منذ انطلاق السينما والتلفزيون قبيل منتصف القرن العشرين بقليل فرضت المرجعيات الدينية على أرباب هذه الفنون عدم إظهار شخصية الرسول محمد صلعم مجسدة على الشاشة وذلك لاستحالة التشبه به خلقاً وخُلُقاً من قبل أي ممثل. وشمل ذلك تحريم إظهار والدي الرسول وبعض كبار الصحابة كالخلفاء الراشدين الأربعة ومعاوية بن ابي سفيان وجعفر الطيار وسواهم، وبذلك اقتصر أداء أبطال المسلسلات الإسلامية وهم من كبار الممثلين العرب في السينما والتلفزيون على أدوار الشخصيات الثانوية في التاريخ الفعلي. يظهر خالد بن الوليد أسلم لاحقاً في احد المسلسلات العربية التاريخية الأسطورية بعد ان هزم جيش المسلمين في أُحُد وكأنه نادم لا يكاد يرفع رأسه عن الأرض من شدة الحزن والألم والخزي بينما بقية فرسان قريش يقصفون ويعربدون ابتهاجاً بالنصر، وهذه قمة السخرية والضحك على عقل المشاهد، أليس من المنطق الفني والواقعي ان يكون ابن الوليد وهو صانع هذا النصر أكثرهم زهواً وابتهاجاً وهو المشرك السابق الشديد على المسلمين كما هو ثابت في التاريخ؟! ويظهر ابو لهب لم يسلم قط في مسلسل آخر في المرحلة التي سبقت ولادة الرسول محمد كنموذج سيئ وشرير لا خير يُرجى منه على عكس ما يروي التاريخ عنه من نصرته الرسول بعد وفاة ابي طالب، فيما يكون أبو سفيان أسلم في ما بعد وهو سيد مكة وأشد الناس على الرسول، أقل شراً ومكراً وأكثر حلماً ومهابة ووقاراً. ولئلا يكون الكلام عاماً لنناقش مسلسلاً بعينه عرض في رمضان الماضي على أكثر من قناة فضائية وهو مسلسل"قمر بني هاشم"من تأليف وسيناريو وحوار محمود عبدالكريم نقلاً عن 300 مرجع! وإخراج محمد شيخ نجيب ومن إنتاج قناة"ساهور"الفضائية السودانية بتكلفة تزيد على المليوني دولار ومشاركة نحو 220 ممثلاً من أكثر من بلد عربي. مسلمون قبل الإسلام لن نتعرض لمتن القصة لأنها لم تخرج، ولا يمكنها، عن نطاق السيرة النبوية الشريفة المتعارف عليها ولم يزد إبداع الكاتب على بعض الرتوش في السيناريو من خلال بعض الإضافات على الحوار الوارد وبعض التفاصيل الصغيرة على الأحداث المروية في كتب التاريخ. منذ بداية المسلسل، أي قبل مبعث الرسول بأربعين عاماً يظهر جده عبدالمطلب وعمه أبو طالب وورقة بن نوفل كمسلمين حقيقيين وذلك من خلال كلامهم وسلوكهم في المسلسل، فيما يظهر أبرهة الحبشي، القادم لغزو مكة وهدم الكعبة، كنموذج بدائي للشر وكملك أسود غبي لم يتعظ مما روي له عن قصم الله للجبابرة من قبله الذين راموا الكعبة بشر، وبالطبع كطاغية لا يحمل شيئاً من أخلاق المسيحية وهو الذي يصرّح في المسلسل انه على دين المسيح. ألا يذكركم ذلك بالصورة التقليدية البائسة والمكرورة لبني إسرائيل في المسلسلات ذاتها يظهرون كخفافيش قبيحة لا تتقن سوى التآمر وللعثمانيين في المسلسلات الشامية دمى بشوارب طويلة تتكلم عربية ركيكة؟! جميع الأقوام والطوائف والمذاهب وأهل الديانات في المسلسل يعلمون بقرب ظهور نبي كما يوضح لنا التاريخ المدرسي وكاتب السيناريو معاً رقية بنت نوفل ? خديجة بنت خويلد ? سيف بن ذي يزن في اليمن ? اليهود في المدينة ? المجوس في بلاد فارس... ومع ذلك فما ان اعلن الرسول نبوته حتى كذّبه أقرب الناس إليه نسباً ومكاناً عمه أبو لهب وأبى عمه الآخر أبو طالب وابن عمته عاتكة ان يتبعاه، وكذلك عماه الآخران حمزة والعباس لم يكونا من السابقين في الإسلام بل إن قريشاً، وهم أهله الأقربون، لم يدخلوا الإسلام إلا تحت ظلال السيوف بعد فتح مكة. أليس من الأجدى التدقيق في روايات المؤرخين في شأن ما سبق ظهور النبي من تنبؤات تفوق حدود المعقول، ولعل البحث يثبت ان أكثرها موضوع بعد ظهور الإسلام. الرسول