دول العالم عيونها على النفط، هذا السائل الساحر ذو القوة والنفوذ، الذي يتركز في مساحة جغرافية محدودة في هذا العالم الفسيح، هي بالطبع منطقة الخليج العربي، التي احتفظت بسيطرتها النفطية في الاحتياطي النفطي وفي الإنتاج والتصدير وعلى مدى أكثر من أربعة عقود، ويبدو انها ستستمر صاحبة اليد الطولى لعقود مقبلة، وفي عالم يزداد عطشه الى الذهب الأسود يوماً بعد يوم، واندلعت من أجله الحروب والصراعات، ومن أجله سفكت الدماء واحتلت دول! وعلى رغم ما قيل وملأ الآفاق حول نفط بحر قزوين وأنه سيصبح البديل المقبل لنفط الخليج العربي، يبقى نفط بحر قزوين، الذي يتراوح احتياطيه مابين 40 و50 بليون برميل، قزماً أمام احتياطي نفطي مؤكد في الخليج يبلغ حوالي 730 بليون برميل، وينتظر ان تجود أرض المنطقة ومياهها بأكثر من هذا الرقم، حيث يتوقع أن تتم اكتشافات أخرى في المستقبل المنظور! وإذا كان الصراع تمحور قبل عام 1973 وبعده حول نفط الخليج العربي واستراتيجيته، فإن الدول الكبرى تبحث عن النفط في كل مكان حتى ولو كان في الثريا فكل قطرة من النفط تعادل قطرة من الدم، كما قال كليمنصو في مطلع القرن الماضي، واصفاً الدور المهم للنفط في الحرب! انطلاقاً من هذه الأهمية امتدت وتيرة الصراع الدولي بين الدول الكبرى الى القارة السمراء التي يعشش في معظم دولها ثالوث الفقر والجهل والمرض، وأنهكتها غوائل الحروب الأهلية، من صنع بعض أهلها وبتدخلات خارجية! هذه القارة المترامية الأطراف، التي استضافت إحدى عواصمها، داكار، القمة الإسلامية، وحضرتها 57 دولة وافتتحت أعمالها نهار الجمعة 14 الشهر الجاري، تفيض بالخيرات الوفيرة من الذهب الأسود والأصفر والألماس والحديد وغيرها من الخيرات الكثيرة التي لا تحصى، الامر الذي جعلها معترك صراع على النفوذ بين الدول الكبرى. رائحة النفط أجّجت بالفعل الصراع لتقاسم النفوذ على أرض أفريقيا بين الولاياتالمتحدة الأميركية وبعض الدول الأوروبية والصين وغيرها، للفوز بالنفط والموارد الأخرى، وطبعاً الموقع الاستراتيجي! وفي آسيا، أصاب الطمع النفطي أميركا بجنون البقر، فاحتلت أفغانستان لتطل على بحر قزوين، وجاءت بسرعة الى العراق لتحتله كي تسيطر على احتياطي يقدر ب115 بليون برميل من النفط وموقع استراتيجي في قلب الدول العربية والشرق الأوسط. وإذا كان هدف أميركا الرئيسي من احتلالها لأفغانستانوالعراق هو النفط، فإن الهدف نفسه ينطبق على تحركاتها في أفريقيا، فمنذ عام 2002 أسست إدارة بوش قوات تدخل سريعة في قاعدة ليمونية في جيبوتي، تلك القاعدة التي ورثتها من فرنسا، التي يقارب عدد جنودها الفين ويزيد بوتيرة متسارعة، وتعد نقطة الارتكاز التي تتحرك منها الإدارة الأميركية لبسط نفوذها على أفريقيا من أجل أمن النفط! هذا السعي وراء نفط القارة السمراء الذي تعتبر بعض دولها غنية به يؤكد اهتمام البيت الأبيض بأمن الطاقة في كل أنحاء العالم. فمثلاً يبلغ احتياطي ليبيا النفطي حوالي 40 بليون برميل ونيجيريا 36 بليوناً، والجزائر 12 بليوناً، والسودان 6 بلايين ونصف بليون، ومصر 4 بلايين برميل. وهناك دول افريقية أخرى غنية بالنفط منها موريتانيا، غانا، غينيا، سيراليون، ليبيريا وغيرها، ما يجعل احتياطيات أفريقيا من النفط تبلغ حوالي 115 بليون برميل، وهو ما يعادل احتياطي العراق الذي هجمت عليه الإدارة الأميركية