ليس صدفة ان النقاد والباحثين في مجال المقارنة بين الفنون والآداب، حين يريدون الحديث عن ندرة الاقتباسات الأدبية التي اشتغلت جيداً على الشاشة الكبيرة، يذكرون في المقام الأول فيلم"الموت في البندقية"المأخوذ عن رواية توماس مان المعروفة بالاسم نفسه. وهم في مجال تأكيد كلامهم يعودون الى المؤرخين والنقاد السينمائيين الذين غالباً ما يذكرون هذا الفيلم بصفته مندمجاً في سينما فيسكونتي اكثر بكثير مما هو مندمج في أدب مان. بل ان ثمة من بين الباحثين من يقول ان هذه الرواية لدى مان لا تعتبر من أعماله الكبرى مقارنة ب"آل بودنبروك"أو"الجبل السحري"أو"دكتور فاوستوس"، لكنها إذ صارت فيلماً عند فيسكونتي صار ممكناً، وبقوة اعتبار الفيلم واحداً من أهم افلام فيسكونتي، ناهيك بكونه واحداً من أهم الأفلام في تاريخ السينما وأكثرها دلالة، ولا سيما في مجال فكري شغل بال فيسكونتي دائماً فجعله موضوعاً أساسياً في أفلامه الرئيسة: موضوع حلول الأزمان الجديدة بابتذاليتها محل الأزمان القديمة وأخلاقياتها وفنونها الراقية. ونحن نعرف طبعاً ان هذا هو الأساس الفكري الذي يُبنى عليه"الفهد"لفيسكونتي، و"الحس"ولاحقاً"الملعونون"و"لودفيغ"وصولاً الى"عنف وعاطفة". لكن هذا الأساس لم يكن في أي من أفلام فيسكونتي الأخرى على قوته في"الموت في البندقية"، والحقيقة ان المرء يجد نفسه متسائلاً بالتأكيد، حين يشاهد"الموت في البندقية"ويغوص في معانيه، كيف تمكن فيسكونتي من العثور على موضوعته هذه في أعمال أدباء آخرين معظم افلام فيسكونتي مأخوذة من أعمال أدبية سابقة الوجود على أفلمتها، ومن ثم تطويعها كي تدخل بقوة في سياق برنامجه الفكري؟ مع هذا، نعرف ان التعديلات التي أدخلها فيسكونتي وكتّاب السيناريو المشاركون له ? على نص مان لم تكن كثيرة. وكأن الرواية كانت هناك اصلاً، في انتظاره ليأخذها الى السينما. كل ما في الأمر ان فيسكونتي بدل شخصية آيشنباخ التي لعبها بروعة استثنائية ديرك بوغارد من كاتب الى موسيقي، علماً أن الشخصية لدى مان، كانت تبدو مستقاة مباشرة من شخصية الموسيقي غوستاف ماهلر، التي ستحضر في الفيلم، كشخصية صديق، كما ان ماهلر سيحضر بدوره من خلال استخدام فيسكونتي موسيقاه مقاطع من السيمفونيتين الثالثة والخامسة في بعض أجمل مشاهد الفيلم. اما في ما عدا هذا، فإن السياق هو نفسه والجو نفسه والمدينة نفسها والشخصيات نفسها. فما لدينا هنا، في الفيلم كما في الرواية، المبدع آيشنباخ وهو يزور مدينة البندقية، رمز الجمال المطلق، وقد تقدمت به السن والهموم، وبات يشعر بعدم القدرة على الإبداع، إذ بات يعوزه الإلهام، كما بات حانقاً على الأزمان الجديدة وفنونها الميكانيكية. صحيح ان آيشنباخ يعيش أزمة شخصية وعاطفية، لكنها في نهاية الأمر أزمة إبداع ترتبط بهجمة الفنون الآلية الحديثة والخطر الذي تشكله على الذوق الجمالي القديم. الى أين تمضي وإلى أين تمضي بنا فنون العصر وابتذاله؟ ذلكم هو السؤال الذي لا ينفك آيشنباخ يطرحه على نفسه، وقد استبد به منذ وصوله الى البندقية توق قوي لكل ما هو مطلق الجمال وكلاسيكي. والحقيقة ان المدينة لن تخيب أمله كثيراً أول الأمر، ولا سيما منذ اللحظة التي تلتقي فيها نظراته بنظرات فتى مراهق هو ابن أسرة بولندية ارستقراطية تقوم برحلة استجمام الى البندقية. ومن فوره يدرك آيشنباخ، مدى ما في تعابير وجه هذا الفتى من جمال ووسامة وعمق تجعله يبدو بالنسبة إليه كناية عن الجمال المطلق الذي يبحث عنه منذ فترة. ومن هنا يصبح الفتى ونظرته إليه، أملاً للعيش ووسيلة للتمسك بالقيم الجمالية حتى وإن أثار هذا الجانب الأساسي من الفيلم كل ضروب سوء التفاهم، إذ فهم على انه رغبة جنسية أو عاطفية مثلية استبدت بالموسيقي إزاء المراهق... قد يكون هذا صحيحاً، ولكن في شكل هامشي للغاية، وفي تأويل ظاهر، أما في عمق الأمور فإن المسألة لا تتعدى التمسك من جانب آيشنباخ، بفكرة الجمال المطلق التي صار الفتى يمثلها بالنسبة إليه. المهم في الأمر إذاً هو ان صورة الفتى تادزيو تتضافر مع