"تلك المرأة" يقولون عنها باشمئزاز ويرفقن القول بحركة طاردة من اليد. بنظرهن هي لا تستحق حتى تسميتها، وعندما يتحدثن عنها يكفيهن أحياناً الإشارة إليها ب"هي"فيعرف السامعون من المعنية بالكلام. إنهن النساء الاميركيات الليبراليات واللواتي يعرفن عن أنفسهن ب"التقدميات". أما هي، فحاكمة ولاية ألاسكا سارة بايلن المرشحة الجمهورية لمنصب نائب الرئيس. وسواء كانت الواحدة منهن من رائدات الحركة النسوية في ستينات وسبعينات القرن الماضي، أو من الجيل الشاب المنخرط في قضايا عصره، إلا أنهن جميعاً غير مستعدات للتنازل عن المكتسبات التي حققنها ويطمحن لتحقيق المزيد منها. وتحمل كلمة"تقدمي"في واشنطن معاني مختلفة عن تلك الراسخة في وعينا العربي الذي التصق التعبير فيه ببعض الأحزاب والمنظمات في فترة من الفترات. فمن"التقدميين"و"التقدميات"هنا مثلاً المناهضون للعولمة بشكلها الحالي، والمدافعون عن حقوق الإنسان أو البيئة، أو ناشطون سياسيون مؤيدون للقضية الفلسطينية أو مناهضون للحرب على العراق أو دعاة إغلاق معتقل غوانتانامو، ويضاف إليهم المدافعون عن الحريات المدنية داخل أميركا. وباختصار فإن كل ما يخرج عن سياق المؤسسة الرسمية و"المدرسة البوشية"المحافظة يطلق عليه وصف"تقدمي". فتجد مثلاً مقهى تقدمياً يطرح إلى جانب لائحة الطعام والقهوة التي تحمل علامة"التجارة العادلة"بمعنى أنها لا تستغل مزارعي البن وعماله، كتباً وإصدارات تنتقد الإدارة الحالية، وهناك صالات سينما تقدمية تعرض أفلاماً لا تنتجها ثقافة هوليوود، ومتاجر ثياب لا تستغل فقر الأطفال الآسيويين وحانات ونواد وغيرها. وفي هذا السياق الثقافي العام الذي بدأ يعبر عن نفسه بوضوح في الآونة الأخيرة، والذي يشبه إلى حد بعيد فترة ما بعد حرب فيتنام، تندرج الناخبات المعارضات لسياسات الجمهوريين تقليدياً ولما حملته المرشحة الجمهورية سارة بايلن من صور عن المرأة الأميركية ودورها سواء في البيت أو في الحيز العام. تينا محامية شابة ولدت وترعرعت في نيويورك تقول عن بايلن إنها"خطيرة". وتضيف:"أنا فعلاً أخاف على نفسي لو فازت، إذ عندها سأشعر بالإحباط لأن بايلن ستكون النموذج النسائي الي يجب أن تطمح إليه الأميركيات". ولا توفر تينا وصديقاتها نعتاً إلا ويلصقنه ببايلن. فهي تارة"مجنونة"وطوراً"رجعية"وغالباً"غبية". أما اللقب الذي أطلقه عليها شريكها في السباق الرئاسي جون ماكين بأنها"ديفا فعلية"أو أسطورة، فلم يساعد إلا في إطلاق مزيد من النكات عليها، لم توفرها حتى شاشات التلفزة ومقالات الصحف. وتقول تينا:"لطالما ارتبط لقب ديفا في أذهاننا بالمرأة القوية والجذابة في آن، تلك التي تجمع بين الذكاء والفتنة والغموض كنجمات أفلام الأسود والأبيض اللواتي تحلو مشاهدتهن ولكن ما عدن يشبعن غرورنا. أما هذه الريفية فكل ما تحركه فهو غرائز الرجال". هكذا إذن... انها غيرة نسائية! في الواقع لا. هي ليست كذلك، فمن يعتقد أن