خالد بلقاسم، الباحث والناقد المغربي، يقدم نفسه دائماً كواحد من المحللين الأساسيين للشعر، الحريصين على"حماية العمق". وهو في عمليه السابقين"أدونيس والخطاب الصوفي"دار توبقال2000، وپ"الكتابة والتصوف عند ابن عربي"دار توبقال2004، يكشف عن صورة محلل قلق، يستهدي بحس منهجي رفيع، وبضوء معرفي، يزاوج ، بنوع من التركيب، بين توجهات الشعرية النقدية وبين حدوس الصوفية ومقترحات فلاسفة الشعر والأدب، وخصوصاً أعمال هايدغر وموريس بلانشو، من دون ان ننسى تأملات كاتب استثنائي هو خورخي لويس بورخيس. في دراسته الجديدة"الكتابة وإعادة الكتابة في الشعر المغربي المعاصر"منشورات وزارة الثقافة - الرباط 2007، نجد الخلفية النظرية ذاتها وقد استجمعت عناصرها، من دون أن تفقد حس التشعب الذي يفرضه المتن، لبناء ومواجهة إشكالية جديدة تتعلق بمفهوم الكتابة وإعادة الكتابة في الشعر المغربي المعاصر. وبقدر ما كشفت هذه المقاربة عن ثراء تحليلي، يتصل ببناء الخطاب والدلالة في هذا الشعر، بقدر ما لفتت الانتباه إلى أن الشعر المغربي المعاصر، ما زال يستعجل زمن دراسته والبحث في بنياته، خارج حجب النقد الصحافي المتعجل، والقراءات العاشقة التي تعلي المتعة فوق خطاب المعرفة، عوض أن تزاوج بينهما صوناً لروح الشعر وعمقه. تتقيد دراسة خالد بلقاسم بمبدأ مقاربة تجارب في الشعر المغربي على نحو مستقل، بحيث تنطلق من رصد"نطفة"ثيماتية في قصيدة أو ديوان شاعر، ثم تلاحق نموها وتحولاتها في تجربته، في شكل يكشف أثرها في بناء الخطاب الشعري، كما يكشف حدود وعي الممارسة النصية بتجربة الكتابة، باعتبارها، في العمق، تجربة في إعادة الكتابة لنصوص ذاتية أو غيرية، أو لنصوص الحياة ذاتها، على نحو جعل من سؤال الكتابة، ليس فقط سؤال النظرية، بل أيضاً سؤال النص الشعري، الذي يبدد في داخله نظريته الشعرية الخاصة. تقارب دراسة خالد بلقاسم خمس تجارب شعرية مغربية، لشعراء يُحسبون نقدياً على"جيل"السبعينات، وهو ما جعل الدراسة تتوزع على خمسة فصول، تُستهل بمقدمة تصف وضعية نقد الشعر في المغرب، وتعلن عن المشروع النقدي في الكتاب، الذي سينفتح لاحقاً، في جزء ثان، على تجارب شعرية مغربية أخرى، لتوسيع أفق المقاربة واختبار اشكاليتها في متن شعري أوسع. وانفتاح المشروع على كتاب قادم، هو ما جعل دراسة خالد بلقاسم ترجئ كتابة خلاصة نهائية للعمل. يتناول الفصل الأول"نهر الكتابة أو النزول إلى الذات"تجربة الشاعر محمد بنيس في ديوان"نهر بين جنازتين"، فيكشف، عبر تحليل نصي لقصيدة"بعيد"التي يُفتَتح بها الديوان، عن"الاستعارة الهيراقليطية"السارية في العمل ككل، والتي تتم"بنقل الماء من سيولته الطبيعية إلى سيولته الدلالية"ص13، من دون استبعاد ما يحف باستعارة النهر من دلالات اللانهائي، بما هو عمق وجوف وامتداد. ولعله اللانهائي الذي تكتبه تجربة محمد بنيس، من خلال رهانها على نهر متعدد، موصول بإيقاع الذات الكاتبة، هو نهر الزمن ونهر الذات ونهر الكتابة ونهر اللغة. تعدد يسم إعادة الكتابة، بما هي نهر، بالتباس للحدود بين الداخل والخارج، وبانتفاء للتكرار، لأن نهر الكتابة، شبيه بنهر هيراقليطس: لا يمكن أن نستحم فيه مرتين. وضمن هذه الاستعارة الهيراقليطية تُشَعب الذات الشاعرة، في نصها، علاقتها بذاتها، وبلغتها، عبر"آلية النزول"، الذي يرصد الباحث مقاماتِه ومتخيَّله، المتحصل عن توجه لِلاّنهائي، في ممارسة للكتابة"لا تنفصل عن مقروء الشاعر"ص32، حيث تتفاعل نصوص مهاجرة من ثقافات متعددة. لكنها ممارسة لم تخل من توتر جعل الاستعارة الهيراقليطية تقرن دفق اللغة العربية وحياتها بالكتابة، أما خارجها فهي تبقى مهددة بالاحتضار. يتناول الفصل الثاني"نواة البداية وأفق الامتداد"تجربة الشاعر محمد بنطلحة، فيتوقف عند قصيدة"أنساغ"كُتبت عام 1972 في ديوانه الأول"نشيد البجع"، مفترضاً أن هذه القصيدة، اعتباراً لسياقها التاريخي، تمثل"نطفة تجربة"تنطوي على"النواة