراق، فالأحداث التي تلت احتلال بغداد في 9 نيسان ابريل 2003 كانت بالنسبة الى إدارته بمثابة تسونامي ابتلع كل خياراته على مدى خمس سنوات ولم يترك له الكثير لوقف التدهور والمحافظة على الأمن الى حين تسلم الرئيس الأميركي الجديد زمام الأمور. هذا الموقف يذكرني بحرب الخليج الأولى عام 1981، ففي الأسابيع الأولى من الحرب توافد على بغداد عدد من رؤساء الدول العربية والإسلامية عارضين وساطتهم لوقف الحرب، إلا أنهم واجهوا شروطاً صعبة تمسك بها صدام حسين. وبعد ثماني سنوات عجاف من القتال الدامي الذي أتى على الأخضر واليابس في كل من العراقوإيران توقفت الحرب فجأة، فإذا بصدام يعلن للعالم انتصاره في الحرب من دون أن يتحقق شرط واحد من شروطه الصعبة التي كان متمسكاً بها يوم بدأت الحرب. لقد كان التعنت الإيراني سبباً في جعل هدف صدام في الحرب وقف الحرب. وها هو جورج بوش اليوم يواجه الموقف نفسه الذي واجهه صدام حسين قبل ربع قرن. أهداف بوش التي أعلنها قبيل الاحتلال لم تتحقق، فهل سيحاول أن يحقق نصراً في بضعة أشهر عجز عن تحقيقه في خمس سنوات عجاف؟ أم ان الانسحاب الأميركي المشرف من العراق صار هو الهدف؟ تشير الدلائل الى أن بوش سيبذل قصارى جهده لتحقيق شيء ما في العراق يمكن أن يطلق عليه نصراً قبل انتهاء ولايته، وأن تعيين ديفيد بيتريوس خلفاً لويليام فالون هو خطوة على هذا الطريق، على رغم أن إجراء تغيير في القيادات العسكرية العليا في خضم الأزمات لا يعتبر ظاهرة صحية. لقد أفرزت الحرب على العراق ضمن ما أفرزته من قضايا شائكة مسألة في غاية الأهمية بالنسبة الى دولة عظمى كالولايات المتحدة وهي وجود عدم اقتناع لدى بعض القادة العسكريين الكبار بالسياسة التي تتبعها الإدارة الأميركية في المنطقة بعد احتلال العراق. فالجيش الأميركي برأيهم حقق نجاحاً سريعاً عام 2003 بأقل ما يمكن من الخسائر، إلا أن الجنود الأميركيين ظلوا منذ ذلك الحين حتى اليوم يدفعون حياتهم ثمناً لأخطاء يرتكبها الساسة في إدارتهم للعراق ما أدى الى أن يفقد هذا النجاح بريقه. إن هذا دفع بوش الى اختيار قائد لا يؤمن بسياسة الإدارة الأميركية في العراق وهو الجنرال بتريوس الذي أثبت انسجامه التام مع تلك السياسة من خلال تقاريره التي عرضها شخصياً أمام الكونغرس أكثر من مرة والتي اعتبرها الجمهوريون في حينه بمثابة سفينة نجاة يمكن التشبث بها أمام الديموقراطيين للمضي قدماً في تنفيذ سياسة بوش في العراق. الجنرال بيتريوس صاحب خبرة وتجربة في العراق، وقد عرف عنه تنديده الصريح بالتدخل الإيراني المباشر في الشؤون العراقية، خصوصاً ما يتعلق بتدريب الميليشيات الموالية لإران وتزويدها بالأسلحة والمتفجرات والصواريخ التي تطلق على المنطقة الخضراء والقواعد الأميركية، وقد أعطى ذلك انطباعاً لدى البعض أن ترشيحه لمنصب قائد القيادة المركزية يعني تزايد احتمالات القيام بعمل عسكري ضد إيران. قد يكون بيتريوس ليس من دعاة الحرب ضد إيران، إلا أنه حتماً لن يعترض إذا ما طلب منه القيام بعمل ما في هذا المجال، مع الأخذ في الاعتبار الموقف غير المريح في أفغانستان. الفارق بين فالون وبيتريوس هو أن الادميرال كانت له وجهة نظر تخالف تطلعات الإدارة الأميركية في المنطقة بما فيها إيران، وهو رأي توصل اليه نتيجة تقديره للموقف كقائد عسكري وليس كسياسي، وأن ولاءه للإدارة السياسية وطاعته للأوامر العليا لم يقفا حائلاً دون إبداء وجهة نظره كقائد عسكري مسؤول، ولهذا قدم استقالته. هذا الموقف يحسب لمصلحة بوش وليس ضده. مهمة بيتريوس الجديدة ليست سهلة، خصوصاً بعد وضع عبء أفغانستان على عاتقه إضافة الى العراق، أما مهمة خلفه في بغداد الجنرال ريموند اوديرنو فهي صعبة أيضاً، ان الانسجام التام بين الاثنين نتيجة عملهما سوية لفترة طويلة سيكون في مصلحة الثاني، إلا أن مشكلته هي أن لديه وقتاً قصيراً لتحقيق شيء كبير، ولغرض إنجاز ذلك عليه التأكد أن تقديره للموقف في العراق يكون مبنياً على حقائق وليس تمنيات، لأن الأشهر القليلة المقبلة ستكون حاسمة لجميع الأطراف المشاركة في لعبة الشطرنج. صباح علي غالب - عميد ركن متقاعد في الجيش العراقي - بريد إلكتروني