جمال المدينة، فيمضي آيشنباخ، وقته على الشاطئ ناظراً الى الفتى حيناً مترقباً نظرة منه، متذكراً في أحيان أخرى حوارات مع أهله وأصدقائه حول الفن والعصور الحديثة. غير ان المدينة سرعان ما تبدأ بإبراز جانب الموت والقباحة، حين تصاب بداء الكوليرا، ويبدأ الموتى والمرضى يتساقطون يومياً، ما يفقد المدينة كل جمالها. في البداية لا يتنبه آيشنباخ الى هذا الأمر كثيراً، طالما ان الفتى يبقى أمامه رمزاً لجمال يمكن التمسك به. غير ان الأمور لا تبقى في هذا الإطار، ولعل في وسعنا هنا ان نشير الى مشهد/ مفتاح في الفيلم، لا يعكس فقط ذهنيته، بل عوالم فيسكونتي الفكرية كلها: ذات لحظة، وفيما كان آيشنباخ يراقب الفتى وهو يلهو على الشاطئ مع رفاقه، وهو كعادته متألق دائماً غامض دائماً، موارب النظرة والفكر، يحدث ان يتغلب واحد من رفاقه عليه في المصارعة: إنها المرة الأولى التي يرى فيها آيشنباخ فتاه مهزوماً أمامه فينظر إليه بخيبة أمل، في اللحظة نفسها التي يسيل فيها على جانبي وجهه صباغ شعره، وكما نفهم بفعل حرارة جسمه الذي، في غفلة منه، كان أصيب بدوره بوباء الكوليرا. هنا، وانطلاقاً من وجهة نظر آيشنباخ المتألم والملتاع تثبت الصورة السينمائية نقاءها على آلة تصوير فوتوغرافية موجودة عند الشاطئ. والمعنى واضح: ان وباء البندقية، وهزيمة نادزيو في المصارعة، ومرض آيشنباخ، ثم موته إنما هي إشارة الى حلول الأزمان الحديثة، أزمان الواقع بعيداً من خيالات الجمال المثالية. والكاميرا الفوتوغرافية هي هنا لقول هذا بالتحديد. طبعاً، هذه الكاميرا لا وجود لها على هذه الشاكلة في رواية توماس مان الأصلية، لكن الدلالة حاضرة: الدلالة التي رسمت دائماً أزمان كبار كتاب الجمال المطلق من أمثال توماس مان ومبدعيه من أمثال فيسكونتي، أمام هيمنة الحداثة، والميكانيكية منها خصوصاً ما يحيل طبعاً الى دراسة شهيرة كتبها والتر بنجامين، في الزمن نفسه الذي كتب فيه مان روايته هذه، حول مصير الفنون والآداب في زمن اعادة الإنتاج الميكانيكية للنتاجات الفنية، ما يجعلها في متناول الجموع بعدما كانت دائماً، فنوناً للخاصة. ونحن نعرف ان لوكينو فيسكونتي إنما عبّر في هذا المشهد بالذات عن تلك الأمور التي دائماً ما شغلت باله، ولكن من دون أي نفحة رومانسية تطالب، ولو رمزياً، بإلغاء الحديث لمصلحة القديم الجميل. إن الواقع يقول لنا ان ليس في وسع أحد إيقاف التقدم. وحتى الفن مهما بلغ به الخيال لا يمكنه هذا، وإلا لأصبح خارج الزمن. فما العمل؟ نصور حلول الحديث محل القديم، بجمال مطلق، أي نؤقلم الفن المنتمي الى الزمن الراهن، مع متطلبات هذا الزمن، انطلاقاً من اعتبار القول الفني في هذا المجال، من ناحية، فعل احتجاج، ومن ناحية ثانية فعل أمل. والحقيقة ان هذه الفكرة هي التي هيمنت دائماً على سينما فيسكونتي، وجسدها بخاصة في هذا الفيلم. وقد يكون من المفيد هنا ان نذكر ان هذه الفكرة ما كان من السهل تقبلها بالنسبة الى كل الرقابات، ومنها طبعاً الرقابة الأميركية التي كانت على وشك ان تمنع عرض الفيلم، عام إنتاجه 1971، لولا انه عرض في الوقت نفسه، في لندن تحت رعاية الملكة اليزابيث الثانية، التي صفقت طويلاً للفيلم، فيما كان العارضون يجمعون في الوقت نفسه تبرعات من اجل اعادة ترميم مدينة البندقية نفسها. وهكذا أسقط في يد الرقابة الأميركية ولم تعد قادرة على منعه. ولوكينو فيسكونتي 1906- 1976، كان واحداً من كبار المخرجين الإيطاليين، في السينما وأيضاً في المسرح والأوبرا، وهو من عائلة نبيلة، لم تمنعه أرستقراطيتها من الانخراط باكراً في الفكر الشيوعي. وهو درس السينما في فرنسا على يدي جان رينوار الذي قدمته إليه كوكوشانيل، ثم عاد الى ايطاليا ليؤسس"واقعية جديدة"سرعان ما تخلى عنها ليحقق افلاماً قاسية اجتماعياً، مملوءة بالجماليات أخذ معظمها عن أعمال أدبية:"الفهد"عن لمبدوسا،"الغريب"عن ألبير كامو،"الأرض تهتز"عن فيرغا،"الليالي البيضاء"عن دوستويفسكي، إضافة الى فيلمه الأخير"البريء"عن دانوتزيو. [email protected]