في كتاب "ما هو الأدب؟" الذي يعتبر واحداً من أشهر الكتب غير الروائية أو المسرحية للكاتب والفيلسوف الفرنسي جان - بول سارتر، ينطلق الكاتب مبرراً وضعه الكتاب من أن"شاباً أحمق كتب يقول عني: اذا كنت تريد أن تلتزم، فماذا تنتظر كي تنضم الى الحزب الشيوعي". ويعطف سارتر على هذا ما قاله"كاتب كبير التزم في أدبه أحياناً كثيرة، ولم يلتزم كذلك في أكثر الأحيان، من أن شر الفنانين أكثرهم التزاماً... وخذوا مثلاً على هذا الرسامين السوفيات". إذاً، أمام مثل هذه الآراء والتصريحات كان لا بد لسارتر من أن يتدخل، خصوصاً ان هذا التدخل كان عام 1947، حيث كانت الحياة الثقافية الفرنسية، وربما العالمية أيضاً، ترهص بكل أنواع السجالات حول الأدب ووظيفته وعلاقته بالمجتمع، وحول مفاهيم مثل الأدب الملتزم والأدب المقاوم والأدب التقدمي وما الى ذلك من عبارات وأفكار، لحسن الحظ أنها تبدو الآن مع بدايات القرن الواحد والعشرين جزءاً من متاحف الماضي. غداة الحرب العالمية الثانية لم تكن الأمور كذلك، اذاً، ومن هنا كان لا بد لسارتر، الذي كان في قلب تلك الحياة بتوجهاته اليسارية وإضفائه طابعاً اجتماعياً لا لبس فيه على فلسفة وجودية كان كثر يرون أنها لا تحتمل مثل ذلك الإضفاء، لا بد له من وضع هذا الكتاب الذي نشره أول الأمر على حلقات في أعداد متلاحقة من مجلته"الأزمنة الحديثة"التي كان أسسها مع رفيقته سيمون دي بوفوار وآخرين، منبراً لتدخل الأدب في السياسة وفي أحوال المجتمع ككل. وكانت تلك المواقف قد قاربت بين سارتر ورفاقه من جهة، والفكر اليساري بما فيه الفكر الستاليني، الذي سيبرأ السارتريون منه ولو بعد حين من جهة أخرى، فقام شهر عسل بينهما كان واضحاً أنه أوجد الكثير من ضروب سوء التفاهم، التي سعى"ما هو الأدب؟"الى ازالتها في جوهره ورسالته. هذا النص الطويل والمهم لسارتر، سيكون هو نفسه، لاحقاً - أي عام 1951 - الذي سيشكل مع بعض التعديلات، السياسية خصوصاً، الجزء الثاني من سلسلة كتب سارتر النقدية التي عنونها"مواقف". أما قبل ذلك، فكانت لا تزال على شكل دراسات تتوزع على ثلاثة محاور رئيسة حمل كل منها عنوانه على شكل سؤال: ما معنى أن نكتب؟ لماذا الكتابة؟ وأخيراً لمن نكتب؟ ويتألف الكتاب بالتالي من اجابات سارتر المسهبة عن هذه الأسئلة، وهي على أي حال إجابات، أتت على عمقها استفزازية، لكنها عرفت كيف تكتسب أنصاراً كثراً في شتى أنحاء العالم، حيث ترجمت الى لغات كثيرة، من بينها العربية لاحقاً في ترجمة لا بأس بها للراحل محمد غنيمي هلال. ونقول"لا بأس بها"لأن المترجم، الى العمل الرائع في مجال إضافة تعريفات واستطرادات على الهامش، رأى لزاماً عليه في أماكن كثيرة من الكتاب أن يشرح ويعتذر ويبرر، اذ ان سارتر كان قد تحول، بين زمن تأليف الكتاب وزمن ترجمته الى"صهيوني معادٍ"بحسب الأدبيات العربية في ذلك الحين... لكن هذه حكاية أخرى! منذ البداية يفيدنا سارتر في هذا الكتاب ان الكتابة والقراءة"انما هما وجها فعل تاريخي واحد. أما الحرية التي يدعونا اليها الكاتب، فهي ليست مجرد وعي مجرد بحرية الكينونة أو بكون المرء حراً. الحرية، بالمعنى الحرفي للكلمة، ليست كينونة، بل هي أمر نمتلكه في موقف تاريخي معين: ان كل كتاب يقترح علينا تحرراً ملموساً انطلاقاً من اغتراب خاص... وبما ان حريتي الكاتب والقارئ تبحثان عن بعضهما بعضاً وتتقاطعان عبر العالم، يمكننا أن نقول، أيضاً، ان الاختيار الذي يذهب اليه الكاتب بصدد سمة من سمات العالم، هو الذي يفرض نفسه على القارئ. وفي المقابل يمكننا أن نقول أيضاً إن الكاتب، حين يختار قارئه يقرر موضوعه. ومن هنا أقول ان كل الكتب الفكرية انما تحتوي في داخلها على صورة القارئ الذي تتوجه اليه". في جوابه عن السؤال الأول"ما هي الكتابة؟"