إن لم تكن لوحة فرانشيسكو غويا "كلب عالق وسط الرمال" واحدة من آخر اللوحات التي رسمها في حياته، ذلك انه أنجزها في وقت كان لا يزال أمامه 5 سنوات يعيشها، فإن هذه اللوحة رسمت خلال فترة من حياة رسام اسبانيا الأشهر، عرف فيها كل أنواع الألم واليأس والمعاناة. ولم تكن مصادفة أن تأتي هذه اللوحة على رغم انها لا تحمل أهوالاً ضخمة ظاهرة ضمن إطار لوحات مرحلته السوداء التي امتلأت بالوحوش وظلال الموت والكائنات الخرافية المرعبة. والغريب في أمر غويا، انه جعل معظم تلك اللوحات السوداء، ديكوراً لغرف بيته الضخم الذي كان أكمل بناءه بفضل ما جنى من أموال خلال حقب سابقة، بعد أن اشتراه في شكله الأول. ونعرف طبعاً من خلال سيرة غويا، انه أصيب بالمرض، الذي سيقضي عليه خلال أقل من عشر سنوات، فور شرائه البيت، ما جعله من ناحية يعتقد بأنه كان شؤماً عليه، ويتمسك به من ناحية ثانية باعتباره ثروة حياته. وفي عودة الى لوحة"كلب عالق وسط الرمال"التي كان غويا رسمها بالألوان الزيتية فوق مسطح من الجص، نذكر انها نقلت لاحقاً بألوانها الى سطح قماشي، وهي معلقة اليوم في متحف البرادو. إذا كان غويا قد عبّر عن نفسه وعن جوانيّة هذه النفس في معظم اللوحات السوداء، فإن ما يمكن قوله هنا، هو ان هذه اللوحة، في تفسير سيكولوجي عميق لها، تكاد تكون"بورتريه ذاتية"، في معنى ان الرسام، إنما اراد أن يعبر، من خلال موقع الكلب ومصيره في اللوحة، عن الصورة التي كان بدأ يرى بها نفسه. ومن هنا أتت ذاتية جداً وطأة الفراغ الذي يشغل معظم الجزء الأعلى من اللوحة، وكذلك أتى ذاتياً جداً ذلك"السجن"الرملي الذي يبدو واضحاً انه يكبل حركة الكلب الذي لا نرى منه في اللوحة سوى رأسه الحائر ونظرته القلقة وبالتالي خوفه المرعب من الضياع. في الحقيقة تبدو شديدة الغرابة هذه اللوحة في منطق الفن التشكيلي كما كان سائداً منذ أقدم العصور، وحتى العام الذي رسم فيه غويا هذه اللوحة. إذ لم يسبق أبداً لرسام إن استثنينا لوحة أو لوحتين للألماني كاسبار دافيد فردريش، أبرزهما"كاهن قرب البحر"1808-1810 -، ان جعل الفراغ يهيمن على معظم مسطح اللوحة. بعد ذلك نعرف أيضاً ان رسامين كثراً، من تورنر الى ريتكو، رسموا الفراغ وأحياناً لا شيء غير الفراغ. غير أن في الزمن الذي رسم فيه غويا هذه اللوحة كان الأمر مدهشاً. فرأس الكلب، الذي هو موضوع اللوحة أولاً وأخيراً، يكاد لا يحتل سوى 1 في المئة من سطح اللوحة، التي قسمها الفنان قسمين: الأسفل مغمور باللون الأسود يصور الرمال، والأعلى تنويع على البني والأبيض والأصفر والقرميدي، يمثل ما يبدو انه ما تبقى من مشهد سماء تعصف بها عاصفة رملية مهددة. ومن اللافت هنا ان السماء التي تبدو ملبّدة بالغيوم، لدى فردريش قبل غويا، ولدى تورنر بعد غويا - ولا سيما في اللوحات البحرية ? تصبح لدى الرسام الاسباني كتلة لونية غامضة، ليس لها من وظيفة سوى إظهار العزلة القصوى التي يعيش فيها الكلب. انها عزلة راديكالية ? بحسب تعبير أحد النقاد -، يبدو واضحاً ان لا مهرب منها. وهو وضوح تكشفه نظرة الكلب الذي، بدلاً من أن تكون نظرته موجهة في اتجاه من يرسم اللوحة، أو لاحقاً يتفرج عليه، تنطلق الى الأعلى في صلاة يائسة أو في استنجاد لا أمل له... أو ربما تسبر أغوار العاصفة الآتية، التي ستضع حداً للعزلة والضياع بالموت. إذاً، ما لدينا هنا هو رأس الكلب ونظرته. أما الباقي فألوان يبدو ان لا غاية لها... وفراغ يبدو أن لا أحد سيشغله عما قريب. وإذا كنا نقول ان ما من رسام آخر، لا بعد غويا ولا قبله بالطبع، جعل للفراغ هذا الشكل المجسد ألواناً في لوحة من اللوحات، فإن علينا أن نقول أيضاً وهذا هو المهم ان ما من رسام عرف كيف يجعل الفراغ في لوحته، عنصراً بصرياً. ثم عرف كيف يجعل عنصر الانتظار