الشعرية في كتابة بنطلحة"ص42، من منطلق وعيها بخصوصية النص الشعري، في علاقته بالواقع التاريخي والسياسي، على نحو فرض على المقاربة اختيار التوجه من الداخل إلى الخارج، بكيفية تؤمن لتلك النطفة حياتها. كما تؤمن للتجربة، وهي تتفتق وتنمو وتعيد الكتابة في قصائد أخرى، انتسابها للشعر وما ينادي عليه من عمق، على رغم الصراع القائم، في جملة من نصوص هذا الديوان، بين الوظيفة الشعرية والمرجعية، والذي لا ينتصر فيه الشعر إلا عندما يصدر عن غموض دلالي يرسخ انتسابه للكتابة. وهو ما تحقق في نصوص كثيرة هجست بقدرة الشاعر على تحويل الخارج إلى بناء شعري يلغي النمطية. لكن هذا الخارج، المجسد في الحدث السياسي، سيتراجع في أعمال الشاعر اللاحقة"غيمة أو حجر"وپ"سدوم"وپ"بعكس الماء"التي ستحتفي أكثر بالتداخل النصي، وبالصمت، بوصفهما من عناصر البناء. يتناول الفصل الثالث"الكتابة وبناء الدلالة"تجربة الشاعر أحمد بلبداوي، من خلال ديوانه"تفاعيل كانت تسهر تحت الخنصر"الذي يشكل مواصلة الشاعر، بعد ما يزيد على ثلاثة عقود، الاشتغال على الدال الخطي الذي يؤثث الفضاء النصي، كنوع من الرهان الرئيس على البَصَري. رهان لا يفصل عن البناء الذي يُترجم في علاقة الشاعر بالمعجم والتركيب وغيرهما من العناصر. وبعد تطواف تأويلي خصيب، يُعيد فيه المحلل، بفطنة نادرة، بناء المبدد عن قصد في التجربة، انتهى الباحث إلى أن ديوان أحمد بلبداوي"يرسي مفهوماً عميقاً للعتبة بناء على الخط"، لكنها عتبة محولة إلى مفهوم الوصل، الذي يسم العلاقة بين الداخل والخارج، بين المتن الشعري والحواشي، وهو ما انعكس أيضاً على بناء الدلالة التي تتشكل من داخل الضحك والألم والمفارقة والإصرار على التقريب بين الأضداد. يعرج الفصل الرابع"الكتابة في مواجهة الكتابة"على تجربة الشاعر المهدي أخريف، ليتوقف عند سمة نصية ودلالية، بالغة الأهمية، تتمثل في جعل"الكتابة موضوعاً لذاتها"ص108، وهي الممارسة التي دشنها الشاعر بقصيدة"زهرة لوز من بعيد"شمس أولى، 1995، لتشكل، بعد ذلك، تجربة ديوانين بكاملها، هما:"ضوضاء نبش في حواشي فجر"1998 وپ"في الثلث الخالي من البياض"2002، ففيهما معاً، تبني الذات مواجهتها لأهوال الكتابة وهشاشتها وقلقها انطلاقاً من"الحبر"مرة، وأخرى انطلاقاً من بياض الصفحة. وضمن هذه المواجهة كان الشاعر"يعثر على أشباهه سواء كان الأشباه سلالة نازلة من كتب غبراء، أو كان الأشباه وجوهاً للذات"ص142. وعبر ذلك كله، كان المهدي أخريف يرسي تجربة تسمح ب"إضاءة الكتابة من داخلها والانصات للشعر انطلاقاً من الشعر ذاته"ص152، معولاً بذلك على ادماج الشاعر في بناء التصورات. أما الفصل الخامس الأخير"الجسد بين آلية الإدماج والالتباس"فيُخصص لتجربة الشاعر محمد الأشعري، انطلاقاً من فرضية التحول الذي وسم هذه التجربة، اعتماد على وضعية الجسد، على مستوى دلالة الخطاب الشعري، كما على مستوى آلية اشتغاله. ويخلص الفصل إلى أن تجربة الجسد، في أعمال الشاعر السابقة عن ديوان "مائيات"استهدت بآلية الإدماج، التي جعلت هذا الجسد موجهاً من ارغامات السياسي والتاريخي في ثقافة حقبة الستينات والسبعينات. لكن هذا التوجيه، الذي لم يكن يحتفي بمجاهيل الجسد الأنثوي وطاقاته، كف عن الاشتغال في تجربة محمد الأشعري بدءاً من مجموعة"مائيات"1994، حيث سترتبط التجربة بآلية أخرى هي"الالتباس"، الذي جعل الذات الشاعرة تبني الدلالة انطلاقاً من جوف الايروسي، الذي يحافظ على السر، جوهر كل شعر يستحق اسمه. لا يقدم خالد بلقاسم، في هذا العمل، كتاباً في نقد الشعر وتحليله فقط، لكنه يقدم أيضاً كتاباً يعرض تصوراً ضمنياً لما ينبغي أن تقوم عليه المقاربة النقدية، في كتاب. وعلى امتداد الفصول يكشف خالد بلقاسم عن محاور عنيد للفرضيات الموجهة للنقاد ومتأملي الشعر، مع إنصات عميق لما تقول القصيدة وهي تتأمل ذاتها، ضمن وضعية تأليفية تجعل الشعر منطوياً على نظريته الخاصة.