الشابات الأميركيات يغرن من بايلن يبسط العلاقة بينهن وبينها الى حدها الأدنى. فعندما تم الإعلان عن ترشيحها كان هناك خوف فعلي من إمكان حصولها على أصوات هيلاري كلينتون لمجرد كونها امرأة وتوقع كثيرون أن تلتف حولها النساء من باب التضامن مع بنت جنسهن. لكن هؤلاء الناخبات خالفن التوقعات، ولم يفوّتن فرصة سواء في الإعلام أو المدونات أو التجمعات إلا وحاربنها وسخرن منها. فقبل أيام قليلة من عيد"الهالوين"، الذي يقيم له الأميركيون حفلات تنكرية ويستعدون له قبل أسابيع، كان القناع الذي يمثلها الأكثر مبيعاً."حتى قناع كوندوليزا رايس وفي أسوأ أيام الجمهوريين لم يلق كل هذا الإقبال"قال صاحب متجر لبيع الأزياء التنكرية والتذكارات في الحي الصيني في واشنطن. واللافت أن الرجال الليبراليين و"التقدميين"لم يصدر عنهم هذا الكم نفسه من الغضب تجاه بايلن. وهم في أقصى الحالات يقولون أنها غير مؤهلة لهذا المنصب وبدرجة أقل لمنصب الرئاسة. وقد يضيفون أن اختيارها هو الخطأ الاكثر فداحة الذي ارتكبه جون ماكين لكنهم لا يأخذون سارة بايلن على محمل الجد كما تفعل النساء، ولا يعتبرون ترشيحها أمراً شخصياً يمسهم في الصميم. لا بل قد يعترف لها احدهم أنها امراة جميلة ووفقت بين كونها أماً وسيدة عاملة في مجال غير سهل هو السياسة. وذلك ليس منة من أحد. فسارة بايلن نجحت إلى حد بعيد في حل المعضلة الأساسية التي تواجه المرأة العصرية وهي التوفيق بين مهنتها وأسرتها. وفي حين تكتفي غالبية النساء العاملات اليوم بولد أو ولدين كحد أقصى، أنجبت بايلن 5 أطفال، وارتقت السلم الاجتماعي والمهني كأي أميركية طموحة، محققة بذلك الحلم الأميركي بامتياز. فأي مراهقة أميركية متوسطة تحلم بأن تنتخب ملكة جمال ولايتها، وان تتزوج شاباً وسيماً وتنجب منه أطفالاً. أنها سندريلا فعلية فكيف إذا أضافت إلى كل ذلك مهنة سريعة في المجال السياسي؟ بايلن حققت ذلك كله وكانت لتشكل نموذج نجاح نسائي إلى حد بعيد. لكنها عملياً فشلت في إرضاء بنات حواء. تجد إيلايزا وهي كاتبة وشاعرة مقيمة في واشنطن إن بايلن تمثل الريف الذي يشكل الانتماء إلى المدينة الكبيرة بالنسبة إليه حلماً قد لا يتحقق دائماً، لكنه في الوقت نفسه إذا حدث وحققه فهو يريد فرض مبادئه وقيمه على سكانها. وفي كلام بايلن عن واشنطن لا يمكن إلا استشفاف هذه النزعة. فالعاصمة هي المكان الفاسد والكاذب، حيث تجري الأمور بالخداع والتلاعب والعلاقات الشخصية أحياناً، وبهذا المعنى تفتقر المدينة إلى طهرانية الريف ونقائه وحسن نيات أبنائه. لذا سألت بايلن الحشود التي جاءت تحييها وقد بالغت في الغمز والضحك والكلام بلهجة تكاد تكون سوقية"إذاً، هل سترسلوننا إلى واشنطن لنغيّر من الداخل؟". هذا كلام"يرعب"تينا. تقول:"فعلاً هذه المرأة خطيرة إذا وصلت إلى سدة القرار. ليس لأننا مدافعون عن قيم الفساد ولكننا مؤمنون بالتغيير عبر القنوات السياسية وعبر نخب