الطفل كان محور المسلسل من أوله الى آخره الى درجة غير تاريخية وغير منطقية، على الأقل في بداية المسلسل، ومع إهمال وتهميش لوقائع تلك الفترة التي لا دخل للرسول بها على قلة ما يُعرف عن الرسول إبان مولده وصباه، ولكن الخيال الشعبي والعاطفة العقائدية لا يعجزان عن تخصيب ذلك القليل ونسبة السابق واللاحق الى الشخصية الرئيسة حتى تحوله الى جبل من المرويات لا يحيط به التاريخ كله على اتساعه. ليس في المجتمع المكي شيء من مظاهر الأخلاق والعادات البدائية التي قرأناها في كتب التاريخ وجاء الإسلام لتصحيحها أو إبطالها فما من مكي كاذب ولا غشاش ولا جبان ولا بخيل ولا وائد للبنات ولا متعامل بالربا ولا امرأة مزواج او عاهرة أو ساحرة، فعلى من نزل الرسول إذاً؟، وبأية أخلاق مغايرة جاء ما دام القرشيون بل وأحلافهم جميعاً على هذه الدرجة الرفيعة من الأخلاق؟ أما الخطاب الذي تتعامل به شخصيات المسلسل فهو الخطاب الذي لا يعرف كاتب السيناريو سواه، أعني الخطاب الإسلامي المعاصر ذاته بمفرداته كلها من دون نقصان وبشكله الذي عرضته علينا السينما في بداياتها. في مقطع آخر ثمة مفارقة تاريخية وقع فيها المؤلف: يظهر عبدالله بن مسعود وسعد بن ابي وقّاص وأبو ذر الغفاري وآخرون من المسلمين الأوائل في مرحلة الدعوة السرية في مكة يتحدثون عن الرسول، وكلما ذكروا اسمه الشريف ألحقوا به عبارة صلى الله عليه وسلم المعروفة عند جميع المسلمين من دون استثناء، لكن الذي لا يعرفه الكثيرون هو ان هذه العبارة لم يجر تداولها على الألسنة إلا بعد نزول آية قرآنية هي إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً من سورة الأحزاب وهي كما هو ثابت من تاريخ القرآن سورة مدنية. يتصرف الممثلون المشركون بأدب جم مع رسول الله مراعاة للنظّارة المسلمين في القرن الحادي والعشرين وليس لواقع الحال في القرن السابع الميلادي فترى عُتبة وشيبة وأبا سفيان وأبا الحكم وسواهم يتوجهون الى الكاميرا فنفهم من هذه الحركة انهم في مواجهة الرسول ويكون رد الرسول الكريم عبر ممثل وسيط دائماً وعلامات الخشوع والرهبة تصبغ وجوههم! وحين يتكلمون ويحاجّون المسلمين الأوائل وهم من ضعاف قريش لا تسمع سوى بعض الأعذار الواهية والحجج المتهافتة التي لم تكن لتليق بجحاجح قريش ودهاتها في ذلك الزمان. في الحلقة الثانية عشرة يقول الوليد بن المغيرة للقرشيين وقد سمع بعض آيات القرآن من الرسول:"والله ما هو بشاعر، قد عرفنا الشعر بزجره وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه فما هو بالشعر"، علماً ان هذه التفاصيل في فن الشعر ابتدعها الخليل بن أحمد الفراهيدي 100 ? 173ه أي بعد الوليد بن المغيرة بقرن ونصف القرن. وفي الحلقة العشرين يرتقي الصحابي عبدالله بن مسعود منبراً ويعلن ان الله أمر بالصيام مضيفاً من عنده ان ذلك في السنة الثانية من هجرة رسول الله الى المدينة، يعني قبل معركة بدر والمعلوم ان ابن مسعود وسواه من الصحابة لم يكونوا على علم بعد بتاريخ اسمه التاريخ الهجري لأن المسلمين لم يعتمدوا هذا التأريخ إلا في عهد عمر بن الخطاب الخليفة الراشدي الثاني أي بعد نحو عقدين من السنوات. أظن ? وبعض الظن اثم ? ان الغاية الحقيقية من وراء هذا اللهاث خلف تاريخ الإسلام فضائياً هو الكسب المادي المضمون وهو أول أهداف رأس المال وأن السياسة العامة التي تخطط لها الجهات الواقفة خلف إنتاج مسلسلات كهذه هي تدريب المواطن العربي والمسلم على التقبل السريع للمرويات الدينية والتاريخية من دون تمحيص. يا كتبة السيناريوات الإسلامية في الفضائيات العربية نرجوكم ان تترفقوا بعقولنا ويكفينا ما تلاقيه من المتشددين.