العطشة للنفط بصقورها وحمائمها واحتلته جهاراً نهاراً! وهذا يعني أن نصيب القارة السمراء من الاحتياطي النفطي المؤكد، يقدر بحوالي 9 في المئة بل ان افريقيا مرشحة لزيادة احتياطيها النفطي، فقد تجود بأكثر من هذه النسبة من النفط الذي يحتمل اكتشافه في المستقبل. من هنا يبرز للعيان سبب التمدد الأميركي على رغم ان الإدارة الأميركية ترفع شعار اهتمامها بالمساعدات الإنسانية، ونشر الديموقراطية والحرية ومكافحة الإرهاب، لكن الأمر في حقيقته لا يعدو كونه تخطيطاً مدروساً لدعم استراتيجية امن الولاياتالمتحدة في الطاقة، باعتبار ان الشعب الأميركي يستهلك حوالي 25 في المئة من إجمالي استهلاك النفط عالمياً. إذا تتضح أهمية افريكوم الوجود العسكري الأميركي تحت مظلة القيادة العسكرية الأفريقية - الأميركية، فالنفط هو أساس إنشائها مهما تعددت التبريرات والأسباب المضللة التي تطلقها الإدارة الأميركية حول أسباب تكوينها! وإذا كان الرئيس الأميركي وعد شعبه في خطاب الاتحاد عام 2006، بأن بلاده ستضع الخطط والاستراتيجيات لخفض استيرادها من نفط الشرق الأوسط بنسبة 75 في المئة، فإن هذا لا يتعدى كونه شعاراً سياسياً وحملة دعاية إعلامية! لكن السيد الرئيس بوش لا ينسى القارة الغنية حتى وان كان نفطها باحتياطيه المؤكد في دولها لا يزيد كثيراً على احتياطي حقل عملاق من حقول الخليج العربي كحقل الفوار. وليست الساحة الأفريقية المفتوحة الأبواب حكراً على النفوذ الأميركي السيئ الحظ في تلك القارة، حيث تلقى ضربات قاسية في مقديشو عام 1993، وها هي الإدارة الأميركية ترى وكيلها الأثيوبي يغرق في وحل الصومال، ليسجل فشلاً ذريعاً آخر للتدخل الأميركي المباشر أو عبر وكيل إقليمي، وأصبح هذا الوكيل الذي ورطته أميركا وان كانت له أجندته وحساباته الخاصة في الصومال، يبحث عن طوق نجاة يحفظ ماء الوجه لمغادرة ذلك البلد! ومما يزيد غضب أميركا ويدفعها الى مزيد من التدخل في القارة السمراء، أنها أصبحت ترى النفوذ الصيني يتسع بهدوء بعيداً عن الضجيج الإعلامي، وبعيداً عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول وفرض إرادة القوة، معتمداً على نشر فلسفته الاقتصادية والتبادل التجاري مع دول القارة، ففرض وجوده، بل وفرض إعادة تقسيم النفوذ. فالصين تدخل كشريك يحقق المكاسب من دون فرض القوة والاستعمار، وقدمت الصين نفسها للأفارقة تحت شعار المصلحة للجميع، وبالفعل دخلت القارة البكر من بوابتها الواسعة، وأصبح لها وجود قوي ومدروس في أكثر من عشرين دولة! بهذا فإن الصين بسياستها الهادئة أصبحت شريكاً رئيساً لدول افريقية عدة، بل ان كثيراً من الدول تنظر إليها كحليف ينأى بنفسه عن التدخل في الشؤون الداخلية، واهم أهدافه رفع سقف التبادل التجاري والتعاون الاقتصادي، الذي يقدر حالياً بحوالي 42 بليون دولار وهو في تصاعد مستمر سنة بعد أخرى. كما ان الصين أخذت تدخل في مشاريع عملاقة في التنقيب والاستكشاف عن النفط والغاز لحاجة الصين الى الطاقة، في ظل اقتصاد صيني ينمو سريعاً ويحتاج للنفط والغاز من الخليج العربي وأفريقيا وغيرهما، لذا تتبنى الصين ديبلوماسية وعلاقات تركز على أمن الطاقة والتبادل التجاري شرقاً وغرباً، وسجلت نجاحات كبيرة خصوصاً على الأرض الأفريقية. من هنا نجد ان بعض الدول الأفريقية التي عرفت منذ عقود بعلاقاتها