ثقافية وليس عبر الطهرانية والشعبوية". وبهذا المعنى يشكل المرشح الديموقراطي باراك أوباما نموذجاً ناجحاً. فهو بالنسبة إلى هؤلاء ابن طبقة وسطى، تلقى تعليماً عالياً في جامعات النخبة، ومقاربته للعالم تبعد أكثر من شرفة منزله. ولا يشفع لبايلن أنها ثرية ومتحدرة من أغنى ولاية في أميركا، فذلك برأي إيلايزا هو مثال عن حديثي النعمة الذين لا يتغير في حالهم شيء إلا قدرتهم المطردة على الاستهلاك."والدليل المبلغ الهائل الذي صرفته على ملابسها"تضيف إيلايزا"في حين أن خطابها لا يساوي فلساً". وإذا كانت المرأة في ألاسكا تعتبر نداً للرجل في تلك البيئة الجبلية الوعرة، التي تغطيها الثلوج غالبية أشهر السنة، فذلك لأنها تقوم بمهام كثيرة مع الرجل جنباً إلى جنب. إنها القوة الجسدية التي تتباهى بها تلك المرأة القادرة على جرف الثلج من أمام منزلها، وزراعة بعض البقوليات لمواسم الشتاء وإنجاب أطفال أصحاء وأقوياء. تلك المرأة لا تحاكي طموح النساء المدينيات اللواتي يبحثن عن أدوار متكلفة أكثر ومعقدة أكثر تتطلب جهداً ذهنياً وفكرياً. ولعل اللافت في هذه الانتخابات ان هذا الرأي لا يقتصر على الناخبات الديموقراطيات وحدهن بل انضمت إليهن بعض الناخبات الجمهوريات اللواتي قررن، وللمرة الأولى التصويت للديموقراطيين مباشرة بعد ترشيح بايلن. جانيت واحدة من هؤلاء. هي امرأة ثلاثينية بيضاء، تعمل في مكتبة عامة وطوال حياتها كانت تنتخب الجمهوريين، لكنها جاءت منذ فترة وقد وضعت على ياقتها"دبوساً"يحمل شعار"انتخب الديموقراطيين". أثار ذلك الاستغراب، لكن جانيت بررت خيارها بالقول إنها لم"تر نفسها في قاعدة بايلن". فالنساء اللواتي ذهبن يهتفن لها"إلى الأمام يا فتاة"لا يشبهنها ولا تشبههن. ورأت جانيت التي تقرأ غالبية الكتب التي تصلها قبل رصفها على رفوف المكتبة إنها تريد لنفسها ولصورة المرأة الأميركية أكثر من ذلك بكثير. وأن"نائب رئيس يغمز ويهرج ويشبه ناخبيه إلى هذا الحد هو بالتحديد ما لا تريده". والواقع أن الرد على المرشح الجمهوري جون ماكين، لم يأت على الدرجة نفسها من الحدة والاستهزاء من قبل النساء أنفسهن. بل ردوا عليه بمستوى كلامي أرفع وأكثر ذكاء من الذي توجهوا فيه إلى بايلن، حتى في وسائل الإعلام. فثمة إعلان تلفزيوني يصور نساء أميركيات بألوان مختلفة ومهن مختلفة وأعمار مختلفة، جمع بينهن الراتب الذي يقل عن راتب زملائهن الذكور في الوظائف نفسها التي يشغلونها. وينتهي الإعلان باقتباس من ماكين بعد رفضه قانوناً لمساواة الأجور يقول فيه:"النساء أقل خبرة من الرجال وهن بحاجة لتدريب مهني أكثر". إعلان آخر عن سرطان الرحم وسرطان الثدي وتبرؤ ماكين من مسؤولية الدولة تجاه مواطنيها في ما يتعلق بالضمان الصحي والبحوث العلمية. تلك الردود لم تحظ بها بايلن، بل ما لعب ضدها تماهيها المطلق مع أبناء وبنات طبقتها الاجتماعية وشعبويتها المفرطة التي ترعب نساء المدن المتكلفات.