غائباً تماماً. ذلك أن لسان حال الكلب هنا، استبق بأكثر من قرن عبارة"في انتظار غودو"لبيكيت: لا شيء يحدث لا أحد يجيء! مهما يكن، ما كان من شأن أحد أن يتوقع من غويا في ذلك الحين أن يرسم شيئاً آخر. فهو، عام 1819، وبعدما كان شُفي من مرض أفقده سمعه، وجد نفسه في الثالثة والسبعين من عمره، منساقاً، وربما في شكل تلقائي، سيُسرّ به السورياليون كثيراً بعد ذلك بمئة عام، الى رسم عناصر ومواضيع، كان من الواضح ان المرض والصمم قد فجّراها لديه، من دون أن ندعي انها لم تكن موجودة ولكن كجزء خفي من عمله فقط من قبل وخلال مراحل متنوعة من حياته. المسألة هي أن غويا، الذي كان منذ بدايته شديد الذاتية، مملوء الرأس والخيال بكل أنواع الأشباح والآلام، لم يكن في وسعه، بعد أن تحول باكراً الى رسام ناجح، يرسم لوحات يوصيه بها الآخرون ولا سيما في البلاط، لم يكن في وسعه أن يدمج أحلامه وكوابيسه، البصرية غالباً، في لوحات ترسم للآخرين. لهذا كان يمرر أجزاء ضئيلة منها هنا وهناك، مختزناً الباقي في أفكاره وفي اناه الداخلية، مراكماً المزيد من الأحلام والكوابيس. وهكذا، حين انتقل من سن الكهولة الى الشيخوخة، وضرب المرض سمعه موقفاً إياه عند حافة الموت، رأى انه بات عليه أخيراً ان يفرغ كوابيسه في أعمال يرسمها لنفسه، ويعبر فيها بالتالي عن نفسه، حتى حين تكون أصلاً معبّرة عن أساطير قديمة. كان واضحاً بالنسبة اليه أن هذه اللوحات إنما هي كتابته المواربة لسيرته الذاتية. وفي هذا الإطار تحديداً تأتي لوحة"كلب عالق وسط الرمال"نوعاً من"التوقيع"على تلك المجموعة من"اللوحات السوداء". ومن هنا أتت، بالنسبة الى غويا، حتمية أن يكون المكان المثالي لوجود هذه اللوحات جدران بيته. أما اللوحات في مجموعها، فإنها تكاد تروي لنا نظرة غويا الى الناس الذين حوله، أو الذين عرفهم سابقاً، فرأى فيهم وفي تصرفاتهم وأخلاقهم ما يشبه تجسيداً للشر الذي كان قرأ قبل ذلك كثيراً عنه، ولا سيما في الكتب المقدسة، وخصوصاً"كتاب طوبيا"الذي كان لا يفارق يديه. والحقيقة ان هذا الكتاب كان واسع الشهرة في اسبانيا القرن السابع عشر، ولدى الفنانين بخاصة، حيث بالاستناد اليه، والى رواية اقتبست موضوعه، رسمت صورة الشيطان الفاسد المفسد. وهكذا انطلاقاً من تجربته الشخصية ومن"كتاب طوبيا"ومن الصورة الشعبية للشيطان، رسم غويا على جدران بيته صورة العالم كما بات يسمح لنفسه بأن يراه: خلاء لا معنى له، وفخاً لا نجاة منه، سواء أتى ذلك من خلال مشهد رجلين يقتتلان بالعصي حتى الموت وقد غمرت الرمال أقدامهما، وتهدد بالارتفاع حتى تدفنهما معاً، أو من خلال"ساتورن يأكل ابنه"... أو من خلال اللوحة التي نتحدث عنها هنا. لوحة"كلب عالق وسط الرمال"التي يبلغ عرضها 80 سم، وارتفاعها 134 سم، رسمت بين العامين 1820 و1823، وهي كانت واحدة من آخر لوحات المجموعة، إذ فور انتهاء غويا من رسمها، كانت الأوضاع السياسية قد تدهورت بعد أن ساعد الفرنسيون الحزب الليبرالي على إلحاق الهزيمة بالملك فرديناند السابع، الذي كان غويا قد وقف مؤيداً له في السابق. وهكذا، بهزيمة الملك شعر غويا ان القمع قد يطاوله، فسلّم البيت الى حفيده ماريانو ثم هرب متنقلاً من مكان الى آخر، في شكل لم يعد قادراً على توفير المكان والزمان له كي يرسم أكثر وأكثر. ومن هنا باتت نادرة لوحاته الجديدة خلال تلك السنوات، التي زاد فيها مرضه الطين بلة. غير ان هذا ويا للغرابة! - لم يمنعه خلال تلك السنوات من أن يرسم بورتريه شديدة الطرافة لنفسه "بورتريه مع قبعة عالية"- 1826، وكذلك لم يمنعه من أن يرسم عام 1827، وهو على وشك الموت لوحته الرائعة"مرضعة بوردو"1827، التي أتت آخر لوحة رسمها غويا 1746-1828، لامرأة، مشرقة وضّاءة، بل حتى تضج بالحيوية والأمل... [email protected]