أو ما معنى ان نكتب، يسعى سارتر أول الأمر الى ابراز الفارق بين الأدب والفنون الأخرى كالموسيقى والرسم قائلاً ان"ملكوت الإشارات هو النثر، أما الشعر فإنه في خندق واحد مع الرسم والنحت والموسيقى"... مضيفاً هنا:"ان في امكاننا بكل سهولة أن ندرك مكمن الحماقة في الدعوة الى التزام في مجال الشعر". ويصل سارتر هنا الى نقطة أساس في منطقه، حين يطرح سؤالاً ويجيب عنه:"أي سمة من سمات العالم نريد أن نكشف؟ وأي تغيير نريد أن نحدثه في العالم من خلال هذا الكشف؟ ان الكاتب"الملتزم"يعرف أن الكلام فعل: انه يعرف أن الكشف يعني التغيير وان من غير الممكن للكاتب أن يكشف من دون أن يكون التغيير هدفاً له...". وفي الجواب الأكثر اسهاباً عن السؤال الثاني:"لماذا الكتابة؟"يورد سارتر مجموعة من الأفكار التي من الواضح انها لم تفقد أهميتها حتى اليوم. ومنها مثلاً أنه"يضاف الى يقيننا الداخلي بأننا كاشفون، يقيننا الآخر بأننا أصحاب موقف جوهري بالنسبة الى الشيء المكشوف"، حيث ان"واحداً من الدوافع الأساسية للإبداع الفني انما هو، بالتأكيد، الحاجة التي تدفعنا الى الشعور بأننا جوهريون بالنسبة الى العالم نفسه". وهنا يرى سارتر أن"الكاتب لا يتعين عليه السعي الى قلب الأمور جذرياً، وإلا لكان في تناقض مع نفسه، فهو إن أراد المطالبة بشيء عليه أن يكتفي فقط بالإيحاء بالمهمة التي يدعو الى القيام بها". وپ"من هنا طابع التمثيل الخالص الذي يبدو لنا أساسياً للعمل الفني: ان على القارئ أن يحوز شيئاً من المسافة الجمالية إزاء الشيء الحقيقي. وهذا هو ما خلط تيوفيل غوتييه بينه وبين مبدأ"الفن للفن"وسماه البارناسيون"حيادية الفنان". انه، في نهاية الأمر، مجرد فعل احترازي كان جان جينيه يطلق عليه صفة"تهذيب المؤلف في علاقته مع قارئه". وبهذا تكون"الكتابة، في الوقت نفسه كشف العالم ومن ثم اقتراحه كمهمة يقوم بها كرم القارئ وأريحيته"، وفي معنى أكثر فلسفية يقوم الأمر هنا في"اللجوء الى وعي الآخر، للتعرف الى الذات بصفتها جوهراً ازاء شمولية الكينونة، ومعنى هذا الرغبة في عيش هذا الجوهر بالواسطة، ولكن بما ان العالم الحقيقي من ناحية أخرى لا ينكشف إلا من طريق الفعل، وبما ان ليس في امكاننا استشعاره إلا عبر تجاوزه لتغييره، يبدو عالم الروائي مفتقراً دائماً الى الكثافة إن لم يكتشف في حركيته ليتم تجاوزه...". أما عن السؤال الثالث:"لمن يكتب الكاتب"، فإن سارتر يجيب:"للوهلة الأولى ليس في الأمر شك: ان الكاتب يكتب من أجل قارئ كوني. ولقد رأينا دائماً كيف أن حزم الكاتب يتجه، مبدئياً، الى الناس أجمعين"وپ"الكاتب، شاء أم أبى، ومهما كان من شأن تطلعه الى الأمجاد المستقبلية الأبدية، يكتب لمعاصريه ولمواطنيه، لأخوته في العرق والطبقة"."لقد قلنا ان الكاتب يتوجه، مبدئياً، الى كل الناس... لكننا على الفور تنبهنا الى انه لا يُقرأ في نهاية الأمر إلا من بعضهم. لذا نقول انه في الحيز الفاصل بين الجمهور المثالي والجمهور الحقيقي تولد فكرة الشمولية المطلقة... في معنى ان المؤلف ينادي بأن يكون ثمة تكرار متواصل في مستقبل غير محدود لقبضة القراء الذين يقرأونه في الحاضر". إن هذه الأفكار التي بات بعضها يبدو لنا بديهياً في هذا الزمن، كانت حين عبر عنها جان - بول سارتر 1905 - 1980 تبدو مثيرة للسجال، يساراً ويميناً. لكنها تدريجاً عرفت كيف تسلك طريقها وكيف تصبح أحياناً قواعد وقوانين للكتابة، حتى وان كان صاحب"الوجود والعدم"وپ"فلوبير أو ابله العائلة"وپ"مواقف"وپ"الجدار"وپ"نيكراسوف"وپ"الغثيان"وپ"الذباب"قد عاد ليعدلها مرات، ويتخلى عنها مرات أخرى، على هوى تبدلاته السياسية والإيديولوجية. [email protected]