الوطيدة مع الولاياتالمتحدة وأوروبا لم تتوان عن الدخول مع الصين في تشييد مشاريع عملاقة في ميدان البترول والغاز، فتوطد وجود الشركات الصينية في هذا المجال، ومنها شركة النفط الوطنية الصينية التي دخلت في استثمارات ضخمة بدءاً من السودان وانتهاء بإثيوبيا، فالصينيون في كل مكان في القارة الغنية ومنتجاتهم في الأسواق هناك تلبي حاجات المستهلك، بأسعار زهيدة لا تستطيع المنتجات الأميركية والأوروبية منافستها. بل ان النفوذ الصيني دق أبواب دول نفطية مهمة أعضاء في منظمة اوبك كالجزائر وليبيا ونيجيريا، فقد امتدت اذرع شركة النفط الوطنية الصينية الى تلك الدول وغيرها مثل ساحل العاجوتشادوموريتانيا وأنغولا والغابون وكينيا بحثاً عن النفط والغاز! إذاً، أصبحت للصين قاعدة صلبة شيدتها مع معظم دول القارة، وأقامتها على اعتبارها صديقاً لا يطمح الى الاستعمار وإملاء الإرادة، بقدر حاجته الى توثيق علاقات نفطية واقتصادية وتجارية، أساسها تبادل المصالح وتؤمن لجمهورية الصين حاجتها من الطاقة، وتسمح للدول الأخرى باستخراج ثرواتها والاستفادة من مواردها في تنمية مستدامة. ولا شك ان الفرنسيين - أصحاب الخبرة الطويلة في القارة السمراء بدورهم الاستعماري - يسعون الى الفوز بحصة في تلك الكعكة الدسمة وسط هذا الصراع الشرس على اقتسام النفوذ والسيطرة! واذا كانت قاعدتهم في جيبوتي أصبحت في قبضة أصدقائهم الأميركيين، فإن قاعدة فرنسا في تشاد لا تزال تعمل وهم يسعون لدعم وجودهم وحماية مصالحهم في القارة، ولا يتأخر البريطانيون عن الركب، وان كانت الولاياتالمتحدةوالصين تعمقان علاقاتهما ونفوذهما يوماً بعد آخر على حساب كل من بريطانياوفرنسا الى حد كبير! وعلى كل فإن القارة السمراء التي تعد بكراً لم تستغل ثرواتها بعد، يزداد بريق كنوزها، ومنها ذهبها الذي تعتبر جنوب أفريقيا أكبر المنتجين والمصدرين له عالمياً، وتتناثر الثروات من ذهب والماس وكل المعادن الثمينة هنا وهناك في جنبات القارة، ناهيك عن النفط والغاز، وهذا يثير لعاب الطامعين ويزكي الصراع على تقاسم النفوذ بين الكبار الولاياتالمتحدة وأوروبا والصين وروسيا وغيرها. لكن نفط افريقيا ونفط بحر قزوين وبحر الشمال كلها مجتمعة وغيرها لن تستطيع منافسة النفط الخليجي باحتياطيه وإنتاجه السحري، فهو رئة العالم الرئيسية، وسيبقى إلى زمن يعلمه الله! واذا كان سعر النفط قد كسر عتبة 112 دولاراً للبرميل فإن مفتاح خفض الإنتاج او رفعه، بل وسيناريو الأسعار سيبقى مرتبطاً بنفط الخليج العربي، وهذا تدركه الدول الصناعية المستهلك الرئيسية للنفط وفي مقدمها الولاياتالمتحدة والتي إدراكاً منها لهذه الحقيقة بعثت نائب رئيسها ديك تشيني في زيارة الى المنطقة فزار عمان والعاصمة السعودية الرياض الأسبوع الماضي طالباً المساعدة من اجل استقرار أسعار النفط، بحكم ان السعودية اكبر منتج ومصدر للنفط عالمياً. المهم ان الصراع على النفط هو صراع من أجل الحياة"ويا روح ما بعدك روح"كما يقول المثل. انه صراع الفيلة في عنفه وقوته لا تساوم فيه ولا حلول وسطاً، اما قاتل أو مقتول. وهذا الصراع على أرض أفريقيا من أجل الطاقة وأمنها سيرسم مستقبل هذا السباق المحموم الذي يشبه سباق الجياد العربية الأصيلة للفوز بجائزة هذا السباق الشرس! * مفكر سعودي - رئيس مركز الخليج العربي للطاقة والدراسات الإستراتيجية